الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.
قال الشيخ/ خالد بن عثمان السبت، زاده الله تأييدًا وتسديدًا، وهداية وتوفيقًا، في كتابه الذي أسماه: مختصر في قواعد التفسير، تحت المقصد الثاني: طريقة التفسير، قال: قاعدة: لا يجوز حمل ألفاظ الكتاب على اصطلاح حادث.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه القاعدة ذكرتها في ثنايا الشرح سابقًا في بعض المناسبات، ولعلها اتضحت هناك، وذلك أن هذه القاعدة مرتبطة بالقاعدة الأخرى، وهي: أنه تحمل نصوص الكتاب على معهود الأميين في الخطاب، فلا يجوز حمل ألفاظ القرآن على اصطلاح حادث، وذلك أنه خلاف معهود الأميين، وهذا يحتاج إليه كثيرًا في التفسير، وحتى في شرح كلام رسول الله ﷺ، وفي استخراج الأحكام الشرعية، وبعض الذين يتكلمون في الإعجاز العلمي أحيانًا يأتون من هذه الناحية، فعلى سبيل المثال: في قول الله -تبارك وتعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7-8]، الذرة في معهود الأميين هي: صغار النمل، فلو أننا بقينا على هذا لاسترحنا وأرحنا، وقلنا: بأن الذرة المقصود بها، والعرب تذكر الذرة، وهي: صغار النمل، وتعبر به عن الشيء الصغير، والذين حملوا الذرة على اصطلاح حادث في القرن الماضي، حينما كانت معطيات العلم ونظرياته تقول: بأن أصغر جزء في العالم هو: الذرة، أصغر جزء في هذا الكون هو: الذرة، هؤلاء يقولون: إن الذرة المقصود بها ليست صغار النمل، وإنما هذا الجزء الصغير المكون من سالب وموجب، ينتج عنهما شحنة كهربائية، فقالوا: هذا دل عليه القرآن، وهذا من إعجاز القرآن، حيث إنه قرر هذا المعنى الذي لم يكتشفه العلم إلا في هذا العصر، قرره قبل أربعة عشر قرنًا، وحملوا الذرة على هذا المعنى، وملأوا الدنيا بكتاباتهم، وكلامهم، ومحاضراتهم، ثم جاءت دراسات جديدة تكتشف تحطيم الذرة، وأن هناك ما هو أصغر من الذرة، فهؤلاء ماذا سيقولون بعد ذلك؟ هل يقال: القرآن خطأ؛ لأنه ذكر الذرة، مع أن الآية ليس فيها ما يصرح أصلاً بأن الذرة هي: أصغر شيء، ولكن هؤلاء أبوا إلا حمل ألفاظ القرآن على هذا.
فأقول: لو أنهم بقوا على هذه القاعدة أو على مقتضاها، وقالوا: الذر هو: صغار النمل، ولا شأن لنا بأصغر جزء في الكون، هل هو الذرة أو ما هو أصغر من الذرة؟ وبقي القرآن سالمًا من أن يُحمَّل ما لا يحتمل.
وقل مثل هذا في الكلام على المصطلحات عند الفقهاء، وعند غير الفقهاء، المصطلحات العامة والأعراف، حينما يقال: مثلاً: الفرض، فالفرض عند المتأخرين في اصطلاح الفقهاء، هو: الواجب، وعند بعضهم كالأحناف، هو: ما ثبت بدليل قطعي، يعني: ليس الواجب فقط، بل ما ثبت بدليل قطعي، هذا الفرض، لكن في معهود الأميين، في لغة القرآن، لا يراد به هذا دائمًا، أحيانًا يطلق الفرض على: البيان، وأحيانًا على: الإنزال، وأحيانًا يطلق على: الإيجاب، وأحيانًا يطلق على: الحِل، وانظر الآيات التي ورد فيها لفظ الفرض، انظر مثلاً: في كتاب المفردات للراغب؛ لأنه يجمعها، فستجد هذه المعاني، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:2]، ما معناه؟ معناه: قد أحل الله لكم تحلة أيمانكم، فحمله على الواجب هذا من باب الحمل على اصطلاح حادث، وكما قلنا: مثل: القرية، إذا حملت على مجمع البنيان الصغير، كما هو عرف الناس اليوم، بينما هي في لغة المخاطبين بالقرآن تدل على: هذا المعنى، وعلى غيره مما نسميه اليوم بالمدينة، فإذا قال الله : تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا [الأعراف:101]، فمعنى ذلك: أن هذه أمم وعواصم أهلكها الله -تبارك وتعالى؛ ولعل هذا يكفي في بيان هذه القاعدة.
قال: قاعدة: القرآن عربي، فيسلك به في الاستنباط والاستدلال مسلك العرب في تقرير معانيها.
العرب كيف تستعمل الألفاظ؟ وكيف تركب الكلام؟ وكيف تبين عن المعاني؟ فينبغي أن يسلك فيه مسلك العرب في تقرير معانيها، وإلا فإن ذلك يكون من قبيل العجمة، يعني: إن لم نسلك مسلك العرب، فإن ذلك يكون من قبيل العجمة في التفسير، والفهم، وحمل الكلام على معاني لا تريدها العرب من هذا الخطاب، ولا تقصدها، ولا تخطر لها على بال، انظروا مثلاً: إلى قوله -تبارك وتعالى- في وصف البقرة التي أمر بني إسرائيل بذبحها: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [البقرة:69]، فإذا نظرتم إلى أقوال المفسرين في قوله: بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا، هنا قال: بقرة، وذكر اللون، وهو: صفراء، ووصفه بالفقوع، فهذه ثلاثة أمور، فبعض المفسرين قال: إن المقصود بقوله: صَفْرَاءُ، أي: سوداء، قال: سوداء، وهذا التفسير يعد من الغلط؛ لأنه لم يرَاعى فيه طريقة العرب في تقرير المعاني، كيف يقررون معانيهم؟ ما روعي فيه ذلك، كيف يكون هذا؟ العرب ما تقول صفراء في ألوان البقر، وتقصد به: السواد، أبدًا، إنما إذا قالوا: صفراء في الألوان، فيقصدون به الإبل خاصة فقط، فحينما يصف الشاعر الإبل التي في حوزته، أو الإبل التي يملكها، يقول:
تلكَ خيلي منه وتلكَ رِكابي | هنَّ صُفرٌ أولادها كالزَّبيبِ. |
فصفر يعني: سود، التي نسميها اليوم بالمجاهيم، فقوله: "هن صفر أولادها كالزبيب" يعني: بين بين، فهذا يقال: في صفة الإبل، أما البقر فإذا قيل فيها: صفر، أو صفراء، فهي: الصفرة المعروفة، لا سيما أنه ذكر بعد ذلك، ووصف هذه الصفرة بالفقوع، والسواد لا يوصف بالفقوع، وإنما الذي يوصف به الصفرة، فيقال: أصفر فاقع، أما الأسود فإنه يقال فيه: أسود حالك، وأسود حانك، وأسود غربيب، ويقال فيه: أسود حلكوك، وأسود دجوجي، فهذا الأسود، فالعرب هكذا تعبر إذا أرادت أن تصف السواد بأنه سواد شديد، ولا يقولون: سواد فاقع، فإذا قيل: أسود فاقع، فهذه عجمة، لا يوجد أسود فاقع، بل أصفر فاقع، فإذا رأيت أحد يقول: أسود فاقع، فهذا مثل الذي يتكلم بلون من الأعجمية.
وفي قوله -تبارك وتعالى- مثلاً: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، أتموا: قد يأتي إنسان لا يفهم طريقة العرب في تقرير المعاني، وعنده عجمة، ويقول في قوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ، هذا أمر بالإتمام، وليس أمرًا بالشروع، والابتداء، فالحج والعمرة غير واجبة؛ كيف؟ قال: الله يقول: وَأَتِمُّوا، فإذا شرع فيها الإنسان وجب عليه الإتمام، مثل: إذا حلف يمين وجب عليه أن يُكفِّر، لكن قبل أن يدخل في الحج والعمرة لا يجب عليه أن يحج وأن يعتمر، من أين فهمت هذا؟ قال: الله يقول:وَأَتِمُّوا، وما قال: حجوا، فنقول له: العرب كيف تقرر المعاني؟ هذا الكلام خاطب الله به من خاطب في زمن تنزل الوحي، أولئك الذين خاطبهم ما كانوا يترددون ولا يشكون ولا يجادلون في وجوب الحج، فقد عرفوا ذلك، وهو: مقرر عندهم، وكان الحج موجود في الجاهلية، فهو: مما بقي عندهم من ملة إبراهيم ، لكن كانوا ينقصون من حجهم، ويقتصرون فيه على بعض أعماله، كيف؟ مثلاً: كانت الحمس، وهي: قريش ومن ولدت، إذا ذهب الناس إلى عرفة، بقوا هؤلاء عند حدود الحرم، نهاية مزدلفة، ويقولون: نحن أهل الحرم ما نخرج، فلا يقفون في عرفة، وبقية الناس الذين جاؤوا من الآفاق يذهبون إلى عرفة، فالله يقول: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، فهذا يخاطب به من قصر فيه، ونقص منه، ولم يأت به على الوجه المطلوب، فخاطبهم بهذا؛ ولهذا قال الله -تبارك وتعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199]، قيل: إبراهيم ، وأن هذا من باب العام المراد به: الخصوص، وقيل: المراد به: عموم الناس الذين يأتون من عرفة، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199]، فأنتم تقفون عند حدود المزدلفة، ولا تذهبون إلى عرفة، وتقولون: نحن الحمس، بل الحج عرفة[1].
وهكذا حينما يقول الله : وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى [النجم:49]، فالشعرى نجم، فقد يأتي إنسان لا يعرف طريقة العرب في تقرير معانيها، وعنده عجمة، فيقول: في قوله:وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى [النجم:49]، ومن رب الثريا والقمر والشمس؟ فهذا يقال له: الجواب: كم بلغ سعر الحنطة؟ فهذا الجواب الذي يقال له؛ لأنه أعجمي في فهمه، فلما كان بعض العرب يعبدون الشعرى قال الله لهم: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى، وإلا فالله رب المشرق والمغرب، فإن أمعن في عجمته، قال: الله رب المشرق والمغرب، ورب المشرقين والمغربين، ورب المشارق والمغارب، ومن رب الشمال والجنوب؟ العرب تذكر المشرق والمغرب وتقصد به العموم، تقول: ملك مشارق الأرض ومغاربها، فما يأتي إنسان أعجمي، ويقول: والشمال والجنوب، فالعرب هذه طريقتهم في تقرير معانيها، تذكر الطرفين وتقصد بذلك الجميع، ولذلك نحن نحتاج إلى أن نتعلم من العربية ما لربما يحتاج أن يتعلمه الأعاجم؛ ولهذا قال الشاطبي -رحمه الله: بأنه لا يجوز أن يستنبط من هذه الشريعة، وأن يتكلم في معانيها، إلا من كان عربيًا، أو من كان في منزلة العربي[2]، وهذا الكلام صحيح، فالأعجمي إذا درس دراسة تأهله إلى الاستنباط، فعندئذ يستطيع أن يتكلم على معاني القرآن، ويستنبط الأحكام، ويكون فقيهًا، وإلا فسيأتي بهذه العجائب، وهذه العجمة مشكلة؛ لأنه يقف عند الحرف الواحد؛ ولذلك كنت أعجب من بعض طلابنا في الجامعة الإسلامية يقرؤون، وطلاب علم أعاجم، فيقول: عندي أسئلة، فأنا أقرأ في فتح الباري وعندي أسئلة، أنا أظن أنه سيسأل عن جمل من العلم، وقضايا، فإذا هو يسأل عن حرف في فتح الباري، حروف، هذا الحرف كيف جاء؟ ما معناه؟ يا أخي! هذا يمكن أن يفهم من السياق، فهو واضح، يقول: لا، الحرف هذا هنا ما معناه؟ فهكذا الأعجمي، ولعل هذا يكفي.
قال: المقصد الثالث: القواعد اللغوية.
قاعدة: مهما أمكن إلحاق الكلام بما يليه، أو بنظيره، فهو: الأولى.
مهما أمكن إلحاق الكلام بما يليه، أو بنظيره، فهو: الأولى، هذه قاعدة صحيحة؛ من أجل أن يكون الكلام متسقًا، وإذا نظرتم في كلام ابن جرير -رحمه الله- في تفسيره، تجدون مواضع كثيرة من تفسير سورة البقرة، في ثنايا الحديث عن بني إسرائيل، أحيانًا تأتي قضايا خارجة، وهكذا في سورة الأعراف مثلاً، تجده في جميع هذه المواضع يقول: والمخاطب بذلك هم بنو إسرائيل، مع أن السياق لا يدل على هذا في نفس الآية، لماذا؟ قال: لأن الكلام قبله في بني إسرائيل، فإلحاق الكلام بنظيره، أو بما قبله، أو بما يليه، أولى[3]، فيرجح بهذا الاعتبار مثلاً، وإن كانت الأمثلة لا يوقف عندها، يعني: لا تتشبثون بالمثال، فالمثال للتوضيح فقط، فلا يشغلك المثال، ويشوش عليك القاعدة، إذا سلمت بالقاعدة ضع المثال الذي يروق لك؛ ولهذا العلماء -رحمهم الله- يذكرون أمثلة في الفقه، وفي غيره، وفي القضايا الأصولية، على مذاهب أخرى، لا يتبنونها، لكن من أجل التوضيح فقط؛ ولهذا قال في المراقي:
والشأن لا يعترض المثالٌ | إذ قد كفى الفرض والاحتمال |
فهو: يكفي للتقريب، فلا تعترض على الأمثلة إذا سلمت بالقاعدة، فعندئذ موضوع المثال سهل، فهنا مثلاً في قوله تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، في أسباب النزول صح أنها نزلت في الزبير وفي رجل من الأنصار، جاء في بعض الروايات: أنه حاطب ابن أبي بلتعة، في القصة المعروفة، لما اختلفوا على شراج الحرة، يعني: مسايل الماء في الحرة، والحرة معروفة: حجارة سوداء بركانية موجودة إلى الآن في المدينة، تحيط بها من ثلاثة جوانب، فاختلفوا على مسايل الماء، فمزرعة الزبير قبل مزرعة الأنصاري، فيأتي الماء على مزرعة الزبير أولاً، فالأنصاري يقول: أرسله، يعني: لا تحجز الماء عندك، بل اجعله مباشرة ينساب إلى مزرعتي، فلما اختصموا إلى النبي ﷺ، قال له: اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك، وهذا الحكم ليس فيه ما يوفي حق الزبير، بل فيه الإحسان إلى الأنصاري، وإنما الأصل: أن الذي يأتيه أولاً الماء يسقي حتى ينتهي، حتى يغرق مزرعته، ثم بعد ذلك يرسل الماء، فالنبي ﷺ قال له: اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك، فقال الأنصاري: أن كان ابن عمتك، يعني: من أجل أنه ابن عمتك تقول له هذا الكلام: اسق يا زبير، فغضب النبي ﷺ، وقال: اسق يا زبير حتى يبلغ الماء الجدر، فأعطاه العدل الذي هو: حق للزبير فعلاً، اسق حتى يبلغ الماء الجدر، ما دام المسألة بهذا الشكل، وهذا الرجل اجترأ هذه الجرأة على النبي ﷺ، فنزلت: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ [النساء:65][4]، فهذا مثال.
وقد قلت سابقا: أن قولهم: نزلت هذه الآية في كذا، أنه ليس بصريح في سبب النزول، فلو تتبعنا الروايات الواردة في هذا، فستجدون عددًا منها فيها: نزلت هذه الآية في كذا، في الزبير، وهي: غير صريحة، وستجد في روايات قليلة ما يصرح بأنه هو: سبب النزول، فهذه فائدة عرضًا في شيء ذكرته سابقًا، فإذا أردت أن تقيد مثالاً على ما جاءت الروايات فيه بهذا وهذا، فهذا هو، وكما قيل:
العلم صيد والكتابة قيده | قيد صيودك بالحبال الواثقة. |
وجاء أنها نزلت في رجل من المنافقين، وآخر من اليهود، تحاكما إلى كعب بن الأشرف، أو إلى كاهن[5]، وابن جرير -رحمه الله- يقول: القول: بأنها نزلت في هذا المنافق، أولى من القول: بأنها نزلت في الزبير والأنصاري، لماذا؟ قال: لأن إلحاق الكلام بما يليه وبنظيره أولى؛ لأن الله قال في أول الآيات: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [النساء:60-61]، إلى أن قال الله : فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، فيقول: إن هذا الآيات: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ تتكلم عن المنافقين، فقال: إن هذا فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ تابع للكلام السابق، فهي: في المنافقين، وليست في الزبير[6]، والمقصود هو: المثال، وإلا فالرواية في أنها نزلت في المنافق مع اليهودي لا تصح من جهة الإسناد، وإذا كانت لا تصح، فيقال: سبب النزول هو: قصة الزبير، هذا عند التحقيق، لكن المقصود: توضيح القاعدة، ولها أمثلة كثيرة غير هذا، وليس العناية بالمثال، وإنما التوضيح فقط، وإلا حتى لو صحت الرواية: بأنها نزلت في المنافق مع اليهودي، فكما سبق، أنه إذا تقارب الزمان تكون الآية نزلت بعد الواقعتين، وإن تباعد يقال: تكرر النزول، فالمقصود: أن المثال المعين يمكن أن يعالج بعدة طرق، ولكن لا نشغل أنفسنا بالأمثلة، فينبغي أن يكون هذا واضحًا.
بل حتى في قصة أدم وإبليس في سورة البقرة، ابن جرير -رحمه الله- يقول: هذا من أجل اليهود ذكرها الله ؛ ليذكر لهم بداية الشر والانحراف والحسد[7]، مع أن السياق ما يدل على هذا، لكن المقصود هو: التوضيح فقط، لكنك لن تعجز عن أمثلة كثيرة تصلح لهذه القاعدة، ولو شئت سردت عليكم منها ما شاء الله.
قال: قاعدة: صيغة المضارع بعد لفظة كان تدل على: كثرة التكرار والمداومة على ذلك الفعل.
المضارع مثل: حينما يقول: كان يفعل كذا، تدل على: كثرة التكرار والمداومة، والله يقول عن إسماعيل : وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ [مريم:55]، إذن: ليس ذلك مرة، قال لهم: صلوا، وخلاص، لا، وإنما كان يكرر ذلك دائمًا، يأمرهم بالصلاة والزكاة.
وهكذا في قوله تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6]، أين الفعل المضارع؟ يعوذون، جاء بعد كان، وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6]، فهذا يدل على أن هذا الفعل كان يتكرر عند العرب، ويحصل مرة بعد مرة كثيرًا.
وهكذا في قوله تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]، كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا، فدعاؤهم كثير رغبة ورهبة.
قال: قاعدة: الجملة الاسمية تدل على: الدوام والثبوت، والفعلية تدل على: التجدد.
انظروا مثلاً: إلى كلام أهل العلم، ستسمعون بأنهم يقولون: بأن تحية إبراهيم كانت أبلغ من تحية الملائكة، ماذا كانت تحية الملائكة لما دخلوا على إبراهيم ؟ قَالُوا سَلَامًا [هود:69]، فرد عليهم : قَالَ سَلَامٌ [هود:69]، ما الفرق بين التحيتين؟ تحية الملائكة: سلمنا عليك سلامًا، هل هي: جملة اسمية أو فعلية؟ جملة فعلية، سلمنا عليك سلامًا، وكلام إبراهيم : سلامٌ، أي: سلامٌ دائمٌ ثابتٌ عليكم، فهل هي: اسمية أو فعلية؟ اسمية، فالاسمية تدل على: الثبوت، والفعلية تدل على: التجدد، فأيهما أبلغ في السلام، السلام الثابت الدائم، أو السلام المتجدد؟ الثابت؛ ولهذا يقولون: بأن تحية إبراهيم كانت أبلغ من تحية الملائكة.
وفي قوله -تبارك وتعالى: وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف:18]، يصور لك المشهد، فقال: باسط، وتعرفون الكلب كيف يضع ذراعيه؟! فهو: باسط، وما قال: بسط ذراعيه، أو يبسط ذراعيه، بل قال: باسط، فهو: ثابت، لا يتحرك، ثلاثمائة وتسع سنوات، باسط يديه، وساكن بهذه الصفة، في مدخل الكهف، بالوصيد، بمنزلة عتبة الباب.
وأما الفعلية فمثل قوله: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة:3]، كم فعل عندنا؟ ثلاثة أفعال، يقيمون، فيدل على: التجدد؛ لأن إقامة الصلاة متجددة، فهل هي: صلاة واحدة وانتهت؟ لا، وكذا: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، فالإنفاق أيضًا يتكرر، وليس مرة واحدة.
وقوله: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [فاطر:3]، فيرزقكم فعل، فالرزق مدرار متجدد، يحصل حينًا بعد حين.
قال: قاعدة: المخالفة بين إعراب المعطوفين يدل على: اختلاف معنييهما.
المخالفة بين إعراب المعطوفين يدل على: اختلاف معنييهما، تعرفون أن الإعراب تحت المعنى، ولك أن تقول أيضًا: بأن المعنى تحت الإعراب، فبتغير الإعراب يتغير المعنى غالبًا، ففي قوله -تبارك وتعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، بفتح الجميع، هذه القراءة متواترة، وفي قراءة ابن كثير وأبي عمرو، وهي: قراءة متواترة: فَلَا رَفَثٌ وَلَا فُسُوقٌ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، بتنوين مضموم لرفث وفسوق، وفتح جدال، فالذي يقرأ في تفسير ابن جرير مثلاً لأول وهلة، في تفسير هذه الآية، ماذا يقول ابن جرير؟ خلاصة كلامه، يقول: بأن الأول والثاني نهي، فَلَا رَفَثٌ وَلَا فُسُوقٌ بتنوين مضموم لرفث وفسوق، ينهى عن الرفث والفسوق.
وأما قوله: وَلَا جِدَالَ، بفتح جدال، فليس من باب النهي، وإنما من باب النفي، يعني: أن الحج شعيرة من شعائر الله، وأن الله فرضه وشرعه، ولا مجال للجدال في أصله وفرضه، ولا مجال للجدال في وقته أيضًا ومكانه، وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ، القضية محسومة منتهية: أن الله فرض الحج، وأنه شرَّع وقته ومحله، فهذه قضية محسومة، هذا كلام ابن جرير، يقول: وليس ذلك من قبيل النهي عن المجادلة، أي: أن يجادل الرجل صاحبه في قضية من مسائل العلم، أو من قضايا الدنيا، ويستدل على هذا أيضًا: بقول النبي ﷺ: من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه[8]، قال: وما قال: ولم يجادل، قال: فالمنهي: الرفث والفسوق، وأما الجدال فمنفي، فالمسألة حسمت وانتهت، تقول: هذا الموضوع لا جدال فيه، يعني: فرغ منه، أقر وانتهى، وليس من قبيل النهي[9].
والواقع كما ذكرنا لكم من قبل: بأن تعدد القراءات، أو تنوع القراءات، ينزل منزلة تعدد الآيات، فهنا: فَلَا رَفَثٌ وَلَا فُسُوقٌ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، بتنوين مضموم لرفث وفسوق، وفتح جدال، هذا يتأتى على تفسير ابن جرير، أو تستطيع أن تقول: بأن تفسير ابن جرير يتمشى مع هذه القراءة، فيكون نهى عن الرفث والفسوق، ونفى أن يكون في الحج جدال، وأما على القراءة الأخرى: فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، بفتح الجميع، فهذا في الواقع: مضمن معنى النهي في الثلاث، فإنه حينما ينفي الرفث والفسوق ما معناه مع أنه يقع من الناس؟ فهذا مضمن معنى النهي، فكذلك ما بعده: ولا جدال، فالثلاث إعرابها واحد، فالمخالفة بين إعراب المعطوفين يدل على اختلاف معنييهما غالبًا.
قال: قاعدة: صيغة التفضيل قد تطلق في القرآن واللغة مرادًا بها: الاتصاف، لا تفضيل شيء على شيء.
هذه القاعدة لطيفة، ينحل بها إشكالات لمن نظر في التفسير، أو في القرآن، ونحن نعرف أن صيغة التفضيل: ما كان على وزن أفعل، وأحيانًا لا تأتي على هذه الزنة، وإنما تأتي على غير ذلك، كأن يقال: خير، يعني: أخير، وشر، يعني: أشر، تقول: زيدٌ خيرٌ من عمرو، يعني: أخير من عمرو، وزيدٌ شرٌ من عمرو، يعني: أشر من عمرو، وهذا شرٌ من هذا، يعني: أشر من هذا.
وأصل صيغة التفضيل في اثنين اشتركا في صفة، وزاد أحدهما على الآخر فيها، لا بد من هذا، فلو أن إنسانا يريد أن يقارن في القطع بين السيف وبين العصا، فقال: السيف أقطع من العصا، هل هذه المقارنة صحيحة؟ ليست بصحيحة.
أما ترى أن السيف ينقص قدره | إذا قيل: إن السيف أمضى من العصا |
ولو جاء إنسان يريد أن يقارن، فقال: سيفك هذا أقطع من شماغي هذا، إذا ضربت فيه أحد، فماذا يعين؟ يعني: هذا ازدراء بالسيف، واستهزاء؛ لأن الشماغ ما يقطع، فلا بد من اشتراكهما في أصل الصفة، وأن أحدهما قد زاد على الآخر فيها، لكن نحن نجد أشياء في صفة الله ترد بصيغة أفعل التفضيل، فالله حينما يذكر أنه يبدأ الخلق ثم يعيده، قال: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27]، أهون يعني: أن الإعادة ثانية أسهل من البدء، والله يستوي عنده هذا وهذا، فهو على كل شيء قدير، وقدرته كاملة، إنما يكون أسهل بالنسبة إلينا، فالإعادة ثانية أسهل من الابتداء عندنا، ونحن نقدر أن نتكلم على المثال، ونخرجه من جوانب متعددة، لكن هنا في هذه القضية ماذا يقال؟ يقال هنا: ما تقوله هذه القاعدة: صيغة التفضيل قد تطلق في القرآن، ويراد بها: مطلق الاتصاف لا التفضيل، فماذا يكون المعنى هنا: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27]؟ يقال: وهو: هين عليه، فهذا مطلق الاتصاف، أن معنى أهون: هين، كما قال الشاعر:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت | فتلك سبيل لست فيها بأوحدِ |
يعني: لست فيها بواحد، فهذا مطلق الاتصاف لا التفضيل، وهذا ينحل به عنك إشكالات، فبعض الناس يقول: كيف قال الله : وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ، إذن: هل الثاني فيه صعوبة؟!
وهذا المثال يخرج بقاعدة أخرى، لعلنا ندرك الوقت ونذكرها، وهي: ما يتعلق بأن الخطاب قد يرد في القرآن مراعًا فيه حال السامع، فبالنسبة لحال السامعين: أن الإعادة أسهل، فجرى الخطاب على معهودهم، وراعى فيه حالهم، فهذه قاعدة أخرى يمكن أن تخرج الآية بمقتضاها، ويجاب عن هذا السؤال بهذا أو بهذا.
وقوله: أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [فصلت:40]، فخير هنا بمعنى: أفعل التفضيل، فخير يعني: أخير، فماذا يقال؟ هل فيه مقارنة بين من يلقى بالنار وبين من أتى آمنًا؟ هل اشتركوا في صفة، وزاد أحدهم على الآخر في هذه الصفة؟ أبدًا، وإنما الذي يلقى في النار لا خير عنده -نسأل الله العافية، فماذا يقال؟
يقال هنا: المقصود: مطلق الاتصاف، لا معنى التفضيل.
وهكذا في قوله تعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً [الفرقان:24]، فخير وأحسن: أفعل تفضيل، هؤلاء يقيلون في النار، وهؤلاء يقيلون في الجنة، فما فيه وجه للمقارنة حتى يقال: أهل الجنة أحسن من أهل النار مقيلا، إذن: ما المقصود؟ المقصود: مطلق الاتصاف لا التفضيل.
وهكذا في قوله: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ [الصافات:62]، ما فيه مقارنة، فخير: أفعل تفضيل، كما قال ابن مالك:
وغالبا أغناهم خير وشر | عن قولهم: أخير منه وأشر |
إذن: يكفي هذا.
قال: قاعدة: تفهم معاني الأفعال على ضوء ما تتعدى به.
يعني: الأفعال وغير الأفعال قد يفهم المعنى بحسب ما يتعدى به؛ لأن الأفعال مثلاً: قد تتعدى بنفسها، وقد تتعدى بحرف من الحروف، فنجدها أحيانًا قد عديت بحرفٍ آخر، فقد يُستشكل هذا، كيف عديت بهذا الحرف؟ فمن أهل العلم، وهي: طريقة الكوفيين من النحاة، من يقول: بأن الحرف هذا ضمن معنى حرف آخر، وانتهينا، بأن في مضمن معنى على، وخلاص، وبعضهم، وهي: طريقة البصريين، يقولون: بأن الفعل ضمن معنى فعل آخر، وهذا الذي اختاره شيخ الإسلام[10]، وهذه هي: التي يسميها ابن القيم -رحمه الله: طريقة فقهاء النحاة[11]، وهي: الأحسن، وسيتضح لكم هذا الكلام بالأمثلة، فتفهم معاني الأفعال على ضوء ما تتعدى به.
انظروا: الله يقول عن الحرم: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]، لماذا قال: يرد فيه بإلحاد، وما قال: يرد إلحادا؟ كيف عداه؟ هنا قال: يرد فيه بإلحادٍ، فعداه بالباء، وما عداه بنفسه، ما قال: ومن يرد إلحادًا فيه نذقه من عذاب أليم، بل قال: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ وفيه تقديم وتأخير في الكلام، وأصل الكلام هكذا: ومن يرد بإلحادٍ فيه، فلماذا عدا فعل الإرادة بالباء، وما قال: ومن يرد إلحادًا؟ لماذا لم يعده بنفسه؟ يقال: لأن فعل الإرادة هنا: يرد، مضمن معنى الهم، فهنا المعنى يصير أكثر وأخطر: أن الإنسان في الحرم يؤاخذ على مجرد الهم بالإلحاد، والمقصود بالإلحاد: الخروج عما رسمه الله ، وتعدى حدود الله ، هذا المقصود: الميل، وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ يعني: من يهم، فبمجرد الهم فإنه متوعد بقوله: نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]، ففعل الهم: هَمَّ، تقول: هم بكذا، وأما فعل الإرادة، فيقال: أراد كذا، ولا يقال: أراد بكذا، وبهذا يتضح الفرق: فهنا فعل الإرادة عدي بالباء، وفعل الإرادة يعدا بنفسه، يقال: أراد كذا، وهم ما يقال هم كذا، يقال: هم بكذا، هممت بالذهاب، هممت بالجلوس، هممت بالقراءة، فهنا عدي فعل الإرادة بالباء، لماذا؟ لأنه مضمن معنى الهم، فبمجرد الهم فإنه متوعد بالعذاب الأليم، يعني: داخل هذا الفعل فعل الإرادة فعل آخر، وهو: هم؛ من أجل أن يصح التعدية بالباء، فيكون هذا أكثر في المعاني، وهذا من بلاغة القرآن، حيث يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.
لاحظوا أيضا هذا! مثلاً: فعل نظر، كيف نفهم هذا الفعل؟ إذا عدي بإلى ماذا يكون معناه؟ نظرت إلى كذا، النظر بالأبصار، وإذا عدي بفي؟ نظرت في كذا، ونظرت في أمرك، ماذا يكون المراد؟ التفكر والاعتبار، وإذا عدي بنفسه: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13]، فهو: ماذا؟ التوقف والانتظار، كيف فهمنا معنى فعل نظر في هذه المواضع الثلاثة؟ بحسب ما يتعدى به، فإن تعدى بنفسه، فهو: الانتظار، وإن تعدى بإلى، نظر إلى كذا، فهو: النظر بالأبصار، وإن تعدى بفي، فهو: التفكر والاعتبار، وهذا مما يرد به أهل السنة على المعتزلة، وعلى نفاة الرؤية عمومًا، في قوله -تبارك وتعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22]، من النُّضرة والبهاء، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23]، يعني: ناظرة إلى ربها، فعداه بماذا؟ عداه بإلى، فهو: النظر بالعين، والمعتزلة يقولون: منتظرة الثواب، نقول: لا، هذا يكون بمعنى: منتظرة الثواب، إذا عدي بنفسه، وهنا عدي بإلى: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23]، فهو: النظر بالأبصار، ففهمناه بهذه الطريقة، وهكذا: انظر إلى قوله -تبارك وتعالى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف:185] ما معناه؟ التفكر، وهو: نظر القلب.
وخذ مثالا آخر: في قوله -تبارك وتعالى: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [الإنسان:6]، فالعين معروفة، لكن هل الإنسان إذا جاء يشرب من العين يأتي ويشيلها ويشرب بها، أو يشرب منها؟ هو: يشرب منها، ما يشرب بها، لكن الكأس هل نشرب منه أو به؟ الكأس نشرب به، والعين نشرب منها، فلماذا قال الله : عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا؟ الكوفيين من النحاة يستريحون، ويقولون: يشرب بها، الباء هنا بمعنى: من، وانتهينا، خلاص، سهلوا على الناس يا جماعة الخير! فمذهبهم سهل، فالذي يشكل عليه النحو، يقول: أنا مذهبي كوفي، ويدرس النحو على طريقة الكوفيين، وأنا ضامن له بأذن الله في عشرة أيام يجيد النحو، فهم يقولون: الباء هنا بمعنى: من، وخلاص، وأما البصريون، فيقولون: لا، ما يصح هذا الكلام أبدًا، الباء هنا ما جاءت عبثًا، إذن: ماذا تقولون؟ قالوا: نقول: إن فعل يشرب لازم يكون مضمن في بطنه معنى فعل آخر يصلح أن يعدا بالباء، فإذا كان فعل يشرب ما يصلح في هذا المقام أن يعدا بالباء، في هذا المثال، فلازم يكون هناك في داخل جوف فعل يشرب فعل آخر يصلح أن يعدا بالباء، قالوا: وماذا تقترحون؟ قالوا: نقترح أن يكون: يرتوي، وإن شئت أن تقول: يلتذ، قالوا: بماذا أفدتمونا؟ قالوا: أفدناكم معنى كبير، وهو: أنه ما هو مجرد شرب فقط، فقد يشرب الإنسان ولا يرتوي، وقد يشرب ولا يلتذ، لكن هذا دلنا على أنهم يشربون ويرتوون، ويلتذون بهذا هذا الشرب، فقالوا: ومن أين عرفتم هذا؟
قال ابن القيم: ما قلنا لكم أنهم فقهاء النحاة، فهذا الفرق بينهم وبين الكوفيين، طلعوا لك هذه المعاني: أن المسألة فيها ارتواء، وفيها التذاذ بهذا الشرب، وأما على قول الكوفيين، فيشرب، لكنه قد لا يلتذ، وقد لا يرتوي، يشرب ما يسد الرمق، وعلى طريقة البصريين، قالوا: لا، بل اطمئن، فالمسألة فيها ارتواء، وفيها أيضًا: التذاذ بهذا المشروب، أو بهذا الشرب.
وهكذا في أمثلة كثيرة، ونحن عندما قرأنا من المصباح المنير كثيرًا ما كانت تمر علينا مثل هذه الأشياء، ونقول: هذا مضمن معنى كذا، وكنت كثيرًا ما أقول للإخوان: قيدوا هذه الأشياء، ستجدون ثروة عندكم في علوم التفسير، من التطبيقات، والأمثلة، والقواعد، إذا طبقتها على الدرس.
قال: المقصد الرابع: وجوه مخاطباته.
قاعدة: إذا كان سياق الآيات في أمور خاصة، وأراد الله أن يحكم عليها، وذلك الحكم لا يختص بها، بل يشملها وغيرها، جاء الله بالحكم العام.
إذا كان سياق الآيات في أمور خاصة، وأراد الله أن يحكم عليها، وذلك الحكم لا يختص بها، جاء بالحكم العام، وهذا في مقامات الوعد، وفي مقامات الوعيد، وفي المدح والذم، وما إلى ذلك، وسيوضح هذا الأمثلة، انظروا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [النساء:150-151]، بماذا عقبها؟ وهذا هو الشاهد، ما قال: وأعتدنا لهم، أي: لمن يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله، والذين عملوا هذه الأشياء، فما قال: وأعتدنا لهم عذابًا مهينا، لا، بل قال: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:151]، لاحظوا الآن! هل هذا الحكم المعقب به عام أو خاص بهؤلاء المذكورين؟ عام؛ لأن الكفار أنواع، منهم من كفر بالله ورسله، وأرادوا أن يفرقوا بينهم، ومنهم لا، بل كان كفرهم بغير هذا، فجاء بالحكم العام: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:151]، من كان من هذا القبيل، ومن لم يكن منهم، فجاء بالحكم العام بعده، فقال: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:151]، لكل الكافرين، أيّن كان كفرهم.
خذ مثالا آخر، في قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:146]، ما قال بعدها: وسوف نؤتيهم أجرًا عظيمًا، بل قال: وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:146]، كل المؤمنين، وليس فقط هؤلاء الذين حصلت منهم هذه الجنايات، فحصلت منهم هذه التوبة، على هذه الصفة: الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، فقد يكون المؤمن ما وقع منه نفاق، ولا وقع منه أمور تستوجب منه مثل هذا كله، فجاء بالحكم العام: وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ؛ لأنه لو قال: وسوف يؤتيهم الله أجرًا عظيمًا، فقد يقول قائل: ونحن ما لنا؟ فقال: هذا لجميع المؤمنين.
وهذا أمثلته كثيرة في القرآن، ولعله واضح؛ لذلك لن نطيل فيه، ودائمًا ستجدون في مقام العذاب والوعيد يؤتى بحكم العام؛ ليشمل هؤلاء المذكورين، ويشمل غيرهم.
قال: قاعدة: العرب قد تعلق الأمر بزائل، والمراد: التأبيد.
وهذا أيضًا جيد، يفيد ويرفع شيئًا من العجمة التي نعاني منها، فالعرب لا بد أن نعرف طريقتهم في الخطاب، ومعهودهم في الكلام، فقد تعلق الأمر بزائل، والمراد: التأبيد، فبعض الناس يسأل: الله يقول: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:106-107]، وقال في الذين سعدوا: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108]، فبعض الناس قد يقول: السماوات والأرض تفنى، فكيف علق بقاء وخلود أهل النار ببقاء السماوات والأرض، مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ؟ إذن: الجنة تفنى، والنار تفنى، هل هذا الفهم صحيح، لو احتج بقوله: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ؟ نقول: لا، هذا الفهم فيه عجمة، لماذا نقول: فيه عجمة؟ نقول: لأن العرب قد تعلق الشيء والأمر بزائل، وتقصد به: التأبيد، فهو يقول: والله ما أعطيك كذا، أو ما أرضى عنك، ما دامت السماوات والأرض، فهل يقول: إذا بادت السماوات والأرض في الآخرة إن شاء الله سترضى عني؟ سيقول لك: يا أخي! أنا أقصد التأبيد، أنت ماذا فيك، كلما عبرنا لك بعبارة جئت ومسكت لنا هذه الألفاظ، وفهمتها بغير وجهها؟ فالمقصود به: التأبيد.
والأمثلة على هذا كثيرة، فنحن في كلامنا، وتجدون في كلام الناس، وفي كلام الخطباء، وفي كلام الذين يدعون، أو يقولون أشعارًا، يقول لك: اللهم صل على محمد ما تعاقب القمران مثلاً، أو ما تعاقب الليل والنهار، فهل سيستمر الليل والنهار؟! فلو جاء واحد، ويقول لهذا الذي يدعو: فقط ما تعاقب الليل والنهار، سيقول: يا أخي! أنا أقصد التأبيد، أو يقول لك: ما غرد طائر، فالمقصود: التأبيد، فهذه طريقة العرب في كلامها، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.
- أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب من لم يدرك عرفة، رقم: (1949)، والترمذي، أبواب الحج عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج، رقم: (889)، والنسائي، كتاب مناسك الحج، فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بالمزدلفة، رقم: (3044)، وابن ماجه، أبواب المناسك، باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع، رقم: (3015)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (4/ 256)، رقم: (1064).
- انظر: الاعتصام للشاطبي (2/ 809).
- انظر: تفسير الطبري (5/ 550).
- أخرجه البخاري، كتاب المساقاة، باب شرب الأعلى إلى الكعبين، برقم (2362)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب وجوب اتباعه ﷺ، برقم (2357).
- أخرجه الطبري في تفسيره (8/ 523).
- انظر: المصدر السابق (8/ 524).
- انظر: المصدر السابق (1/ 501).
- أخرجه البخاري، أبواب المحصر، باب قول الله تعالى: فَلَا رَفَثَ [البقرة:197]، برقم (1819) ومسلم، كتاب الحج، باب في فضل الحج والعمرة، ويوم عرفة، برقم (1350).
- انظر: تفسير الطبري (4/ 148-155).
- انظر: مجموع الفتاوى (13/ 342).
- انظر: بدائع الفوائد (2/ 21).