بسم الله الرحمن الرحيم
الأسماء الحسنى
(12) المَلك المالك المليك (المجلس الثاني)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فتحدثنا في الأسبوع الماضي عن اسم الله -تبارك وتعالى- المَلك، والمليك، والمالك، وبقي اليوم الحديث عن الأمر السابع، وهو ثمرات الإيمان بهذه الأسماء.
فنقول: هذه الثمرات:
أولا: دعاؤه بها دعاء المسألة ودعاء العبادة:
فالملك، والمليك كيف يكون دعاء المسألة بالنسبة لهذين الاسمين الكريمين؟، أن يقول العبد: اللهم إني أسألك بأنك أنت الملك، كما جاء في صحيح مسلم عن النبي ﷺ: (اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي، وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)([1]).
وقوله –ﷺ-: (اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، لا إله إلا أنت، رب كل شيء ومليكه, أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه)([2]).
وأما دعاء العبادة فكما جاء عن النبي ﷺ في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم أيضاً يقول ﷺ: (ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول، فيقول: أنا الملك، أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟، من ذا الذي يسألني فأعطيه؟، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟، فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر)([3]).
فيتعبد الإنسان لله -تبارك وتعالى- بالسؤال, ويتعبد أيضاً بالاستغفار، ويتعبد أيضاً بالذكر، ويتعبد أيضاً بالصلاة والعبادة حتى يضيء الفجر، وقد ذهب جماعة من أهل العلم سلفاً، وخلفاً عند الكلام على قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا الإسراء: 78، إلى أن المعنى: أن الملائكة تشهده، أعني ملائكة الليل،وملائكة النهار وأيضاً يشهده ربنا -تبارك وتعالى- أخذاً من مثل هذه الروايات "حتى يضيء الفجر"، وهذا الذي ذهب إليه الحافظ ابن القيم -رحمه الله تعالى-([4]).
وأما المالك فإننا ندعو بهذا الاسم دعاء المسألة, كما جاء من حديث أنس أن النبي ﷺ قال لمعاذ : (ألا أعلمك دعاء تدعو به لو كان عليك مثل جبل دينًا لأدى الله عنك؟ قل يا معاذ: اللهم مالك الملك, تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، رحمن الدنيا والآخرة, تعطيهما من تشاء، وتمنع منهما من تشاء، ارحمني رحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك)([5]), وهذا حسنه الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله .
وأما دعاء العبادة فيما يتعلق بهذا الاسم الكريم فيكون باعتقاد العبد واستشعاره وإقراره, وعمله, وخضوعه حيث يدرك أن الله -تبارك وتعالى- هو الذي يملكه, ويملك ما في يده, وأن كل ما في هذا الكون فهو ملك لله وحده لا شريك له، كل ما في أيدي هؤلاء المخلوقين فهو ملك لربنا, ومليكنا, وخالقنا --, وهذا الذي في اليد إنما استخلفنا الله فيه ابتلاء, وامتحاناً لينظر كيف نعمل، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًاالملك: 2، هل نرد هذا الملك والأملاك لمالكها الحقيقي --؟ أو أن الإنسان يتعاظم ويفتخر ويتكبر ويتجبر ويقول: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي؟ القصص: 78.
وهذا كلام أذكره على سبيل الإجمال, وسيأتي إيضاح ذلك بإذن الله -تبارك وتعالى- بعد قليل في محله، والمقصود أن من علم أن الله هو الملك وهو المالك فإنه يخضع له الخضوع الكامل، فلا ينازع ربه -تبارك وتعالى- بشيء من ملكه، ولا ينازع ربه -تبارك وتعالى- بشيء من قضائه، ومن دينه، وشرعه
من علم أن الله هو الملك وهو المالك فإنه يخضع له الخضوع الكامل، فلا ينازع ربه -تبارك وتعالى- بشيء من ملكه، ولا ينازع ربه -تبارك وتعالى- بشيء من قضائه، ومن دينه، وشرعه
، الله -تبارك وتعالى- هو الملك فما أجراه عليك من الأقدار، وما يقضيه الله -- على عبده فينبغي أن يتلقى ذلك بالتسليم, والقبول.
وكذلك أيضاً ما يحكم به ربنا -- ديناً وشرعاً ليس للعبد أن يعترض، وأن يتمنع، أو يجحد، أو يستنكف من حكم الله --، وإنما ينقاد ويذعن, سمعنا وأطعنا: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ النور: 51.
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا الأحزاب: 36.
فما تقول المرأة: لماذا نحن في الحجاب؟ لا تقول المرأة: لماذا القوامة للرجل؟ لا تقول المرأة: لماذا يحثنا الشارع على البقاء في البيوت، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ؟ الأحزاب: 33، ولا يعترض أحد على شيء من أحكام الله التي قد لا توافق هواه بوجه من الوجوه .
ثانياً: أن يكون الله -- هو ملاذنا ومعاذنا:
نلجأ إليه وحده -تبارك وتعالى- دون أحد سواه، إذا أدرك العبد أن الله -- هو الملك، وهو المالك, وأن الملك جميعاً بيد الله فإنه لا يبتغي أحداً سوى الله من أجل أن يمنحه، أو أن يعطيه, أو أن يسد حاجته، أو أن يمنعه من المخلوقين حال المخاوف, وإنما يمتنع باستعاذته واستجارته, والتجائه بربه ومليكه الذي لا غنى له عنه بحال من الأحوال.
فالله -تبارك وتعالى- يجود ويعطي، ويمنح، الله يعيذ وينصر، ويغيث، فيجب أن يلوذ به اللائذون، وأن يستجير به المستجيرون، وأن يتوجه إليه المضطرون, وأن يقصده وحده لا شريك له أصحاب الحاجات والفقر والفاقات، وأن يعلقوا قلوبهم بالله وحده لا شريك له
يا مَن ألوذ به فيما أؤمـــــــلهُ***ومَن أعوذ به مما أحاذرهُ
الملوك يحتاجون إلى غيرهم, والله -تبارك وتعالى- غني عن كل من سواه، فالفقير لا يلاذ به, ولا يستعاذ به, ولا يستجار به, إنما الذي يستحق ذلك هو الذي يملك أزمّة الأمور، هو الذي يستطيع أن يرفع عنك الضر، وأن يمنعك من كل أمر مخوف، هو الذي يستطيع حمايتك, وكفايتك، فتوكل عليه، وفوض أمرك إليه, وأما إذا علقت قلبك بأحد سواه -- فإن الله يسلمك إلى هذا الذي توكلت عليه، ولجأت إليه، عندئذ يكون الخذلان العظيم الذي لا يقادر قدره.
فمن توجه إلى ربه ومليكه -- حصل له مقصوده ومطلوبه من النصر, والقوة, والإعانة وألوان اللذات, والمتع والأمور التي يبتغيها الناس في مطالبهم الدنيوية والأخروية.
وبناءً على ذلك أقول: لا يصح أن يتوكل الإنسان إلا على الله وحده لا شريك له، ولهذا جاء التقديم للمعمول، أو للجار والمجرور في قوله --: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا المائدة: 23، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ آل عمران: 122.
وهذا يفيد الحصر، فالتفويض لا يكون لأحد سوى الله --، وهكذا الضراعة، إنما ينكسر الإنسان ويتضرع ويتخشع بين يدي الملك الجبار العظيم الأعظم --، ولا يخضع للمخلوقين, ولا ينكسر للمخلوقين، قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ آل عمران: 26.
قال ابن عيينة: دخل هشام الكعبة، فإذا هو بسالم بن عبد الله، فقال: سلني حاجة.
قال: إني أستحيي من الله أن أسأل في بيته غيره.
فلما خرجا، قال: الآن فسلني حاجة.
فقال له سالم: من حوائج الدنيا، أم من حوائج الآخرة؟
فقال: من حوائج الدنيا.
قال: والله ما سألت الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها([6]).
وقال أحد الملوك لأحد الصالحين: ألك حاجة؟ قال: نعم, قال: ما هي؟ قال: تطعمني إذا جعت؟، قال: أجل، قال: تسقيني إذا ظمئت؟، قال: نعم, قال: وتشفيني إذا مرضت؟، فقال: ألتمس لك الأطباء، فقال: تحييني إذا مت؟، قال: ليس ذلك إليّ، فقال له: لم سألتني عن حاجة لا تقدر على قضائها؟!.
فالإنسان إذا عرف أن الله هو الملك المالك حقيقة فإن قلبه يطمئن إليه، ويركن إليه؛ لأنه هو الذي يملك خزائن السموات والأرض، فلا يسأل عند الحاجة إلا الله.
استغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره([7])
فلا يأسرك أحد من المخلوقين، والإحسان إلى الناس لا شك أنه يأسرهم ويخضعهم، فينبغي أن يكون انكسارنا, وافتقارنا وتوجهنا إلى الله وحده لا شريك له, وبهذا يعيش الإنسان رافع الرأس عزيزاً لا يخضع إلا لله -.
وفي وصية النبي ﷺ لابن عباس -ا-: (يا غلام، أني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله, وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)([8]).
فلا يوجد في هذا الكون أحد يستطيع أن يحول بينك وبين درهم واحد من الرزق كتبه الله إليك, ولا يستطيع أحد بهذا الكون مهما عظمت قوته ومكانته أن يحول بينك وبين لحظة من العمر قد كتب الله لك أن تعيشها.
ويا لها من معانٍ لو أن القلوب تشرّبتها، وآمنت بها حقيقة، وعملت بمقتضاها, وإذا كان القلب خاوياً فإنه يضعف ويخاف من كل شيء، حتى من الأمور غير المخوفة, حتى ممن لا يملك له شيئاً ولو على سبيل المجاز مما يضاف إلى المخلوقين.
لا تخضعنّ لمخلوقٍ على طمعٍ *** فإن ذلك وهنٌ منك في الدينِ
واسترزق اللهَ مما في خزائنه *** فإنّ رزقك بين الكاف والنونِ
وقد سئل شقيق البلخي –رحمه الله- عن سبب توبته, فقال: كنا في سنة جدباء، والناس في قحط وبلاء، فرأيت غلاماً يمرح ويضحك, فقلت له: ألا تخشى الفقر والجوع؟ فقال: إن سيدي عنده قرية, وفيها بستان مليء من كل الثمار، فعلام أخاف وأحزن؟، يقول: فقلت: إن هذا العبد لا يستوحش؛ لأن مخدومه يملك بستاناً، فكيف أستوحش وأحزن وربي يملك خزائن السموات والأرض؟
يقول: فكان ذلك سبباً لتوبتي وأوبتي وعودتي إلى الله --.
من الناس من قد يكون أبوه، أو من يعينه ويحميه من المُطاعين من الملوك والكبراء, ونحو ذلك، فلربما يتصرف تصرفات غير محسوبة؛ لأنه يثق بحمايته, فالمؤمن الذي أطاع الله واتقاه وآمن به، وخافه وعبده كما أمره ينبغي أن ينطلق، وأن يعمل في مرضاة الله وطاعته، وأن يدعو إلى سبيله من غير وجل، ولا خوف، ولا تردد، وأن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، وينصح للناس بالحكمة, والموعظة الحسنة، وأما الخوف الذي يملأ القلوب فإن ذلك من نقص اليقين والثقة والمعرفة بالله -.
وهكذا ما يقع في القلوب من اليأس أو القنوط، إنما يكون ذلك من ضعف صلتنا بالله --، ومن قلة معرفتنا به، وهكذا الأحزان التي تغمر الكثير من القلوب، المخاوف التي تنتاب الناس، القلق في هذه الحياة, لماذا يقلق الإنسان والله -تبارك وتعالى- هو سنده، وهو ناصره إذا كان مطيعاً؟, ولذلك فإن العبد على قدر طاعته وإقباله على الله, وعلى قدر معرفته به يحصل له من الانشراح وسعة الصدر, ولو كان لا يملك شيئاً من الدنيا؛ لأن عنده الثقة، وراحة الضمير والطمأنينة، وقد يملك الإنسان المليارات، وهو في غاية الهلع والجزع والخوف, يخشى من وقوع حرب، أو تغير الأحوال الاقتصادية، أو تغير أسعار العملات، أو أسعار الذهب، أو أسعار الأسهم، ثم بعد ذلك يخسر خسارة فادحة, ولهذا تجد أن هؤلاء تقف قلوبهم، ولربما تتوقف الدماء في عروقهم بسبب وقع مثل هذه الأمور المتغيرة، فتسمع عن هذا أنه مات, وأن هذا قد مرض, وأن هذا قد أصيب بجلطة, ونحو ذلك مما يقع فيه بعض من قلت معرفته بالله -.
فالله -تبارك وتعالى- ينبغي أن نقبل عليه، وأن نعرفه بهذه الأسماء الحسنى، فترتبط فيه كل الارتباط، وعندئذ نجد للحياة طعماً آخر، غير ما يجده الكثيرون، فيلتذ الإنسان بالطاعة والعبادة، ويدرك أن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.
ثالثاً: أن نعلم أن الملك الحقيقي لله وحده لا شريك له:
كما قال النبي ﷺ: (لا مالك إلا الله)([9])، وفي رواية: (لا ملك إلا لله)([10]).
نعم، بعض المخلوقين قد يقال له: ملك، لكن هل ما يطلق عليه من ذلك الوصف، أو الاسم هو نفس ما يطلق على الله -؟
أبداً، إنما الملك الحقيقي لربنا وخالقنا --، قد نقول: فلان يملك كذا، فلان يملك داراً, يملك مالاً، لكن هل ملكه لهذه الدار، أو لهذه الأموال كملك الله؟، الجواب: لا.
فإن ذلك إنما هو بتمليك الله إياه، من الذي أعطاه هذا الملك؟، بعض قصور السلاطين قد كتب عليها: لو بقيت لغيرك لما وصلت إليك, كيف تحول السلطان إليه فصار أميراً، أو ملكاً، أو خليفة؟، لمّا انتقل من غيره، لما سُلب ذلك الإنسان الذي قبله ملكه، وصار إلى الفناء والعدم.
وهكذا الأموال التي في أيدينا من أين جاءت؟ أين الملوك الذين كانوا في القرون الماضية؟ ليس في أيديهم شيء، أُدخلوا إلى قبورهم, وليس معهم شيء سوى الأكفان، فتتحول هذه الأموال إلى من بعدهم.
وما في أيدينا قد استخلفنا الله عليه, ثم بعد ذلك سيُنزع منا وسيصير إلى غيرنا كما صار إلينا من غيرنا، فهذه سنة الحياة.
فالملك الحقيقي لله، فهو الذي يعطي ويمنع، يعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، والله -- أنكر على المشركين حينما عبدوا غيره، وأنه هو الملك -- الذي ينبغي أن تخضع الرقاب والأعناق إليه دون من سواه.
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَالنحل: 73، وقد يتذلل الإنسان، ويكون عبداً لغيره وإن لم يسجد له، أو يركع، أو يصلِّ، أو يصوم، أو يذبح، أو يطوف, قد يكون عبداً لمن يعتقد أن قراره بيده، بعض الموظفين قد يكون عبداً لمديره في المؤسسة، أو الشركة يعصي الله بسببه، ويترك أمر الله بسببه، كل ذلك خوفاً على ماله, على وظيفته، على رزقه، ولربما كان يطمح أن يعطيه، أو أن يوليه، أو نحو ذلك، فيتزلف إليه، ويتقرب إليه، ويُخضع نفسه، ويذلل قلبه وبدنه لهذا المخلوق الضعيف وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ النحل: 73.
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ المائدة: 76، ولهذا يقول الله للمشركين: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ سبأ: 22، من معين.
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍفاطر: 13، هذا الجزء اليسير في النواة لا يملكونه, فكيف بما هو أعظم من ذلك؟!, وإنما الذي يملك خزائن السموات والأرض هو الله وحده لا شريك له، فهو الذي يرزق ويعطي، وهو الذي يملك الموت والحياة والنشور والنفع والضر، وإليه يرجع الأمر كله، هو الذي يملك جميع الممالك العلوية والسفلية، وكل من في هذا الكون فإنما هو مملوك عبد مفتقر إلى الله كل الافتقار.
يقول أبو الدرداء عن النبي ﷺ في قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ الرحمن: 29: من شأنه أن يغفر ذنبًا، ويفرج كربًا، ويرفع قومًا، ويخفض آخرين([11]).
والله يقول: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌالبقرة: 247، والنبي ﷺ يقول: (لا تسبوا الدهر، فإن الله قال: أنا الدهر، الأيام والليالي لي، أجددها وأبليها، وآتي بملوك بعد ملوك)([12]).
وقد يغفل الإنسان عن هذه المعاني أحياناً، وإذا حصل بيده شيء إما من المُلك، وإما من الأعيان التي ملكها فقد يتعاظم على الناس، ويظن أنه أعلى درجة منهم، وأنه يملك لهم نفعاً، أو ضرًّا، هذا فرعون نادى في قومه، قال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ الزخرف: 51، ومرة دعاهم: فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى النازعات: 23، 24.
لما رأى هذه الأموال والقصور، والأنهار، والزروع، والثمار، والبشر الذين يطيعونه ويخضعون له، تعاظم هذا التعاظم فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَالزخرف: 54، فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَالزخرف: 55، 56.
فالله -تبارك وتعالى- جعل إهلاكه عبرة كما قال الله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى النازعات: 26.
فكل من سولت له نفسه أن يتعاظم تعاظماً لا يليق بمثله، فعليه أن يتذكر هذه السنن السالفات، والمَثُلات التي أوقعها الله بهؤلاء الذين تعاظموا وانتفشوا وتعدوا طورهم، وفعلوا شيئاً أو قالوه مما لا يصلح لأمثالهم.
فالله هو الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما، وإليه المصير، فقد سُئل أعرابي يملك قطيعاً من الإبل، لمن هذه؟ قال: هي لله في يدي.
وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن الحق، هذا البيت الذي تملكه، وهذه المؤسسة، وهذه التجارة، وهذا الدكان، وهذه السيارة، وهذه المراتب والشهادات والوظائف، وغير ذلك مما يطرب له كثير من الناس، كل ذلك إنما هو ملك لله قد وضعه بين يدك مؤقتاً، لينظر كيف تعمل، كما يضع الإنسان أحياناً بيد ولده يريد من ذلك أن يرى تصرفه بهذا المال، كيف يصنع به، ثم يحاسبه بعد ذلك على ذلك الصنيع إذا أساء استعمال هذا المال، هذا الطبيب الحاذق الذي لربما يتعلق به الكثيرون، ويظنون أنه ينجيهم، وأنه قادر على أن يخلصهم من مرض عضال حل بهم، قد يتوقف عرق في رأسه، أو في قلبه، أو غير ذلك، ثم يتحول إلى جثة هامدة، لربما بقي هكذا سنوات، الذين يرحمونه لربما يتمنون الموت له من أجل أن يستريح.
الملك لله مهما كانت مقدراتنا، مهما كان ذكاؤنا، مهما كانت أموالنا، ومراكبنا, مهما كان عندنا من الخدم, مهما كان عندنا من القصور، مهما كان عندنا من الأعوان، فينبغي أن نعرف أنها عارية، وأن المسألة مسألة وقت، طال أو قصر، لا ندري قد يموت الإنسان في لحظته هذه، ثم ينتهي كل شيء، لا يبقى معه شيء، فإذا صارت للإنسان ولاية، أو إدارة، أو صارت له أملاك, وأموال، فينبغي أن يتطامن.
من الناس -كما قال ابن القيم -رحمه الله- من يعجب من صاحبه الذي صارت له ولاية، كيف تحولت حاله وتغيرت أموره! فصار يترفع على أقرانه، وأصحابه، وإخوانه، وأخدانه، وتنكّر لهم غاية التنكر، كيف حصل هذا؟!.
يقول: فمثل هؤلاء قد يعظونه، وينصحونه، ويقول: الواقع أن هذا في حال من السكر، سكر الرئاسة أعظم من سكر الخمر([13]).
فكثير من الناس قد يتعاظم، قد يتغير تماماً إذا حصل له شيء من ذلك، هؤلاء مجموعة من الزملاء رشحوا صاحبهم ليكون رئيساً عليهم في هذه المدرسة، لربما يرون حالا أخرى تماماً، ما الذي غيره؟!.
أقول: الإنسان العاقل المؤمن يتطامن، مهما حصل له من الولايات، فإنه لا يغتر، سواءً كنت أميراً، أو وزيراً، أو مديراً، أو كنت تملك أموالاً طائلة، فينبغي أن تخضع لله وتتواضع للمخلوقين, لا ترتفع، فإن رفعتك إنما تكون بتواضعك: (من تواضع لله رفعه)([14]).
وهكذا هذه العين التي نبصر بها يمكن بلحظة أن يسلب الله عنها هذا البصر, ثم بعد ذلك يتحول حال الإنسان إلى شيء آخر.
وهكذا أيضاً في سائر ما بأيدينا من القوى والقُدر والإمكانات المادية والمعنوية، مهما بلغت مرتبة الإنسان من العلم، فإنه قد يحصل له خلل في عقله، وينسى كل شيء، تموت بعض خلايا المخ، وينسى، إذا قام لحاجة ينسى لماذا قام, بل قد لا يتمكن من معرفة ولده وزوجته، مَن هؤلاء؟, وماذا يريدون؟، ولماذا حضروا؟.
لا يعرف أقرب الناس إليه، فلا يغتر الإنسان بعلمه، أو ذكائه الحاد.
وهكذا إذا أعطاه الله فصاحة في اللسان، فينبغي أن لا يتبجح بهذا، ويكون مذموماً بذلك الصنيع، فالله قادر على أن يسلبه هذا اللسان بشل عضلته فقط، ثم بعد ذلك لا يستطيع الإنسان أن يتكلم، والله على كل شيء قدير.
وحينما ينظر الإنسان إلى أمور كثيرة، ويفكر بها يعرف أنه مربوب ضعيف عاجز, الله يقول لنبيه ﷺ وهو أكمل الخلق: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ الأعراف: 188.
فلا تظن أنك تستطيع أن تستشرف المستقبل, وبذلك تستطيع أن تأمن من المخاطر الاقتصادية التي لربما يتورط بسببها كثير من الناس، لا تظن أن عندك من المعرفة والعلم ما تستطيع أن تنجو به من الفتن، لا أكثر من اللهج والدعاء (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)([15]).
كن مفتقراً إلى الله -- في شئونك كلها.
ولا يظن الإنسان أنه بمهاراته الدعوية يستطيع أن يقنع الحجر, وأن يغير من أفكار الناس, وأن يحولهم من الضلال إلى الهدى قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا الأعراف: 188.
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَالقصص: 56، فالله هو الذي يملك القلوب, يأتي النبي يوم القيامة وليس معه أحد، هل ذلك لقلة فصاحته وبيانه أو لتقصير، أو لقلة معرفته وعلمه بالله والدار الآخرة، أو الأساليب المؤثرة في الإقناع أو نحو ذلك؟
الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- هم أعظم الناس بياناً، وأكثرهم نصحاً لأممهم، ومع ذلك تتخلف هذه الهداية إذا كان الله ما أرادها .
رابعاً: إنما تكون الطاعة المطلقة للمالك المَلِك المعبود -- دون من سواه:
لا يجوز لأحد أن يقول: أنا أطيع فيما أؤمر به، ما يأمرني به المخلوق، أبداً، إنما تطيع في غير المعصية، النبي ﷺ يقول: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)([16]).
بعض الناس يعمل في مكان, يعمل في مدرسة, يعمل في مؤسسة, مدير هذه المدرسة يقول له: افعل الشيء الفلاني, وهذا كثيراً ما يسأل عنه الإخوة والأخوات، أمرني بكذا، وأنا أعتقد أنه محرم، وقد أفصل من هذه المدرسة، ماذا أفعل؟ نقول: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ولا يجوز لك في حال من الأحوال أن تقول: أنا عبد مأمور، أنت عبد الله مأمور من قِبل الله فقط، أما المخلوق فلا يملك ذلك، ولا يستطيع أن يصل إليك بشيء من الضرر إلا ما كتبه الله لك، ولهذا قال الله لنبيه ﷺ في أول سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًاالأحزاب: 1.
ثم قال له لأن هؤلاء سيناصبونه العداوة، ويسعون للنيل منه, قال: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِالأحزاب: 3، فوض أمرك إلى الله فلا يستطيع هؤلاء أن يصلوا إليك بمكروه, فهذه تكون قاعدة عند الإنسان: الطاعة المطلقة لمن له الملك المطلق، أما المخلوق فملكه محدد، فإنما يطاع بما يوافق طاعة الله أو بما لا يكون معصية لله -.
إذا أمرك أبوك أو أمك بمعصية، فالطاعة لا تكون بالمعصية، فلابد من تقديم طاعة الملك الحق على طاعة من سواه، ولابد من تقديم حكمه على حكم غيره، فإن طاعته هي أوجب الواجبات.
خامساً: أن يتأدب الإنسان مع هذا الاسم:
لا يضيف إلى نفسه، ولا يرضى أن يضاف إليه بعض الألقاب التي لا تصلح إلا لله --.
روى سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: (أخنعُ اسمٍ عند الله..)، وقال سفيان غير مرة: (أخنع الأسماء عند الله رجل تسمى بمَلك الأملاك)، قال سفيان: " يقول غيره: تفسيره شاهان شاه([17]).
وفي رواية: (أخنى الأسماء يوم القيامة عند الله رجل تسمى ملك الأملاك)([18]).
ومعنى أخنع يعني: أوضع اسم، وأذل اسم.
قال أبو عبيد: "الخانع هو الذليل، وخنع الرجل إذا ذل، وقال ابن بطال: وإذا كان الاسم أذل الأسماء كان من تسمى به أشد ذلا، ومعنى أخنى: يعني أفحش اسم، من الخنى، وهو الفحش في القول([19]).
قال ابن حجر: "استدل بهذا الحديث على تحريم التسمي بهذا الاسم لورود الوعيد الشديد، ويلتحق به ما في معناه، مثل خالق الخلق، وأحكم الحاكمين، وسلطان السلاطين، وأمير الأمراء"([20]). وذكر بعض أهل العلم: قاضي القضاة.
وجاء في رواية عند مسلم: (أغيظ رجل على الله يوم القيامة، وأخبثه وأغيظه عليه رجل كان يسمى ملك الأملاك، لا مَلِك إلا الله)([21])، نسأل الله العافية.
وجاء عن أبي هريرة : (اشتد غضب الله على من زعم أنه ملك الأملاك، لا مَلك إلا الله)([22]).
قال المناوي -رحمه الله-: أي أن من تسمى بذلك، ودُعي به، وإن لم يعتقده، فإنه لا ملك في الحقيقة إلا الله، وغيره إنما سمي ملكاً أو مالكاً بطريق التجوز -التوسع في العبارة-، وإنما اشتد غضبه عليه لمنازعته لله في ربوبيته وألوهيته، فهو حقيق بأن يمقته عليه، فيهينه غاية الهوان، ويذله غاية الذل، ويجعله تحت الأقدام في يوم القيامة لجرأته، وعدم حيائه في تشبهه بالله في هذا الاسم الذي لا ينبغي لأحد سوى الله --، الذي هو ملك الملوك وحده، وحاكم الحكام وحده، فهو الذي يحكم عليهم جميعاً دون من سواه([23]).
وذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله-: أن ذلك لمّا كان المُلك الحقيقي لله وحده، ولا مَلك على الحقيقة سواه، كان أخنع الأسماء، وأوضع الأسماء عند الله، وأغضب الأسماء هو شاهٍ شاه([24]).
أي: ملك الملوك وسلطان السلاطين، فهذا ليس لغير الله، وإضافة ذلك إلى المخلوق من أبطل الباطل، وأعظم التجني، وإذا قال الإنسان: قاضي القضاة، فإن قاضي القضاة هو الله --, قد وُجد بعض من تلقب بذلك في المتأخرين، وأنكره جماعة من أهل العلم، وهو أمر قد وفد إلى المسلمين من الأعاجم.
وقد أنكر ذلك جماعة من أهل العلم، كابن رجب، وابن الجوزي، وابن القيم، بل إن ابن رجب -رحمه الله- اعتبر ذلك من نواقض الإسلام, إذا قيل لإنسان: ملك الملوك، أو قاضي القضاة([25]).
وابن القيم -رحمه الله- فصل في هذا فيقول: لا يجوز لأحد أن يتسمى بأسماء الله المختصة به، وأما الأسماء التي تطلق عليه وعلى غيره، كالسميع، والبصير، والرءوف، والرحيم، فيجوز أن يخبر بمعانيها عن المخلوق، ولا يجوز أن يتسمى بها المخلوق على الإطلاق
لا يجوز لأحد أن يتسمى بأسماء الله المختصة به، وأما الأسماء التي تطلق عليه وعلى غيره، كالسميع، والبصير، والرءوف، والرحيم، فيجوز أن يخبر بمعانيها عن المخلوق، ولا يجوز أن يتسمى بها المخلوق على الإطلاق
، بحيث يطلق عليه ما يطلق على الرب --([26]).
سادساً: التحاكم إلى الله --:
لأنه ملك الملوك، فلا يُتحاكم إلي غير الله: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا النساء: 65.
فلا يجوز أن يُتحاكم إلى أي حُكم سوى حُكم الله -تبارك وتعالى-: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُيوسف: 40، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَالمائدة: 50.
فهو الذي يعلم مصالح الخلق، وما ينفعهم، وما فيه سعادتهم، وفلاحهم، ورشدهم، فلا يجوز أن يتوجه بالتحاكم إلى غيره --.
سابعاً: أن نعلم أن الله تعالى هو مالك يوم الدين:
قال –-: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ الفاتحة: 2 - 4.
فأضاف ملكه -- إلى يوم الدين؛ لأنه أعظم الأيام، وإذا كان مالكاً لذلك اليوم العظيم فكونه مالكاً لما دونه من الأيام من باب أولى، وأيضاً يمكن أن يقال: لأنه لا يدعي الملكَ في ذلك اليوم أحدٌ سوى الله -تبارك وتعالى-: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ غافر: 16، وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ الأنعام: 73.
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ الحج: 56، يعني: في يوم القيامة.
يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ غافر: 16.
وقد جاء في حديث عبد الله بن مسعود قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله ﷺ فقال: (يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك النبي ﷺ حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله ﷺ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ الزمر: 67([27]).
وفي حديث أبي هريرة –- مرفوعاً: (يقبض الله -تبارك وتعالى- الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه, ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟)([28]).
وفي حديث ابن عمر -ا- مرفوعاً إلى النبي ﷺ: (يطوى الله السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟، ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)([29]).
وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا طه: 108 لا يجرؤ أحد أن يقول: أنا، أو يدعي ملكاً, ومن رحمة الله بنا أن الملك في ذلك اليوم العظيم -الذي يتقرر فيه المصير النهائي للإنسان- لله الذي هو أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، فلا تُظلم نفس شيئاً، يوفي كل إنسان بما عمل، من غير أن ينقص من حقه قليل ولا كثير، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ الزلزلة: 7، 8، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فصلت: 46، وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا الأنبياء: 47.
وقد ذكر بعض المفسرين عند كلامه على سورة الفاتحة عند قوله تعالى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِالفاتحة: 4، ومَلِك يَوْمِ الدِّينِ في القراءة الأخرى المتواترة: أن من أحكام كونه ملكاً أنه ملك لا يشبه سائر الملوك؛ لأنهم إذا تصدقوا بشيء، أو أعطوا أحداً انتقص ملكهم, أما الله -تبارك وتعالى- فملكه لا ينقصه العطاء، والبذل والجود، والإحسان، والكرم، بل يزداد، إذا أعطاك ولداً فإن ذلك يكون زيادة في العطايا, ويكون ذلك زيادة في الملك؛ لأن مماليكه قد زادوا وكثر عبيده، وهكذا حينما يوسع الله على الإنسان.
وملكه مبني على الرحمة، فالله قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 2 - 4.
فذكر رحمته، وذكر ملكه, كذلك أيضاً الله يقول: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ الحشر: 22، 23.
فالله تعالى "القدوس" منزه عن الظلم والجور، "السلام" سالم من العيوب والآفات والنقائص، وسلَّم عباده من ظلمه، "المؤمن" الذي يؤمِّن عبيده من جوره وظلمه.
كله ذلك يدل على أن ملكه مبني على الرحمة.
وفي قوله تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ الفرقان: 26، فلما أثبت لنفسه الملك، أردفه بأن وصف نفسه بكونه رحماناً، يعني: إن كان ثبوت الملك له في ذلك اليوم يدل على كمال القهر، فكونه رحمانًا يدل على زوال الخوف، وحصول الرحمة.
وفي سورة الناس: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ الناس: 1 - 3، فذكر أولاً كونه ربًّا للناس، ثم أردفه بكونه ملكاً للناس، وذلك كله يدل على أن الملك الحقيقي لا يكون إلا مع الإحسان والرحمة والعطاء.
ثامناً: أن يكون الإنسان بما في يد الله أوثق منه مما في يده:
قد يحصل للإنسان أحياناً الثقة بما في يده، والركون إلى ما عنده من رصيد، ومال، أو دار، أو نحو ذلك، مما يمتنع به، أو يركن إلى مخلوق، أو نحو هذا، فإن ذلك لا يليق بمن عرف الله معرفة صحيحة، وإنما الواجب أن يثق بما في يد الله أعظم من ثقته بما في يده، وما حصل له من الأموال والأعراض.
جاء عن حاتم الأصم أنه كان صائماً يوماً، فلما أمسى قُدم إليه فطوره، فجاءه سائل، فدفع إليه ذلك الطعام، فأُهدي إليه – أي لحاتم- طبقٌ عليه كل ألوان الأطعمة، فأتاه سائل فدفع إليه كل ذلك, ثم بعد ذلك وصلته دنانير، فلم يتمالك أن صاح الغوث من الخَلَف، يعني: تتابع عليه الخلف والعوض، فصاح بأعلى صوته، قال: الغوث من الخَلَف، وكان من جيرانه رجل يقال له: خلف, فذهبوا إليه وجاءوا به، وقالوا: ما صنعت بالشيخ أتؤذيه؟ والرجل فزع لا يدري لماذا تأذى منه جاره؟ فجاء إليه يعتذر، فجاءوا به إليه، فقال: إني لم أعنه، وإنما عجزت عن شكر الله على ما يعاملني به من الخلف، فكلما أنفقت شيئاً أعطاني الله خيراً منه([30]).
فثق بما في يد الله أعظم مما تثق بما في يدك، قال ﷺ: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكًا تلفًا)([31])، فالعوض من الله -تبارك وتعالى .
تاسعاً: أن نخرج من حولنا وطولنا، وقوتنا:
فنحن ضعفاء، ينبغي أن نعرف حالنا، وعجزنا، وضعفنا، فلا يقول الإنسان: حصل كذا، أو لي كذا، أو مني كذا, ويحذر من طغيان "أنا"، ومن التعاظم، فهذه الألفاظ ابتلي بها إبليس، وفرعون، وقارون.
هذا يقول: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُالأعراف: 12، يعني: إبليس، وفرعون يقول: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَالزخرف: 51، وقارون يقول: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِيالقصص: 78.
فابتعد عن هذه الأشياء، وإذا استعمل الإنسان كلمة "أنا" فليقل: أنا العبد المذنب المخطئ, المستغفر، الضعيف، المعترف بعجزه.
وإذا قال: "لي" فليقل: أنا لي الذنوب, ولي الجرم, ولي المسكنة, ولي الفقر، والذل بين يدي الله.
وإذا قال "عندي" يقول: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطاياي وعمدي، وكل ذلك عندي)([32]).
فلا يجلس مع الناس، ويتحدث أنا كذا, وأنا كذا, وعندي كذا, وعندي كذا، بعض الناس إذا سمعوا أحداً بهذه الطريقة، أو رأوا حاله تدل على هذا, قالوا: الملك لله، يعيبون عليه فعله.
يعني: كأن هذا الإنسان ما عرف أن الله -تبارك وتعالى- هو مالك الملك, فلماذا يفرح بنفسه ويتعاظم هذا التعاظم ويفتخر؟!.
وبين كل جملة تقرأ أشياء، وبين السطور تجد تلك الرسائل التي يريد أن يوصلها إلى الآخرين، أنا أملك كذا, وعندي كذا, ورصيدي كذا، والناس الذين يحتاجون إليّ كذا وكذا، ونحو ذلك، هذا كله ما يليق.
أنا ضعيف, ولا يحتاج إليّ أحد, ولا عندي شيء, ولا لي شيء, ولا مني شيء، إنما لي الضعف، ومني العجز، ولي المسكنة.
ومن عرف أن الله هو الملك والمالك ما يغتر بما عنده مهما اتسعت أملاكه، ومهما تعاظمت قدراته وذكاؤه ومهاراته، أبداً، فيقول: أنا ضعيف، وكل ما عندي إنما هو من الله فضل لو شاء سلبني إياه، وكنت كغيري من الناس الذين لا يملكون شيئاً من ذلك.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
([2]) أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح (4/316)، رقم: (5067)، والترمذي، أبواب الدعوات عن رسول الله ﷺ (5/467)، رقم: (3392).
([14]) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (8/172)، رقم: (8307)، والبيهقي في شعب الإيمان (10/455)، رقم: (7790).
([15]) أخرجه الترمذي، أبواب القدر عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن (4/448)، رقم: (2140)
([16]) انظر المعجم الكبير للطبراني (18/170)، رقم: (381)، والسنة لأبي بكر بن الخلال (1/113)، رقم: (58)، والآجري في الشريعة (1/380)، رقم: (71).
([27]) أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {وما قدروا الله حق قدره} [الأنعام: 91] (6/126)، رقم: (4811)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار (4/2147)، رقم: (2786).
([28]) أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه} (6/126)، رقم: (4812)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار (4/2148)، رقم: (2787).