الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
المجلس السادس
تاريخ النشر: ٢٠ / جمادى الأولى / ١٤٢٩
التحميل: 10536
مرات الإستماع: 3219

قال: قاعدة: جميع أوزان الصفة المشبهة باسم الفاعل إن قصد بها الحدوث والتجدد جاءت على وزن فاعل مطلقا، وإن لم يقصد بها الحدوث والتجدد بقي على أصله.

تقول هذه القاعدة: جميع أوزان الصفة المشبهة باسم الفاعل، الصفة المشبهة هي: اسم مشتق، يدل على: ثبوت صفة لصاحبها ثبوتًا عامًا دائمًا مستمرًا في جميع الأزمنة، هذا أصل الصفة المشبهة، فجميع أوزان الصفة المشبهة باسم الفاعل إن قصد بها الحدوث والتجدد جاءت على وزن فاعل مطلقًا، يقول تعالى: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [هود:12]، فقال: وَضَائِقٌ، فالضيق يتجدد حينًا بعد حين بتجدد موجباته، فكلما واجه منه تكذيب، أو كلام يجرح، أو إعراض، ضاق صدره، فهو: ضيق متجدد، فــ جميع أوزان الصفة المشبهة باسم الفاعل إن قصد بها الحدوث والتجدد جاءت على وزن فاعل مطلقًا، مثل: وَضَائِقٌ، وإن لم يقصد بها الحدوث والتجدد بقي على أصله؛ ولهذا قال الله : وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [الفرقان:13]، فقال: مَكَانًا ضَيِّقًا، وما قال: ضائقا، فهذا المكان ضيق، هذه صفة لازمة ثابتة له، ضيق هكذا، وليس يضيق أحيانًا، ويتسع أحيانًا.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125]، وما قال: ضائقًا؛ ولذلك الناس يقولون: أنا ضايق صدري، ضايق يعني: معناها في هذا الوقت بسبب معين، لكن إذا قال: أنا ضيق صدري، يعني: معناها أنا ما أتحمل، طبيعتي فيها شيء، لكن ما ندرك هذا في كلامنا، فهناك فرق بين واحد يقول: أنا ضايق صدري، وبين واحد يقول: أنا ضيق صدري، وفلان ضيق الصدر، ضيق العطن، وفلان ضائق الصدر.

قال: قاعدة: إذا قامت الصفة بمحلٍ عاد حكمها إليه لا إلى غيره، واشتق لذلك المحل من تلك الصفة اسمٌ، ولا يشتق الاسم لمحل لم يقم به ذلك الوصف.

هذه القاعدة مما يرد به أهل السنة والجماعة على المعتزلة، وعلى نفات الصفات عمومًا، ممن نفى جملة من الصفات من المتكلمين، فإذا قامت الصفة بمحل عاد حكمها إليه لا إلى غيره، واشتق لذلك المحل من تلك الصفة اسم، ولا يشتق الاسم لمحل لم يقم به ذلك الوصف، فحينما يقال: السارق، فالسرقة صفة، فهذه الصفة إنما يوصف بها ويقال: سارق، من قام به وصف السرقة، ولا يمكن أن يوصف به غير من قامت به السرقة، يقول تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38].

وقال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، ومن اللطائف في التفسير مع أن الكلام على القواعد: لماذا بدأ بالسارق، فقال: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ، وفي الزنا بدأ بالزانية، فقال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي؟ لأن الرجل أجرأ في السرقة، فبدأ بالرجل، وفي الزنا قال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي، فبدأ بالمرأة لأنها هي التي تعطي الضوء الأخضر باختصار، بزينتها، وبغنجها، وبخضوعها بالقول، وبتبرجها، وبلحنها، وبأمور كثيرة، فينجذب إليها الرجل، ويطمع بها؛ ولهذا قال الله : فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32].

فالصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها إليه، فإذا قال الله مثلاً: بأن الله  سميعٍ بصير، كما قال: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، فهنا الله -تبارك وتعالى- يوصف بالسمع وبالبصر، فجاز أن يشتق له منها اسم، وهنا المقصود: أن يقال: هو: سامع مبصر، وإلا فنحن نعلم أن أسماء الله توقيفية، فلا نشتق له من كل صفة اسم، وقد تكلمنا على هذا طويلاً في الكلام على الأسماء الحسنى، لكن المقصود: جاز أن يشتق له منها اسم، كأن تقول: هو: سامع، هو: مبصر، لا على سبيل التسمية له ، وإنما الإخبار بهذا الاسم عنه، تقول: هو: سامع، هو: مبصر، وهكذا، كما تقول عن ذاك الإنسان الذي قام به صفة السرقة، مَنْ مثلت به قبل قليل، تقول: هو: سارق، فجاز أن يشتق له منها اسم، لكن هل هو اسمه الذي يكتب في البطاقة: سارق بن زيد بن كذا؟

لا، ولكن جاز أن يشتق له من هذه الصفة التي هي: السرقة اسم، فنقول: هو: سارق، فهذا اسم، ولا يكون ذلك يضاف إلى غيره، كما يقولون: بأن الكلام من الشجرة، صدر من الشجرة، كما يقول المعتزلة، في تكليم الله لموسى، خلق كلامًا في الشجرة، فهذا غلط، فهذه القاعدة ترد عليهم.

قال: المقصد الحادي عشر: التوكيد.

قاعدة: التوكيد ينفي احتمال المجاز.

هذه القاعدة يقر بها أهل السنة، ويقر بها أهل الكلام على اختلاف طوائفهم، فالمعتزلة يقرون بهذا، والأشاعرة يقرون بهذا، التوكيد ينفي احتمال المجاز، فإذا قال مثلاً: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، فهنا توكيد بالمصدر: تَكْلِيمًا، ينفي احتمال المجاز، لا يمكن أن يكون: وَكَلَّمَ هنا مجاز؛ لأنه أكده بالمصدر، والتأكيد بالمصدر ينفي احتمال المجاز، وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164].

إذًا كلمه تكليمًا حقيقيًا، ما يمكن أن يقال: إن المقصود: أن الملك كلمه، أو أمر الملك أن يكلمه، أو كلمه جبريل، نقول: لا، قال: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، ولهذا المعتزلة ماذا فعلوا؟ تحيروا في هذه الآية، وقالوا: الآن كيف؟ نحن نقر بهذه القاعدة، ماذا نصنع، وهذا مؤكد بالمصدر، فقالوا: إذًا نقول: كلمه، يعني: الكلم هنا: الفعل الأصلي، كلم بمعني: جرح، جرحه بمخالب الحكمة، كل هذا من أجل أن يقولوا: نعم! نعم! التأكيد ينفي احتمال المجاز، التأكيد بالمصدر ينفي احتمال المجاز، لكن هذا التأكيد بالمصدر لماذا؟ لفعل الكلم، وليس الكلام والتكليم، كلم: جرح، تجريحًا، لاحظتم كيف يعمل هؤلاء الضلال؟! رأيتم كيف تلوى أعناق النصوص، وتحرف الآيات؛ من أجل عقيدة يعتقدونها.

قال: المقصد الثالث عشر: القسم في القرآن.

قاعدة: لا يكون القسم إلا باسم معظم.

لا يكون القسم إلا باسم معظم دائمًا، فالله -تعالى- يقسم بما شاء، ونحن لا نقسم إلا بالله وبأسمائه وصفاته، ولا شك أن الله وأسماءه وصفاته كل ذلك معظم، هذا لا إشكال فيه، لكن الكلام فيما يقسم الله به، فإذا رأيت الله يقسم بشيء، فمعنى ذلك أنه معظم، فإذا قال: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ [التين:1]، فهذا يدل على: عظمة هاتين الثمرتين، ومنزلتهما، ولما قال: وَالْفَجْرِ [الفجر:1]، وهو: الوقت المعروف في أول النهار، وبعضهم يقول: فجر عرفة، وبعضهم يقول غير هذا، والراجح: أنه يشمل هذا وهذا، فهذا يدل على شرف هذا الوقت، ولما قال: وَالْعَصْرِ [العصر:1]، وبعضهم يقيده بعصر معين، والأقرب -والله أعلم: أنه الوقت المعروف؛ ولهذا جاء الحديث في الرجل الذي يحلف على سلعة كاذبًا بعد العصر[1].

فهذا لا شك أنه أعظم، وكذلك في قوله -تعالى: تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ [المائدة:106]، الراجح: أنه بعد صلاة العصر، فهذا وقت عظيم، وإذا قال الله : لَعَمْرُكَ [الحجر:72]، يقسم بعمر النبي ﷺ، وهذا يدل على منزلته، وهكذا: في سائر الأقسام في القرآن، كقوله: وَالضُّحَى ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:1-2]، فالضحى هو: المعروف، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى: أرخى سدوله، فهذا وقت تتجلى فيه العظمة، وقت إقبال الليل، وقوله: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ۝ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ۝ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ۝ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ۝ وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ۝ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا [الشمس:1-7]، كل هذه الأشياء التي أقسم بها يدل على: منزلتها وعظمها؛ ولذلك حتى الذين يحلفون بغير الله هم في الواقع ما يحلفون إلا بشيء يعتقدون تعظيمه، فالمشرك الذي يحلف باللات والعزى، أو بالبدوي، أو بالجيلاني، أو الحسن أو الحسين، هذا يعتقد بعظمة هذا، وإلا لم يحلف به، مع أنه لا يجوز أن يحلف بغير الله.

قال: المقصد الخامس عشر: النفي في القرآن.

قاعدة: قد يرد نفي الشيء مقيدا، والمراد: نفيه مطلقا؛ مبالغة في النفي، وتأكيدًا له.

هذه القاعدة أيضًا تنحل بها إشكالات في التفسير عند النظر في القرآن لمن يتدبر، فالله -تبارك وتعالى- يقول مثلاً: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:21]، لو جاء أحد وقال: لماذا قال: بِغَيْرِ حَقٍّ؟ وهل فيه أحد يقتل النبيين بحق؟ ما فيه أحد يقتل النبيين بحق، فماذا يقال؟

يقال: قد يرد نفي الشيء مقيدًا، والمراد: نفيه مطلقًا؛ مبالغة في النفي، وتأكيدًا له، لكن هذا لتسجيل هذا الجرم عليهم، وتشنيعه، وهكذا: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [المؤمنون:117]، فلو جاء واحد عنده عجمة في الفهم، وقال: لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ، إذن: فيه أحد يدعو وعنده برهان، ومفهوم المخالفة: أنه إن دعا وعنده برهان فلا بأس، نقول: هذا غير مراد؛ لأن هذا لا يمكن، وإنما قد يرد نفي الشيء، يرد نفي الشيء مقيدًا، والمراد: نفيه مطلقًا، مبالغة في النفي، وتأكيدًا له، كقوله: وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ [البقرة:41]، فلو جاء أحد عنده عجمة، وقال: خلاص، هو: المنهي أن يكون أول كافر به، لو كان كفره متأخرًا فلا حرج، نقول: هذه عجمة، وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ، نهى عن ذلك مقيدًا، والمقصود: نفي ذلك مطلقًا.

وفي قوله -تبارك وتعالى، في الثناء على فقراء المهاجرين، قال: لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273]، معنى الإلحاف بعض العلماء يقول: مأخوذ من اللحاف، شفتم اللحاف كيف يشتمل على جميع الإنسان! فهذا الملحف يسأل بكل طريقة، مرة يقول: الله يخليك، ومرة يقول: تكفى، ومرة يتمسكن، ومرة يدعو، ومرة يقف أمامك، ومرة كذا، بكل طريقة من أجل المسألة، هذا يسمى: إلحاف، ويسمى: إلحاح في المسألة.

لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا، لو أردنا أن نطبق مفهوم المخالفة، فماذا نفهم منها؟ أنهم يسألون لكن من غير إلحاف، وهل الذي يسأل يمدح؟ وهل يكون متعففًا؟ حتى لو كان من غير إلحاف؟

الجواب: لا، فهل هذا مقصود، ومفهوم المخالفة هنا مراد: أنه صحيح، لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا، فهم يسألون من غير إلحاف، فهذا مقتضى مفهوم المخالفة، ومفهوم المخالفة حجة عند الجمهور؟!

فقد يرد نفي الشيء مقيدًا، والمراد: نفيه مطلقًا مبالغة في النفي، فالله يمدحهم أنهم ما يسألون أصلاً، فذكر هذه الصفة المشينة الثقيلة على النفوس، وهي: الإلحاح في السؤال، نفاها عنهم، وإلا فالمقصود: نفي ذلك عنهم من أصله، فلا يأتي إنسان ويقول: نعم، هم يسألون، لكن من غير إلحاح.

وهكذا: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ [الصف:7]، ولو افترى على الله الكذب، وهو لا يدعى إلى الإسلام؟ نفس الشيء، لكن هذا للمبالغة في النفي.

ومثله: من أفتى في هذا العصر: بأنه لا يجوز أكل الربا إذا كان أضعافا مضاعفة، يقول: وأما ما سواه فجائز، وهذا مما يتعلق بهذه القاعدة أيضا، يقول -تعالى: لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، فلو جاء إنسان، وقال: مفهوم المخالفة أنه يجوز أكل الربا، كما يقول بعض المفتونين، يجوز أكل الربا إذا لم يكن أضعافا مضاعفة، فالربا الذي تتعامل معه البنوك اليوم ليس من قبيل الأضعاف المضاعفة، بل هو نسبة: 2%، 4%، والله نهى عن أكل الربا أضعافًا مضاعفة، إذن هذا يجوز، حلال، لماذا تضيقون على الناس، فيقال هنا: ذكر هذه الصورة البشعة التي كانوا يتعاملون بها في الجاهلية تنفيرًا عنه، ونهيًا عن أصله، فهذا هكذا يفهم، -والله تعالى أعلم.

قال: قاعدة: نفي التفضيل لا يستلزم نفي المساواة.

أفعل التفضيل: ما كان على وزن أفعل، فنفي التفضيل لا يستلزم نفي المساواة، وبهذا ينحل عنك إشكال معروف في جملة من الآيات في التفسير، يعني: الله -تبارك وتعالى- يقول: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [البقرة:140]، ما المعنى وَمَنْ أَظْلَمُ؟ هنا الاستفهام مضمن معنى النفي، يعني: لا أحد أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله، وأظلم هذه أفعل تفضيل، يعني: قد تفهم منها أنه لا أحد أشد ظلمًا، بل هذا هو المراد: لا أحد أشد ظلمًا ممن كتم شهادة عنده من الله.

وفي الآية الأخرى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا [البقرة:114]، يعني: لا أحد أشد ظلمًا ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا [الكهف:57]، يعني: لا أحد أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الأنعام:21]، لا أحد أظلم ممن اقترى على الله كذبا.

في كل واحد يقول: لا أحد أظلم من كذا، هل بينها تعارض؟ فيه تعارض؟ لا، مقتضى القاعدة: نفي التفضيل لا يستلزم نفي المساواة، فهذا جواب، فماذا نقول؟

نقول: أفعل التفضيل لا تمنع من التساوي، لكن تمنع أن يزيد أحد عليه، فإذا قيل: فلان أعلم الناس، ثم قيل: في مناسبة أخرى فلان أعلم الناس، لإنسان آخر، ما فيه تناقض، المقصود: أن لا يزيد عليه، لكن يمكن أن يساويه في المرتبة، هكذا هنا حينما يقول الله : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ [البقرة:114]، لا أحد أظلم منه، يعني: هذا بلغ في الظلم غايته، لا أحد أظلم منه، وقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الأنعام:21]، هذا بلغ في الظلم غايته، فاستوى مع ذلك، وكذا: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا [الكهف:57]، لا أحد أظلم منه، فليس هناك تناقض؟ وإنما يقال: كلهم قد بلغوا الغاية في الظلم، فأفعل التفضيل: أظلم، لا تمنع التساوي، وإنما تمنع أن تزيد عليه غيره، هذا جواب طبعًا.

وفيه جواب آخر، لا علاقة له بالقاعدة، وهي: أن يقال: كل آية مختصة بموضوعها، ففي المانعين: لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله، وفي المعرضين: لا أحد أظلم ممن ذُكِّرَ بآيات ربه فأعرض عنها، في المفترين: لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبًا، وفي الكاتمين: لا أحد أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله.

قال: قاعدة: النفي المقصود به: المدح لابد من أن يكون متضمنا لإثباتك ما لضده.

النفي المقصود به: المدح، أما النفي المجرد فلا يقتضي مدحًا، فحينما نقول مثلاً: بأن هذه الطاولة لا تظلم، هل هذا مدح، فنحن نمدحها الآن ونقول: ما شاء الله ما تظلم؟ ليس بمدح.

قّبيلةٌ لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل[2]

فهذا الشاعر يهجوا قبيلته، ويقول: لا يغدرون بذمة، ينفي عنهم الغدر، ولا يظلمون الناس حبة خردل، هذا مدح؟ ليس بمدح، فهو يهجوهم، يقول: لضعفهم لا يحصل منهم غدر، ولا يحصل منهم ظلم؛ لأن شريعة الغاب عند العرب:

من لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لم يظلم الناس يظلم[3]

هذا هو الشعار والقاعدة عنده، إما تَظلِم أو تُظلَم، فالقوي يأكل الضعيف.

فالشاهد: أن النفي المقصود به: المدح، لا بد من أن يكون متضمنا لإثبات كمال ضده، كما قال الله وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ [الفرقان:58]، الَّذِي لَا يَمُوتُ هذا النفي يتضمن ثبوت كمال ضده، وهو: كمال حياته -تبارك وتعالى، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، يتضمن ثبوت كمال عدله، ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [البقرة:2]، نفى عنه الريب، فهو: يتضمن ثبوت كمال ضده، أنه مشتمل على كمال، متضمن لكمال اليقين، وهكذا: لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273]، يتضمن ثبوت كمال ضده، وهو: كمال التعفف، وهكذا حينما يقال في النبي ﷺ: أنه ليس بصخاب في الأسواق، هذا يتضمن كمال وقاره ﷺ.

قال: العام والخاص.

قاعدة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

العبرة بعموم اللفظ والمعنى لا بخصوص السبب، لماذا نقول: بأن العبرة بعموم اللفظ والمعنى؟

العموم يؤخذ من الألفاظ والمعاني؛ ولهذا في تعرف العام ما استغرق الصالح دفعة بلا حصر من اللفظ، وكثير ممن يعرفون العام يقولون هو: اللفظ المستغرق، وهذا غير صحيح؛ لأن العموم يكون بالألفاظ، ويكون في المعاني، كيف يكون في المعاني؟ كما هو معروف في العلة مثلاً تعمم، كما أنها تخصص، فالعموم يؤخذ من المعنى أحيانًا، فحينما يأتي رجل ويسأل النبي ﷺ عن قضية فعلها، يقول: ذبحت قبل أن أرمي؟ فيقول له النبي ﷺ: لا حرج، أو يقول له: افعل ولا حرج[4]مثلاً، فنأخذ من هذا العموم، من أين أخذناها؟ هل هو من اللفظ أو من المعنى؟ من المعنى؛ لأن خطاب النبي ﷺ لواحد في الأحكام هو: خطاب لجميع الأمة.

وهكذا في أمثلة كثيرة مما يدل على: أن العموم يؤخذ من المعاني، وليس من الألفاظ، في موضوع أسباب النزول، فأحيانًا الآية ما يكون فيها عموم في اللفظ، وهي: نازلة على سبب، فماذا نقول فيها؟ نقول: العبرة بعموم اللفظ، مع أنه ما فيه لفظ عام، فالعبرة بعموم اللفظ والمعنى، فنزيد المعنى من أجل هذا، فنزيد المعنى، لا بخصوص السبب، وهذه القاعدة عليها أدلة، الرجل الذي باشر امرأة وقبلها في القصة المعروفة، لما جاءت تشتري منه تمرًا، فقال لها: في الدار أحسن من هذا، وخدعها، ثم جاءت معه، فقبلها وضمها،... إلى آخره، وندم، وجاء إلى النبي ﷺ، وأخبره، فنزلت: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114]، فالرجل قال: ألي ذلك خاصة يا رسول الله؟! فالنبي ﷺ أخبره أنها ليس خاص به، وإنما للأمة عامة[5].

وفي بعض الروايات أن الذي سأل معاذ بن جبل ، فهذا يدل على: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

كذلك النبي ﷺ حينما جاء إلى علي وفاطمة -ا- وهما قد ناما، فقال: ألا تصليان؟! فقال علي : إن أرواحنا بيد الله متى ما شاء أن يبعثها بعثها، فرجع النبي ﷺ وهو: مغضب، ويلطخ فخذه، ويقول: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً [الكهف:54][6]، مع أن الآية نازلة في الذين يجادلون في الوحي والنبوة والتوحيد.

وهكذا في قول النبي ﷺ على المنبر حينما قال: يا أيها الناس! إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا، ثم قرأ: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104][7]، مع أن الآية في الاستدلال على البعث بالنشأة الأولى: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الإسراء:51]، ومع ذلك احتج بها النبي ﷺ على هذا المعنى، فالعبرة بعموم اللفظ والمعنى، لا بخصوص السبب.

ويدل على هذا: أن الصحابة عملوا في الآيات التي نزلت بسبب معين، مثل: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ [المائدة:38] في الذي مثلاً سرق درع صفوان بن أمية، أو غير ذلك، قطعوا غير سارق.

وهكذا الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [النور:2]، كل زاني طبقوا عليه هذا الحكم.

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ [النور:6]، في اللعان، طبقوها على كل من اتهم امرأته بالزنا، وهكذا.

فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإذا جئنا لآيات نزلت على أسباب، فنطبق هذه القاعدة، مثل: الآية التي نزلت على سبب: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ [التحريم:1]، حرم النبي ﷺ العسل، أو حرم الجارية[8]، هل اللفظ هذا في عموم؟ ما فيه عموم؛ لذلك قلنا: العبرة بعموم اللفظ والمعنى، لا بخصوص السبب، فهي: وإن نزلت في النبي ﷺ، واللفظ ليس فيه عموم، إلا أن الحكم عام.

وقد يكون اللفظ فيه عموم، مثل: آيات المجادلة، فالله قال في الظهار: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ [المجادلة:3]، فهذا عام في اللفظ، وإن كانت نزلت في أوس بن الصامت مع امرأته خوله بنت ثعلبة، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والأمثلة كثيرة جدًا، إلا إن دل دليل على التخصيص، فقد يوجد دليل على العموم، وقد يوجد دليل على التخصيص، فإذا لم يوجد دليل لا على العموم ولا على التخصيص، فإن العبرة بعموم اللفظ والمعنى لا بخصوص السبب.

قال: قاعدة: حذف المتعلق يفيد العموم النسبي.

حذف المتعلق، ما هو المتعلق؟ المتعلق هو: المقدر، هو الذي يسمونه: بالمقتضى، كما قال صاحب المراقي:

والمقتضى أعم جل السلف ..................

يعني: عممه، فإنه يحمل على مقتضاه، في قوله -تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، ما ذكر المتعلق هنا، تتقون ماذا؟ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ حذف، تتقون المعاصي، تتقون مساوئ الأخلاق، تتقون الله وما أشبه ذلك إذا جاع البطن كفت الجوارح، وإذا شبع البطن جاعت الجوارح، وهكذا في قوله: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2]، هدى لهم في كل شيء مما يحتاجون فيه إلى الهداية، وهكذا في قوله:  إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا [الأعراف:201]، اتقوا محارم الله، اتقوا الله ، اتقوا المعاصي، افعلوا المأمورات، اتقوا مداخل الريب.

إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا [الأعراف:201]، تذكروا ماذا؟ حذف المتعلق المقدر تذكروا ماذا؟ تذكروا الله، تذكروا عظمة الله، تذكروا الدار الآخرة، تذكروا قبح هذا العمل، كل هذا لا إشكال فيه تذكروا، تذكر ما يكفه ويزجره عن مواقعة هذا أو الاستمرار على هذا الذنب، فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، مبصرون ماذا؟

يبصرون الحق، يبصرون الصواب، يبصرون الطريق إلى الله ، مبصرون الذنب الخطيئة.

إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90]، اجتنبوا ماذا؟ ما ذكر، (اجتنبوا) ماذا؟ ما ذكر، اجتنبوا شربه! اجتنبوا إهداءه! اجتنبوا بيعه! اجتنبوا صناعته، حُذف المقتضى فحُمل على العموم، فحذف المقتضى يدل على العموم النسبي، النسبي في كل مقام ما يناسبه، تقول هنا: فاجتنبوه اجتنبوا تأجيره، الخمر يؤجر؟ يشرب ولا يؤجر، هذا شيء يستهلك فعندئذٍ يقال: العموم النسبي فَاجْتَنِبُوهُ أي: اجتنبوا بيعه، وإهداءه، وشربه.

المنطوق والمفهوم.

قاعدة: الحكم المعلق على وصف يقوى بقوته وينقص بنقصه.

هذه القاعدة أشرت إليها في ثنايا الكلام على بعض القواعد السابقة، وقد ذكرت بأن الحكم لا تفهم منه أن المقصود به دائمًا الحلال والحرام، وإنما الحكم أعم من ذلك، الحكم المعلق على وصف يقوى بقوته يعني يزيد بزيادته وينقص بنقصانه الله يقول: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، أين الأوصاف؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82]، وأين الحكم؟ حكم لهم بالأمن والاهتداء فيكون لهم من الأمن والاهتداء بحسب ما عندهم من الإيمان الذي لم يخالطه الشرك.

الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82]، فالناس يتفاوتون في أمنهم في الآخرة بهذا الاعتبار إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ  [الأحزاب:35] إلى أن قال الله : أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35]، فعلى قدرهم تحقيق الأوصاف من الإسلام والإيمان وما ذكر معه يكون لهم من المغفرة والأجر في الآخرة الحكم المعلق على وصف يقوى بقوته وينقص بنقصانه، أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]، وفي القراءة الأخرى المتواترة، (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْادَهُ)، والمعنى واحد في القراءتين؛ لأن عبده عبد مفرد مضاف إلى الضمير المعرفة وهذه الإضافة يكسبه العموم فالمعنى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْادَهُ)، أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]، فـ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ  [الزمر:36]، فالوصف هو العبودية، والحكم المرتب عليها الكفاية، فيكون للعبد من الكفاية على قدر تحقيقه للعبودية، يكون كفايتك على قدر عبوديتك، على قدر تحقيقك للعبودية والأمثلة على هذا في القرآن كثيرة جدًا.

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، فالحكم لَنَهْدِيَنَّهُمْ والوصف المجاهدة جَاهَدُوا فعلى قدر مجاهدة العبد على قدر ما يحصل له من الهداية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم:96]، سواء فسر بأنه المودة في قلوب العباد والمحبة أو المودة منه فعلى قدر إيمانهم وأعمالهم الصالحة على قدر ما تحبه قلوب الخلق أو يحبهم الله وبين المعنيين ملازمة ولا نحتاج أن نرجح هذا عرضًا كذا زيادة لأن الله إذا أحب عبدًا نادى جبريل إني أحب فلان...[9]، إلى آخره.

في أحد ذكر مثال أخر اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]، هذا الوصف، والحكم إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ فعلى قدر إقامتها، ومعنى إقامتها أن تأتي بها محقق شروطها وأركانها وواجباتها وخشوعها على قدر تحقيق هذه المعاني على قدر ما يكون من التقدير، وهذا جواب واضح لا يحتاج إلى كثير كلام، وبعض الناس يقول: لماذا ما تنهانا صلاتنا عن الفحشاء والمنكر؟

يقال: على قدر إقامته على قدر ما يكون لها من التأثير، وأيضًا وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2]، لما يحصل عندنا من التقوى على قدر ما يحصل لنا من التفريج من الكروب والمضايق والشدائد وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:3]، يحصل له من الرزق، قدر ما يحصل له من التقوى والرزق هنا يشمل، رزق الأبدان بالأقوات، ورزق القلوب بالهدايات والعلوم النافعة وعلى قدر التقوى.

رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يرث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها[10]

وهذا كثير في القرآن كثير.

القواعد العامة:

قاعدة: متى ما علق الله -تعالى- علمه بالأمور بعد وجودها كان المراد بذلك العلم الذي يترتب عليه الجزاء.

هذه القاعدة أيضًا تنحل بها إشكالات لناظر بكتاب الله  متى علق الله -تعالى- علمه بالأمور بعد وجودها؟ كان المراد بذلك دائمًا العلم الذي يترتب عليه الجزاء، معلوم أن الله لا يعذب الناس ولا يؤاخذهم ولا يحاسبهم بمقتضى علمه أليس كذلك؟! وإلا قبل أن يخلقهم يعلم من يطيعه ويعصيه أليس كذلك؟!

فنحن نجد في القرآن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المائدة:94]، الله يعلم من يخافه بالغيب وإن لم يبلوه بهذا أليس كذلك؟ لكن ما المقصود بهذا العلم ليس انكشاف شيء جديد بالنسبة لله فعلمه محيط بكل شيء، وإنما المقصود العلم الذي يترتب عليه الجزاء؛ لأن الله لا يحاسب الناس ولا يعذبهم بمقتضى علمه السابق الأزلي وإنما إذا وقعت منهم المخالفة فإنه يحاسبهم على ذلك، والله يقول: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة:143]، والله يعلم من اتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، الله يعلم من اتبع الرسول ومن ينقلب قبل تحويل القبلة قبل أن يخلقهم، هذا العلم الذي يترتب عليه الجزاء.

وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ [الحديد:25]، وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [العنكبوت:11]، وهكذا في قوله: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [الكهف:12]، والله يعلم أي الحزب.

قاعدة: المحترزات في القرآن تقع في كل المواضع عند الحاجة إليها.

المحترزات في القرآن يعني تأتي أحيانًا جملة اعتراضية أو نحو ذلك؛ لدفع اللبس مثلاً، أو لبيان استثناء، في قوله -تبارك وتعالى: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ [النمل:91]، المحترز هو وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ، جاء به؛ لئلا يفهم أحد يقول: أمرت أن أعبد رب هذه البلدة وغيرها؟ قال: وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ.

لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ [النساء:95]، الاحتراز غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ؛ لبيان أن هؤلاء مستثنون، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاً آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء: 79]، والاحتراز  وَكُلاً آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا، فهمناها سليمان.

وبعض العلماء يقول: إنه حصل نسخ يعني حكم سليمان بوحي، وحكم داود  بوحي لكنه نسخ حكم داود بالوحي وجاء حكم سليمان وكله حق وبعضهم يقول حكم سليمان وحكم داود هما أحق، فداود حكم بالغنم لهم بدل من الثمر والزرع الذي أفسد؛ لأن ثمن الغنم يقارب ثمن ما حصل من النقص في الزرع فحكم لهم به لربما لم يتيسر، لم يتهيأ بيع الغنم وإعطائهم الثمن أو أنهم رضوا بالغنم مكان ذلك والحكم صحيح، وسليمان كان حكمه مطابق بدقة للزرع أن الغنم تكافئ الزرع بدفعها إليهم من أجل حلبها والانتفاع بجز أصوافها مقابل هؤلاء على الزرع فيكون هذا أدق.

والأقرب أن حكم سليمان كان هو الصواب، والله قال: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ، ثم قال: وَكُلاً آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:79]، دل على أن المسألة اجتهادية فلا يفهم من ذلك انتقاص داود قال: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ، قال وَكُلاً آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:79].

قاعدة: كل حكاية وقعت في القرآن فلا يخلوا أن تكون مصاحبة بما يدل على ردها أو لا؟

فالأول: دليل على بطلان ذلك المحكي.

 والثاني: قد يدل على صحة ذلك المحكي.

هذه غالبًا قاعدة أغلبية كما ذكرنا في القواعد، كل حكاية في القرآن فلا يخلوا أن تكون مصاحبة بما يدل على ردها أو لا؟ قد تكون مصاحبة بما يرد على ردها قبلها أو بعدها أو في أثنائها مثال على ما ورد، ما يدل على بطلانها قبلها قوله -تبارك وتعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ  [الأنعام:91]، فمقولتهم هذه باطلة، بل ذكر أيضًا ما يدل على بطلانه يقول: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ [الأنعام:91]، لأن قائل هذا يهودي وهو يؤمن بموسى والكتاب الذي نزل عليه فرد الله عليه ذلك: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [التغابن:7]، كلمة زعم تأتي في مثل هذا الموضع لتوهين القول وتكذيبه، ورد بعدها أيضًا: قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن:7].

مثال على ما ورد قبله فقط ما يدل على بطلانه إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [المائدة: 110]، فقولهم: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ قول باطل ذكر قبل ما يدل على بطلانه: فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ فقائل هذا كافر، جاء قبله ما يدل على بطلانه، وهكذا: وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ... إلى قول: وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ۝ وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ۝ بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ ۝ قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ۝ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [المؤمنون:74-83]، فذكر قبله ما يدل على بطلانه: بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ.

وهكذا أيضًا مثل على ما ورد بعده ما يدل على بطلانه: وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأنعام: 138]، فهنا ذكر أن هذا افتراء ذكر بعده ما يدل على بطلانه سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ [الأنعام:139]، هذا يدل على: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا [الفرقان:4] وهكذا، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ۝ قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الفرقان:5-6].

وهكذا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُورًا ۝ انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً [الفرقان:8-9] فيأتي بما يرد هذه الأقوال إما قبلها وإما بعدها أو قبلها أو بعدها، وأحيانًا يأتي بأمثالها ما يدل على بطلانها وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا [الأنعام:136] فجاءت بالوسط بزعمهم وهذا لشركائنا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ  [الأنعام:136].

وأحيانًا يكون الكلام الذي قيل يشتمل على حق وباطل فيميز ذلك إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1] فماذا قال الله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ [المنافقون:1] هذه من أجل أن يأتي الرد بعدها لألا يلتبس وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1] هم قالوا أن المنافقين لكاذبون، هم قالوا نشهد أنك رسول الله، وهو رسول الله حقًا لكن لما كانوا ما يعتقدون هذا قال: يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ والرد بنفس الطريقة جاب لفظ الشهادة وأن المؤكدة وباللام التي تدل على القسم، نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ يشهدون بمنزلة القسم، وبنفس القوة في تركيب الكلام رد عليه لكن جاء بهذه:  وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ؛ لئلا يفهم أحد أن قوله: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ أن هذه المقولة غير صحيحة، فالنبي ﷺ هو رسول الله حقًا لكن كذبوا حيث لم يعتقدوا ذلك.

وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ [التوبة:61] يعني يسمع كل من جاءه يصدق كل من يتكلم معه قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ [التوبة:61] ليسمع ما فيه الخير لكم المصلحة والنفع، قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ.

وأحيانًا يذكرون قضيتين مثلاً أو أكثر فيبطل واحدة ويسكت عن الأخرى مما يدل على أنها حق وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا [الأعراف:28] ذكروا قضيتين والله أمرنا بها فجاء الرد: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف:28] فرد عليهم واحدة والثانية سكت عنها مما يدل على أنها صحيحة أنهم كانوا يجدون إباءهم على الفواحش.

وفي قصة أصحاب الكهف: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف:22]، ثم قال: رَجْمًا بِالْغَيْبِ [الكهف:22] إذن هذين القولين باطلين، ثم قال: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف:22] ماذا قال: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ [الكهف:22] هل أبطله؟

لا، ففهمنا منه كما قال شيخ الإسلام أن هذا هو القول الصحيح[11]؛ لأنه سكت عنه لكننا نقول: بأن هذا غالبًا ما هو دائمًا، والقواعد أغلبية؛ لأن أهل البدع من القبوريين يحتجون بقوله -تبارك وتعالى: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21]، بعضهم يقول: الذين قالوا هذا هم الكفار.

وبعضهم يقول: الذين قال هذا هم المسلمون، وهذا لا يمكن أن يقوله أهل الإسلام في زمانهم، وإنما يقوله أهل الأوثان وعباد القبور من المشركين، لا شك أن البناء على القبور محرم في الشرائع السابقة بدليل أن النبي ﷺ قال: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد[12].

فلو كان يجوز في شريعة لما لعنوا، فبعض القبوريين يحتجون بهذه الآية، يقولون: هذه القاعدة التي تقولونها الآن سكت عنه، نقول: غالبًا.

قاعدة: ما ورد في القرآن حكاية عن غير أهل اللسان من القرون الخالية إنما هو من معروف معانيهم وليست من حقيقة ألفاظهم.

وهذا أيضًا ينحل به إشكالات تلاحظون القصص التي ذكرها الله عن الأنبياء مثلاً، وما حصل من المجاوبة بينهم وبين أقوامهم، بل قصة آدم إذا نظرت قارنت المواضع التي وردت فيها تجد تفاوت في الكلام الذي قاله إبليس مثلاً، وهكذا في كلام الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، لوط يقول لقومه: إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ ۝ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ ۝ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ۝ قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ [الحجر:68-71]، وفي سورة هود: قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ۝ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ۝ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود:78-80].

فهذا التفاوت في الكلام، امرأة إبراهيم في سورة هود حين بشرت بالولد: قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [هود:72]، وفي سورة الذاريات: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ [الذاريات:29]، يعني صيحة، فَصَكَّتْ وَجْهَهَا [الذاريات:29] من الدهشة،  وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ [الذاريات:29]، ذكرت كلمتين فقط: عَجُوزٌ عَقِيمٌ، وهناك قالت: يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا هذه القاعدة تبين المراد أن ما ورد في القرآن حكاية عن غير أهل اللسان العربي يعني من القرون الخالية إنما هو من معروف معانيهم، وليس بحقيقة ألفاظهم؛ لأن نقل الكلام من لغة إلى أخرى إنما هو نقل في المعنى، لا يمكن حرفيًا، فتارة يذكر الله  في موضع من القضية، أو من القصة ما يناسب هذا المقام، وتارة يذكر منها ما يناسب في هذا المقام، وهكذا.

قاعدة: إذا كان متعلق الخطاب مقدورًا حمل عليه وأن كان غير مقدور صرف الخطاب لثمرته أو لسبب.

هذه القاعدة نافعة إذا كان الخطاب توجه إلى المكلف نحن نعلم أن الله لا يكلف نفسًا ألا ما أتاها لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، والشريعة لم تأت بتكليف ما لا يطاق، وما يطلب فعله من المكلف أحيانًا يأتي الأمر بشيء: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ [آل عمران:133]، الآن يمكن تجري تروح تسرع إلى المغفرة وإلى الجنة بقدميك يمكن هذا؟ كيف المسارعة إلى المغفرة؟ هل هذا مقدور؟ إلى المغفرة إلى عين المغفرة؟

الجواب: لا، لكن إذا توجه الخطاب إلى المكلف في أمرٍ غير مقدور عليه فإنه ينصرف إلى سببه أو إلى ثمرته، فهنا إذا قال الله : وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ما معناه؟ يرجع إلى سببه، يرجع إلى سبب المغفرة وهو طاعة الله اجتناب معصيته، فانصرف إلى السبب هذا في مطلوب الفعل.

وفي مطلوب الترك يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12] الظن أمر يهجم على القلب من غير طلب ولا إرادة، فالإنسان إذا وضع في ظنه في قلبه هذا الظن الفاسد لا يؤاخذ الإنسان لا يملك قلبه لكن هنا إذا كان هذا الأمر لا يطيقه المكلف فيتوجه الخطاب إلى النتيجة والثمرة، وهي أن لا يحقق، إذا ظن لا يحقق، وبناءً عليه لا يتجسس، ولا يتحسس، ولا يصدر منه قول ولا فعل اتجاه هذا الإنسان ليظن به هذا الظن السيئ، في إقامة الحد على الزاني والزانية الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2] الرأفة أرق الرحمة، فالإنسان عندما يرى الزاني والزانية يجلد قد يرق له ويتألم قلبه، هل نقول: تأثم أنت على هذه الرقة التي وقعت في قلبك، يأثم؟ لا، والنهي يدل على أن الرأفة محرمة بهذه الحال يقول: أنا لا أملك قلبي، يقول: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] إذا كان هذا غير مقدور للمكلف فيتوجه الخطاب إلى ثمرته، ما هي الثمرة؟

أن يقول: خلاص وقفوا عن هذا الحد، لا تقيموا الحد، أو يقول: يكفي هاتان الجلدتان، هو لم يتحمل ضعيف مسكين، فهذا هو المحرم، فيتجه الخطاب إلى النهي، يتوجه إلى الثمرة، وهكذا في الأمر والنهي، فشروط التوبة المعروفة من أشهرها الندم، وهو مأمور به، وإذا كان الإنسان لم يندم، كما يقول شيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله: "قد يصيب قبلة من امرأة في غاية الجمال يحبها فكل ما تذكر ذلك تمنى لو ظفر بمثلها، وفرحت نفسه، وتحركت شهوته، ونقول له: لازم تندم، هنا يقول: أنا لا أستطيع، والإنسان أحيانًا يندم يخسر في تجارته ويندم، ويحاول دفع الندم ولا يستطيع فهذا أمر غير مقدور للمكلف، إذن يتوجه إلى سببه، كيف يتوجه إلى سببه؟

الآن ماذا فعل حتى يحصل له الندم؟ يقول: أنا عصيت الله -، وهذه المعصية مثل الطعم الذي قد يكون سبب لهلاك الإنسان، وإذا تذكر عظمة الله ندم، الآن لو أن رجلاً واقع امرأة في غاية الجمال بارعة الجمال ثم قيل له: إن هذه المرأة التي واقعتها فيها إيدز، فإنه يتحول بما عنده من اللذة إلى ألم في كل ذرة في جسده.

لو أكل الإنسان أكلة محرمة أو أكلة مباحة في غاية اللذة، من أطيب الطعام ويتلذذ، ثم قيل: أكلته؟! هذا ما وضع لك هذا وضع لغيرك هذا فيه سم، كيف تتحول اللذة؟ وما الذي يحصل له؟ يتحول اللذة والمتعة إلى ندم وألم، حتى لو كان الخبر غير صحيح، لكن إذا كان يثق بمن قال له يبدأ يشعر بحرارة بجسمه وبدأ يشعر بمغص، حتى لو أن الخبر ليس صحيحًا، فهنا حينما يطلب الندم في التوبة فينظر الإنسان في الأمور الجالبة لهذا الندم، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

تم بحمد الله وفضله.

  1. ذكره البخاري معلقًا في صحيحه (3/ 179).
  2. انظر: البيان والتبيين، لعمرو بن بحر الجاحظ (3/ 269)، والشعر والشعراء، لعبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (1/ 319).
  3. البيت لزهير بن أبي سلمة. انظر: شرح المعلقات التسع (ص:211)، وشرح ديوان الحماسة (ص:369).
  4. أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها، برقم (83)، وبرقم (124)، باب السؤال والفتيا عند رمي الجمار، باب السؤال والفتيا عند رمي الجمار، ومسلم، كتاب الحج، باب من حلق قبل النحر، أو نحر قبل الرمي، برقم (1306).
  5. أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلاة كفارة، برقم (526)، ومسلم، كتاب التوبة، باب قوله تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، برقم (2763).
  6. أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب تحريض النبي ﷺ على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب، برقم (1127)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح، برقم (775).
  7. أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125]، برقم (3349)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة، برقم (2859).
  8. أخرجه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب إذا حرم طعامه، برقم (6691)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته، ولم ينو الطلاق، برقم (1474).
  9. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، برقم (3209)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أحب الله عبدا حببه لعباده، برقم (2637).
  10. البيت لعبد الله بن المبارك -رحمه الله، انظر: الآداب الشرعية والمنح المرعية (1/ 144).
  11. انظر: مجموع الفتاوى (13/ 367).
  12. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في قبر النبي ﷺ، وأبي بكر، وعمر -ا، برقم (1390)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد، على القبور واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد، برقم (529).

مواد ذات صلة