الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
(13) تتمة كيف نتعامل مع الاختلاف والطريق إلى الاجتماع والسبيل إلى جمع الكلمة وما الذي نحذره لحراسة الاجتماع والكلمة
تاريخ النشر: ١٠ / ذو القعدة / ١٤٣٥
التحميل: 4858
مرات الإستماع: 2392

المقطع المرئي

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

مرحبًا بكم جميعًا، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.

أواصل الحديث عن الطريقة التي ينبغي أن نتعامل بها مع الاختلاف:

سابعاً: أن نتعامل مع الاختلاف بعيدًا عن التعصّب:

التعصب لقولنا، أو التعصب لشيخنا، أو التعصب لمذهبنا، أو التعصب لطائفة من الطوائف، فيكون بذلك التعصب قد انسدت عليه منافذ الفهم والقبول، فإن حب الشيء يُعمي ويُصم.

وقد جاء في الحديث الذي روي مرفوعًا وموقوفًا: أحبب حبيبك هونًا ما، عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما، عسى أن يكون حبيبك يومًا ما[1].

فلا داعي للجنوح مع قول، أو الغلو في منابذة من نخالفه الخلاف الذي يكون سائغًا، بل لو كان الخلاف من غير السائغ فإنه ينبغي أن نقوم على ذلك كما أمرنا الله بالعدل، من غير زيادة، وهذا قد مضى الكلام عليه.

وقد ذكرت شيئًا من الشواهد في التاريخ عند ذكر الأسباب مما قد يتصل بهذا المعنى: الغلو، والتعصب والمبالغة إذا كان الذي نطريه، أو نذكره ممن نحبه، أو نؤيده، وكذلك أيضًا العكس.

لما توفي الإمام أحمد قال واحد من العلماء المعاصرين له المحبين، -ولا حاجة لذكر اسمه -رحم الله الجميع- قال: "حق على أهل كل بيت في بغداد أن يقيموا مناحة على موت الإمام أحمد"[2].

أن يقيموا مناحة، هذا أمر منكر شرعًا، وهذا إمام وعالم، ومع ذلك يقول مثل هذا الكلام، فهذا كما يقول الذهبي: "تكلم بمقتضى الحزن، لا بمقتضى الشرع"[3].

فإن النياحة منهي عنها في الشريعة، ولو كان الذي توفي من أئمة المسلمين الكبار كالإمام أحمد -رحمه الله.

وهكذا قول الآخر: "لَسوطٌ ضُربه أحمد أكرم من أيام بشر الحافي كلها".

بشر الحافي من العباد الزهاد، ولا تكون الأمور بهذه النظرة، وإنما كما قال الذهبي -رحمه الله: "بشر عظيم القدر كأحمد، ولا ندري وزن الأعمال، إنما هو عند الله، والله أعلم بذلك[4].

ما نستطيع أن نقول: سوط يعدل أيام بشر من أولها إلى آخرها، فهذا لا شك أنه مبالغة، إلى غير ذلك من الأمثلة التي ذكرناها سابقًا، وكذلك أيضًا في المجافاة، والمخالفة والبغض.

كما قال أحدهم عن ابن الجوزي -رحمه الله- يذكر أخطاءه وعيوبه، وقال: "ما رأيت أحدًا يوثق بعلمه، ودينه، وعقله راضيًا عنه". إلى هذا الحد، ما رأيت أحدًا يوثق بعلمه، ودينه، وعقله، الثلاث، راضيًا عنه.

الذهبي يقول: "إذا فلا اعتبار بهؤلاء"[5].

أحد العلماء من المتقدمين -ولا حاجة لذكر الأسماء- كان قد بلغه عن رجل أنه يدرس الحديث، وكان ممن يختلف معه، فقال: "ما له وللحديث؟ هو بالتوراة أعلم"[6].

تصور أثر هذه الكلمة حينما يتلقفها التلاميذ الذين يعجبون بشيخهم، ويعظمونه، ويحترمونه، ويطيرون بها، وهذا أمر مشاهد، لربما يقول الشيخ كلامًا من الموعظة، ومما يذكر بالله والدار الآخرة، ولا يكون له ذلك الموقع، لكن يقول كلمة في لحظة غضب، أو انفعال، أو ردود أفعال، ثم بعد ذلك يطيرونها كل مطير.

هذه لا شك أنها تفعل فعلها في النفوس، ثم بعد ذلك نلوم هؤلاء الأتباع والتلاميذ حينما يقعون في شيء من هذه المبالغات، والتعصبات، والخوض الباطل.

ثامناً: البعد عن التفتيش عن الأخطاء والعيوب:

فإننا حينما نفعل ذلك فإننا نبحث عما يمزق، ويزيد الفرقة والاختلاف، فتحصل المجافاة والمباعدة، نحن ينبغي أن نعالج ما ظهر وبدا، لا أن نبحث عن أشياء، ونفتش عن عيوب خفية، أو كلمات قيلت في سياقات معينة، ثم بعد ذلك نحورها ونحولها إلى جرائم نحاسبه عليها ونذيعها، وننشرها، فإن هذا لا يسوغ  بحال من الأحوال، وقد قال بعض أهل العلم يصف مثل هؤلاء وكأنه يصف حالنا في هذا العصر -إلا من رحم الله- يقول: "فهو طول الليل والنهار في التفتيش عن مناقضات أرباب المذاهب، والتفقد لعيوب الأقران، والتلقف لأنواع التسبيبات المؤذية، وهؤلاء هم سباع الإنس، طبعهم الإيذاء، وهمهم السفه، ولا يقصدون العلم إلا لضرورة ما يلزمهم لمباهاة الأقران[7].

ابتعد عن هذا، هذا خلق مرذول، لا يمكن لإنسان نزيه متجرد أن يفعل هذا الفعل، ويقوم بمثل هذه الممارسات.

تاسعاً: نحتاج في التعامل مع الخلاف إلى شيء من التعقل والحكمة:

والحكمة إنما تكون بمجموع أمرين:

الأول: هو العلم الصحيح، والثاني: هو العقل الراجح، والعلم غير العقل.

قد يكون الإنسان من أوعية العلم، ولكنه لا عقل له، يطيش، سريع الانفعال، ترد على لسانه الكلمات في حال الغضب كالسهام، فمثل هذا لا يصلح أن يلج في مثل هذه القضايا، وإنما ينأى بنفسه ليسلم، ويسلم الناس منه.

وقد يكون الإنسان عنده عقل، لكن ليس عنده علم، وإنما تكون الحكمة لمن جمع بين هذين الأمرين، نحتاج إلى عقلاء بمثل هذه الأوقات يحسنون التعامل مع مثل هذه الأمور؛ لئلا يزيد الشر.

لئلا نكون ممن يصب الزيت على النار، وهو بزعمه أنه يريد أن يطفئ الفتن والشرور، ويكون من أعظم معاول الفتنة من حيث لا يشعر.

نحتاج إلى شيء من البصر فيما نأتي وما نذر، ومن كان يفتقد مثل هذه الحكمة فليبتعد عن هذه المضايق، وإن كان ولابد فاعلًا فليشاور العقلاء، يشاور أهل النظر الصحيح في الأمور.

خذ مثالًا على ذلك مما نعانيه ونكابده بمثل هذه الأوقات مع وسائل الإعلام الجديدة التي صارت بيد كل أحد. على سبيل المثال قضية التشهير، هذه مخالفة وقعت، هذا خطأ، هذه زلة، هذا إنسان صدر منه موقف غير صحيح، غير سليم، قال كلمة، سمعها واحد في مجلس، سمعها اثنان، سمعها خمسة، كتبها في موقع يتابعه عليه عشرة، يتابعه عليه ثلاثون، خمسون، مائة، كيف التعامل مع مثل هذه القضية؟

التشهير في أصله حرام، وإذا كان الله يقول: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [النور:19].

بمجرد المحبة لإشاعة الفاحشة توعدهم بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، فكيف بالذي يشيعها بأمور لا تخفى بقوله وعمله؟

والفاحشة في هذا السياق هي الزنا، وما في معناه، وإن كان يدخل في الفاحشة بمفهومها العام ما عظم وفحش، ما كان عظيم القبح من الجرائم من الأقوال والأفعال.

فمثل هؤلاء الذين يحبون إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا متوعدون بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، فكيف بمن يقوم بذلك من الناحية العملية وهو أعظم من مجرد المحبة القلبية؟، فما شأن الإنسان وهذا؟

وهذا التشهير الذي توعد الله أصحابه في مثل هذه الآية، وكذلك في قوله -تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58].

يقول ابن كثير -رحمه الله: "أي: ينسبون إليهم ما هم برآء منه لم يعملوه، ولم يفعلوه، يحكون على المؤمنين والمؤمنات ذلك على سبيل العيب والتنقص منهم"[8].  

وقد قال النبي ﷺ: إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق[9].

وقد قيل في معنى قوله ﷺ: من سمّع سمّع الله به[10].

أي من سمع بعيوب الناس وأذاعها أظهر الله عيوبه، هذا تفسير فسر به الحديث، وإن كان المشهور على خلافه، فيدخل في هذا ما يقال من قبيل المنثور، أو المنظوم -الشعر- مما يتناقله الناس، ويتداولونه من الهجاء المحرم، ونحو ذلك.

هذا التشهير حينما يكون بالبريء فهذا جرم عظيم، وهو من البهتان وزيادة، وأما إذا كان بمن وقع منه إساءة فإن ذلك ينبغي أن يتعامل معه بشيء من الحكمة.

أن ينظر في المصلحة، وأن ينظر في هذا الفعل، هل يستحق هذا أو لا يستحق؟ وماذا يترتب عليه؟ وهل فعله سرًّا أو فعله علانية؟

فالله -تبارك وتعالى- يقول: وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [الحجرات:12]، فهذا التشهير غيبة وزيادة، والنبي ﷺ قال: أتدرون ما الغيبة؟قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره.

إذا كان يذكره في المجلس عند واحد يعد ذلك من الغيبة، فكيف إذا كان يقرأ ذلك الملايين؟ فإن لم يكن فيه، قال: فقد بهته[11].

ثم أيضًا النصوص التي جاءت بالستر: من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة[12]، وإذا رأى عيبًا ستره، لكن التشهير هذا قد يكون مباحًا، وقد يكون واجبًا بحسب الحال، وما يقتضيه المقام.

وكثيرًا ما يختلط أيضًا النصح للمسلمين بحظوظ النفس، وتصفية الحسابات وكراهية هذا المُشهَّر به، وكثيرًا ما يحصل التزيُّد في مثل هذه الأمور والتجني، وتحميل الأمور ما لا تحتمل.

لكن، إذا كان ذلك من الأمور الواضحة أنها خطأ، أو انحراف، أو بدعة، أو كفر، فإن ذلك لا يقتضي دائمًا التشهير، قد يكون صاحب هذا القول مغمورًا، فإذا شهرنا به أذعناه.

نحن نعاني من مشكلة، نجد أحدهم كتب في تغريدة لم يقرأها إلا أفراد، ولم يحولها إلى غيره لربما إلا الواحد، أو نحو ذلك، ثم ماذا نفعل؟ نأخذ هذه التغريدة نفتح لها "هاشتاج"، ونذيعها، ونرسلها لمن يتابعهم الملايين، ونقول: انشر تؤجر.

بل نحاسب الآخرين هل شاركوا ووقعوا في هذا الهاشتاج الذي فتحناه، أو أنهم ممن خذلوا الإسلام وأهله حينما أعرضوا عن ذلك.

هذه الكلمات التي كتبت، أو قيلت لم يطلع عليها أحد، أو اطلع عليها واحد أو اثنان، أصبح يسمعها الجميع ويتداولها الجميع حتى العجائز اللاتي لا يعرفن هذه الوسائل والوسائط، طرقت كل سمع، فيكون أثر ذلك بليغًا.

أصبحنا جسورًا نروج الباطل، ويصل إلى الآفاق على ظهورنا ونحن لا نشعر، قمنا بدعاية مجانية لا يحلم بها.

قد لا يكون عنده من الإمكانات ما يستطيع أن يوصل صوته إلى هذه الأعداد الهائلة، فقمنا نحن بذلك بالنيابة عنه.

وقد يكون أملس الجلد، صفيق الوجه، لا يبالي بما قيل فيه، المهم أن تصل هذه الكلمات، أو إن كان يريد الشهرة فنكون قد بلغنا به الثريّا بحسب تصوره هو ومطلوبه إن كان يريد الشهرة والذيوع، ويتحدث عنه الناس ويشغل الرأي العام كما يقال.

ثم بعد ذلك يجد الخطباء أنهم لربما مدفوعون للحديث عن قضية يتحدث بها المجتمع.

فالخطيب في نفسه يقول: أنا لا أريد أن أكون بعيدًا عن اهتمامات المجتمع، أريد أن أساير المجتمع في همومه، وما يدور في مجالس الناس، وعلى ألسنتهم، وأوضح لهم الحقائق، وأضع النقاط على الحروف، فيبدأ الخطباء يتكلمون في هذه القضية، ثم بعد ذلك يأتي أصحاب الأقلام، وتشتغل الأمة، وكانت القضية مدفونة.

كان مثل هذا يمكن أن يترافع معه إلى القضاء، وقد كتب باسمه الصريح، ثم بعد ذلك يحاسب على ما كتب، ولا يعلم بذلك أحد.

لكن نحن ماذا فعلنا؟ أشغلنا الناس، وذهبت تلك الشفافية التي في القلوب تجاه الباطل والكفر، وسب رب العالمين، والطعن في ثوابت الدين، وأصبحنا قد اعتادت قلوبنا على ذلك، وما عادت تتأثر؛ لكثرة وقع النبال والسهام.

تتابعت السهام على القلب، فما عاد يشعر بكثرة الجراح، فتذهب تلك الصفة المهمة التي ينبغي أن يحفظ العبد قلبه، وأن يحافظ عليها؛ لتكون تلك الصفة سمة فيه: الشفافية تجاه المنكر، بعض السلف كان إذا رأى منكرًا بال الدم، ونحن أصبحت قلوبنا صلبة قاسية؛ لكثرة ما يَرِدُها.

ولذلك من الخطأ أن نفسد على أنفسنا، وأن ننشر الباطل، ونحن لا نشعر، القضية ليست انشر، القضية ليست سجل حضورًا، فلان شارك، وفلان ما شارك، فلان خذلنا، يقول: قال الحسن البصري، قال شيخ الإسلام، وقال كذا، والناس يتكلمون عن موضوع آخر، نريد أن تكون جزءًا من هذه الرواحل التي تحمل.

بعض من هؤلاء ربما يفزع لما يرى القضية أصبحت ذات أبعاد كبيرة، وأنها خرجت عن السيطرة، فيبدأ يتساءل يقول: هل ما فعلته صحيحاً حينما أذعتها، وفتحت لها كذا، وحينما نشرتها؟، هل هذا صحيح؟

القضية وصلت إلى حد كبير، ما كنت أتوقع، كنت أريد أنْ يُنكَر على هذا الإنسان، ما شاء الله، ما شاء الله، يُنكَر عليه بهذه الطريقة؟! ليس هذا بصحيح.

نحتاج أن يكون عندنا حكمة، ما الذي ننشره؟ ما الذي نذيعه؟ ما الذي يدفن؟ ما الذي يُطوى ولا يُروى؟ والغاية لا تبرر الوسيلة أيضًا، لكن للأسف انشر، هذه الرسائل التي تأتي في الواتس أب،  كثير منها مدمية.

ما هو الغرض من إرسال هذه الرسالة؟ ما هي الفائدة المرجوة من هذه الرسالة؟ إدماء القلوب؟ إلف المنكر؟ امتلاء القلوب بالغل؟ ثم ماذا؟ ما هي الفائدة الآن؟ ماذا تريد بإرسال هذه الرسالة؟ ما هو المطلوب؟ أرسل فقط، هل هذا صحيح؟ ونصبح على أوجاع، ونمسي على أوجاع، حتى إنه يخيل إليك حينما ترى بعض الأسماء أرسل تعرف أنه أرسل غمًّا.

ولذلك أنا ما رأيت الراحة حتى تركت هذه الوسائل، تويتر، والواتس أب واسترحت، فإن النظر في مثل هذه الأشياء لا شك أنه يؤثر على القلب، ولا يمكن للإنسان أن يحفظ قلبه مع أنه لا يشارك في نشر هذه الأشياء أصلًا، فكيف بهؤلاء الذين يرتعون، ويذيعون ذلك، وقد يكون الواحد منهم ممن يشيع الفاحشة في الذين آمنوا؟

نحتاج إلى تبصر، لكن للأسف، أصبح كل واحد أمير نفسه، ويظن أنه يغار، وأنه ينصر الدين بهذا الفعل، والله المستعان.

هذا بالإضافة إلى النيات، ماذا يريد الإنسان من نشر هذا؟ ماذا يريد من كتابة التعليق؟ ماذا يريد من كتابة الرد؟ قد يكون ذلك جميعًا لنية صحيحة، يبقى الفعل هل هو صحيح أو لا؟

وقد يكون لنية فاسدة، تعزيز الذات، إثبات الحضور، أنا موجود، في كل قضية حاضر أعلق، لي فيها رأي، كل يوم لابد من التواصل مع المعجبين والمتابعين.

والنهاية على خرقة يلف بها، ويوضع في قبر، ثم بعد ذلك يبقى أسيرًا لعمله، ويعرف بعد ذلك هذه الأعمال هل هي مما يقربه ويرفعه، أو أن ذلك مما يباعده من الله والدار الآخرة.

عاشراً: أرح نفسك:

نصيحتي لنفسي ولكم: أرح نفسك، كن في راحة وعافية، العافية لا يعدلها شيء؛ إذ إن الكثيرين يعيشون في قلق دائم وهم، في كل قضية تقع، في كل جزئية، في أي مكان في الدنيا تصل إليه عبر هذه الوسائل والمواقع والأخبار، وإلى آخره، ما الموقف؟ ما موقفي تجاه كذا؟ ما موقفي تجاه ما يحصل في البلد الفلاني؟ ما موقفي تجاه فلان، وما قال؟، ما موقفي تجاه موقف فلان؟، أنا ما خُلقت لهذا.  

وإذا وضعت في قبري سأسأل ثلاثة أسئلة فقط، ما لها رابع، من ربك؟ وما دينك؟ ومن هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ ومهما أوتي الإنسان من الإمكانات والقُدر والعلم والفهم والاطلاع لن يستطيع أن يحيط بما يجري في الدنيا.

فكل قضية يحيط بمبادئها، ونهاياتها، ومقدماتها، وما يحتف بها من جهة النظر في الأدلة ليستخرج الحكم، ومن جهة تحقيق المناط، لينزل هذا الحكم عليها، فقد يخطئ في طلب الحكم من الدليل، وقد يخطئ في تنزيله على هذه الواقعة.

ثم انظر ماذا يحتاج من الزمان حتى يتصور هذه الوقائع الموجودة في الدنيا، يأتي شاب صغير لا تحتمل قدراته العقلية، ولا العلمية، ولا إمكاناته، وقد حمّل نفسه شططًا، وهو يعيش في قلق دائم، معه أسئلة، هذه الأسئلة كبار لو جمع عليها أهل بدر لربما توقفوا، أو توقف بعضهم.

ويريد جوابًا لكل واحدة، ويذهب إلى هذا وهذا وهذا وهذا، أرح نفسك، الله لا يسألك عن هذا، ما لك ولهذه الأشياء؟ أرح قلبك.

اعبد الله وأبواب الجنة كثير، هذا يدخل من باب الصيام، وهذا يدخل من باب الصدقة، وهذا يدخل من باب الصلاة.

فلا تدخل في مثل هذه القضايا والمضائق، وكلما اصطرع الناس في قضية تريد أن يكون لك فيها موقف، ورأي وتصور، ثم بعد ذلك لربما تضيق إمكانات الإنسان نحو هذه الأشياء، فيقع في شيء من الحيرة، أو التشتت، أو الضغوط النفسية، فيتولد عن هذا علل وأوصاب، وقد رأيت شيئًا من ذلك.

رأيت أناسًا ما تحتمل عقولهم، فأصيبوا بأشياء أشبه ما تكون بالأمراض العقلية، وأصبح يخلط، تعب، أضنى نفسه.

وبعضهم يشكو، ويطلب المخرج، يقول: إنه يأكل أدوية نفسية، وما عادت تجدي معه، السبب أنه يتابع كل شيء، ويريد أن يكوِّن لكل حادث تصورًا وموقفًا، من طالبك بهذا؟ من أمرك بهذا؟ الله لا يكلفك بهذا، ولن تُسأل عنه، فاسترح، واطلب النجاة لنفسك والعافية.

أعجبني مقال للشيخ محمد بن إبراهيم الحمد، أنا اعتبر الشيخ -حفظه الله- نموذجًا لجمع القلوب، والتعامل بالحكمة مع الناس، وتقريب الناس للخير، ودفع أسباب الشر، الرجل عجيب، من أعجب من رأيت في هذه الجوانب، مع الصغير والكبير، مع الشيخ الهرم، ومع الأطفال في أفراحهم وآلامهم، يشاركهم، ويقضي الأوقات في هذا، والسعي في مصالحهم وحاجاتهم، لا نزكي على الله أحدًا، ونسأل الله الثبات له ولنا، لكن هذا المقال مقال جميل بعنوان: "ليس بالضرورة"، مقال جميل، إن كان بعضكم ما قرأه فيحسن قراءته.

أنقل بعض الجمل منه مما يتصل بموضوعنا، يقول: "ليس بالضرورة أن يكون لك رأي في كل نازلة، أو مسألة، أو مشكلة، وإذا كان لك رأي في شيء من ذلك فليس بالضرورة أن تبديه، وإذا أردت إبداءه فليس بالضرورة أن تبديه لكل أحد، أو في كل مناسبة، وإذا أبديته فليس بالضرورة أن تتشنج في إبدائه، أو تتعصب له، أو تظن أنه حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإذا خالفك الرأي أحدٌ من الناس فليس بالضرورة أن يكون ذلك المخالف عدوًّا، أو متربصًا، أو حاسدًا، وليس بالضرورة إذا انتقدت أحدًا من الناس أن تسعى إلى تجريحه، أو إسقاطه، والإساءة إليه، وتجريده من كل حسنة، وليس بالضرورة إذا اختلفت مع أحد أن تعاديه وتدعو إلى عداوته، وتشهر به قدر ما تستطيع، وليس بالضرورة إذا كان بينك وبين أحد من الناس خصومة أن تنتقل هذه الخصومة إلى كل من يتصل به أمرك حاملاً شعار: معي أو ضدي".

تريد الآخرين أن يتخذوا نفس هذا الموقف.

يقول: "بل يكفي أن تنحصر الخصومة بين أصحابها قدر المستطاع". إلى آخر المقال.

هذا صحيح، لكن نحن للأسف في كثير من الأحيان نقول: بل من الضرورة.

أخيرًا أقول: ينبغي علينا أن نحذر من كل ما يسبب الشر والفرقة، ومن كل ما يحصل به التدنيس والتلويث لهذه القلوب، فتتغير وتتحول، وهذا أمر قد يحصل بالمطالعة، وقد يحصل بالسماع، وقد يحصل بالمخالطة -أعني هذا الأثر السلبي، فاحفظ قلبك وسمعك وجوارحك.

والله  يقول: وَلَا تَقْفُ القَفْو يعني: الاتباع، لا تتبع، وبعض أهل العلم قال: المراد به الغيبة، أو النميمة؛ لأنها تقال في القفا؛ لأن القفو من القفا، وهذا معنى صحيح، لكنه بعض ما يدخل في معنى الآية. فالقفو: هو الاتباع، اتباع الأفكار، الآراء، المواقف، سماع الغيبة، كل هذه الأمور من القَفْو، وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ"ما" هذه تفيد العموم، كل ما ليس لك به علم، لماذا؟ "إنّ" هنا تفيد التعليل والتوكيد، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36]، على المعنيين، وكلاهما صحيح إن شاء الله.

كَانَ عَنْهُ الضمير يرجع إلى الإنسان، أن هذه الأشياء ستُسأل عنك، ماذا عملتَ بها؟ كيف سخرتها؟ كيف استعملتها؟ السمع والبصر والفؤاد. 

كَانَ عَنْهُ يمكن أن يرجع إلى هذه الأشياء الثلاثة، الإنسان يُسأل عنها، هي تُسأل عنه كيف سخرك؟ كيف استعملك؟، وهو أيضًا سيُسأل عنها، ويحاسب عليها.

فذكر السمع والبصر والفؤاد، هذه آلات العلم، فالسمع والبصر هما الوسائط، والقلب هو المستقر.

فيتأثر الإنسان بما يشاهد، وما يسمع، قد يتأثر الإنسان بمجلس مع صاحب لوثة، فيغير قلبه، ويورث ذلك القلب شبهة يستعصي عليه إخراجها.

يذكر صاحب كتاب: "الفتنة ووقعة الجمل" -وهو من الكتب المفيدة في هذا الموضوع- أن عثمان أيام الفتنة حينما صار ابن السوداء -أعني عبد الله ابن سبأ- يجول في الأمصار، يتكلم، ويغري الناس بعثمان ويغير قلوبهم نحوه، فوجد في بعض الأمصار قبولًا، فقيل لعثمان ، قال بعض أهل الأمصار من الصالحين، من الأخيار، ذكروا له أنه توجد هناك مشكلة، هناك قالة سوء، فأرسلَ إلى هذه الأمصار ليرى ويطلع على ما يجري، ويسمع من هؤلاء، ويعرف مرادهم، فذهب هؤلاء ورجع بعضهم من أمصار نظيفة، قالوا: لم نر شيئًا.

أحد هؤلاء الذين أرسلهم أرسله إلى مصر وهو من الأخيار، وبقي من الأخيار، ومات على ذلك -نحسبه والله حسيبه؛ لأن عندنا ما يشهد لذلك من كلام رسول الله ﷺ، إن صح الخبر فالشاهد هو فقط فيما قد يقع مِن تأثر، ولو كان محدودًا.

أمير مصر كتب إلى عثمان لما أبطأ الرسول، ولم يرجع إلى المدينة، يقول: إنه قد استماله قوم بمصر، وقد انقطعوا إليه، منهم: عبد الله بن السوداء، وخالد بن ملجم، وسودان بن حمران، وكنانة بن بشر، هؤلاء من رءوس الفتنة[13].

هو لم ينحُ نحوهم إطلاقًا، ولم يقع في شيء، أو يتلطخ بشيء من هذه الفتنة، ولكنه -إن صحت القصة- سمع منهم، ولربما كان لذلك السماع شيء من الأثر الوقتي.

لكن الله قد ينجي العبد بصدق نيته وصلاح قلبه وعمله وحاله، فلا ينبغي للإنسان أن يثق بنفسه فيقول: أجالس هؤلاء من أجل أن أستخرج ذلك منهم وهو غير مؤهل.

أو أن يقول: فلان صديقي، ويكون هذا الإنسان قد انحرف، ثم يقول: أجلس معه، فيوقع في قلبه من الشبه أيًّا كان نوع هذه الشبه، بعض هؤلاء وقعوا في الإلحاد، بعض هؤلاء تشككوا في ثوابت الدين، بعض هؤلاء انحرفوا في أبواب أخرى.

فالصاحب ساحب، والطبع لص، والناس كأسراب القطا جُبلوا على تشبه بعضهم ببعض.

فينأى الإنسان بنفسه ويبتعد ويطلب العافية، لا تدخل مواقع وتقرأ، وإنما تسمع من أهل العلم الراسخين الناصحين.

ثم إن هذه القضايا لا يصلح أن يكون الكلام فيها بشيء من التشفي، أو أن يتكلم فيها من يريد أن يصفي حسابات كما يقال.

نحن في هذا الوقت بحاجة إلى نَصَحة، بحاجة إلى صادقين، نحن بحاجة إلى أهل علم عندهم حكمة، وعقل وروية، يأخذون بأيدي الناس إلى شاطئ النجاة وينقذون الغريق.

لكن إذا جاء إنسان عنده تشفٍّ، فهذا قد يزيده غرقًا، يضربه بمقارع على رأسه، حتى يغرق، هو لا ينقذه.

تصور أن الطبيب الذي يريد أن يعالج الداء حاقد على هذا المريض، أو حاقد على المرضى، ويأخذ المشرط ويتشفى، هذا أحد يعالج عنده؟ ما أحد يعالج عنده.

هذا يمارس نوعًا من الإجرام في حق هؤلاء الناس، باسم التطبب، فلا يمكن لمن كان حانقًا، يمتلئ قلبه بالغل على إخوانه المسلمين أن يكون سبيلًا إلى إصلاح هذا الواقع.

نحتاج إلى قلوب نظيفة، وألسن نظيفة، وأيدٍ نظيفة، مع قلوب كبيرة تحتمل، وعلم، وبصر في الأمور الواقعة، فيتعامل مع هذه القضايا بشيء من الروية والحكمة، ويكون ذلك سبيلًا إلى العلاج والتصحيح، والله المستعان.

بعد ذلك ننتقل إلى التاسع من هذه الموضوعات، أو الجوانب أو الفروع التي أردنا أن نتحدث عنها وهو الأخير وهو ما يتعلق بالمخرج، أو الطريق إلى الاجتماع.

ما السبيل إلى جمع الكلمة؟

أولا: الاعتصام بالكتاب والسنة.

فهذا الأصل الذي ينبغي أن نجتمع عليه، لا يمكن أن نجتمع على عواطف، ولا يمكن أن نجتمع على شعارات بدعية، ولا يمكن أن نجتمع على أصول قد وضعها بعضنا، وليست مما جاء في كتاب الله، ولا سنة رسوله ﷺ.

والله ذكر لنا هذا المخرج فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59].

هذا أحسن عاقبة، عاقبته تكون إلى خير، إلى صلاح وإصلاح، فهذا هو الأصل، هذا هو الطود، هذا هو المُعتصَم الذي ينبغي أن نتمسك به، هذه هي التي يمكن أن يعتصم بها المؤمن، فينجو من الضلالة، نجتمع على هذا الأصل الكبير، نرجع إليه، ونتحاكم إليه، بفهم سلفنا الصالح .

يقول ابن مسعود : "إن هذا الصراط محتضر، تحضره الشياطين -والشياطين يضلون الناس- يقولون: هلمّ يا عباد الله، ليصدوا عن سبيل الله، فعليكم بكتاب الله فإنه حبل الله"[14].

والله يقول: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، فما هو حبله؟ هو كتابه، وسنة رسول الله ﷺ هي شارحة لهذا الكتاب.

فالواجب على كل مسلم -كما قال شيخ الإسلام- أن يلزم سنة رسول الله ﷺ وسنة خلفائه الراشدين، والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وما تنازعت فيه الأمة وتفرقت فيه إن أمكنه أن يفصل النزاع بالعلم والعدل، وإلا استمسك بالجمل الثابتة، بالنص والاجماع، وأعرض عن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا[15].

كما قلنا: ليست كل قضية يمكن أن يكون لك فيها رأي، يبقى على الأصل الكبير، الجمل الثابتة في الكتاب والسنة، ويترك التفاصيل التي اختلف فيها المختلفون، واعترك فيها المعتركون، فلا يلج فيها.

إذا ما اتضح له وجه ذلك، فيرجع إلى الطود العظيم، إلى الأصل الكبير، إلى الجبل، ويسند ظهره إليه، ويعتصم به، فإنه لا يضل -بإذن الله.

فهذه طريقة في التعامل مع المشكلات والشبهات، إذا كان الإنسان لا يعرف الحكم في المسألة الجزئية فإنه يرجع إلى الأصل الكلي، ويتمسك به وينجو بإذن الله -تبارك وتعالى؛ لأن الله لن يطالبه بمثل هذه القضايا أن يكون له موقف ورأي في كل قضية منها.

وبهذا يبقى الإنسان على جادة واحدة، لا يكون كل يوم على طريقة، وكل يوم على مذهب، والمشكلة أن النفس أيضًا قد تذهب في بعض هذه البُنيّات، بُنيّات الطريق، ومعارجه ومضايقه، تذهب نفسه، ثم بعد ذلك لا يمكن أن يستدرك، وإذا سلم، وطال به العمر قد يتغير بعد ذلك رأيه، وينبت له عقل، ثم بعد ذلك يدرك أنه قد ضيع العمر وهو يتقلب ويتنقل بين أمور تضره ولا تنفعه، هذا إذا أدرك.

ورأيتم التاريخ كم ولج في هذه الضلالات من أقوام!، منهم من أدركته رحمة الله بعد هذا العلم الكثير من العلوم الكلامية، يقول: أموت على دين العجائز.

عمر كامل يضيع، وجهود، وسهر في علوم صعبة، وعبارات صعبة، ثم بعد ذلك تكون البضاعة خاسرة، والنتيجة صفر أقل من الصفر، ثم يقول: أموت على دين عجائز نيسابور، ويوصي الناس بهذا، هكذا تضيع الأعمار؟ هذا من أدركه الله فاستدرك وعرف، فكيف بمن مات على مثل هذا؟

هذا الذي طعنه أبو أيوب فدخل الرمح من صدره، وخرج من ظهره، ويقول له أبو أيوب: إلى جهنم وبئس المصير، يقول: ستعلم من هو أولى بها صِليًّا[16]. في هذه اللحظات!، يموت على هذا الضلال!، نسأل الله العافية.

 فلذلك أقول: انظروا ماذا قيل في جنازة عبد الرحمن بن أبي حاتم -رحمه الله- إمام من أئمة السنة، ماذا قالوا؟، قال بعضهم: قلنسوة عبد الرحمن من السماء. 

هذا في وقت الجنازة، يعني أن الرجل نظيف، ما تلوث بشيء من الأوضار والأهواء.

يقول: وما هو بعجب، رجل منذ ثمانين سنة على وتيرة واحدة، لم ينحرف عن الطريق[17].

رجل منذ ثمانين سنة على وتيرة واحدة، لم ينحرف عن الطريق، لا نزوة شهوات، ولا تخبط في شبهات وأهواء وضلالات، منذ ثمانين سنة على وتيرة واحدة.

هكذا ينبغي أن يكون الراسخ، لا يكون كل يوم في هوى، ولا تكون الأحداث التي تقع -وإن كانت من الأحداث الكبار- دافعًا له أن يسارع، ثم بعد ذلك يترك مقررات سابقة كان يقررها، ويقولها ويدعو إليها، ثم ينساها في غمرة، ويهرول مع المهرولين، ثم يتبين له أنه كان يتبع سرابًا.

ولذلك انظر إلى العلماء الراسخين في عصرنا هذا، كيف كان الواحد منهم على سنن واحد من البداية إلى النهاية، وبهذا صاروا أئمة أعلامًا، جعل الله لهم القبول في الأرض.

بينما تجد الذين يكثرون التحول والتقلب في الفتن، تجد أن هؤلاء يصيرون في النهاية، لا لون، ولا طعم، ولا رائحة، حتى القبول -نسأل الله العافية- يُرفع.

ولربما لا تحتمل أن تسمع قليلًا، ولا كثيرًا، حتى لو كان يتكلم بأشياء عادية، ليس فيها انحراف، لا من باب التعصب، ولا من أجل مجافاة زيد أو عمرو، لكن لم يعد القبول في القلوب، كلام لا طعم، ولا لون، ولا رائحة.

فالمؤمن ينبغي أن يلاحظ هذا في نفسه، وأن يكون سيره مستقيمًا.

منذ ثمانين سنة على وتيرة واحدة لم ينحرف عن الطريق.

ولهذا قال بعضهم أيضًا: ما رأيت أحدًا ممن عرف عبد الرحمن ذكر عنه جهالة قط[18].

ويقول آخر: مَن يقوى على عبادة عبد الرحمن، لا أعرف لعبد الرحمن ذنبًا[19].

ونحن ننغمس في أنواع الذنوب، أنتم تظنون  الذنوب لابد أن يأكل ربا، أو غير ذلك، لا، الاستطالة في عرض المسلم هذا من أربى الربا، الغيبة هذه، التنابز بالألقاب، بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ [الحجرات:11].

فاسق ويقول: أنا ملتزم، أنا شاب ملتزم، أين أنت وأين الالتزام؟ أهكذا الدين؟ ولذلك أقول: الاعتصام بالكتاب والسنة هو الطريق.

ثانيًا: لا يمكن للناس أن يجتمعوا على كل الجزئيات والتفصيلات، ولكن ينبغي الاتفاق على الأصول والمحكمات، فهذه لا يُقبل الخلاف فيها.

أما الأمور الجزئية فلطالما الناس اختلفوا، وقد اختلف أصحاب النبي ﷺ، فهذه الكليات التي أجمع عليها السلف نتفق عليها، ونتحمل الاختلاف فيما كان دون ذلك من الأمور التي اختلف فيها السلف الصالح ؛ لأن الخلاف أمر لابد منه، لكن كما قلنا: الذي يتكلم في هذه القضايا في العلم، ونحو ذلك يكون مؤهلًا، ويريد بذلك ما عند الله ، والشروط المذكورة التي أسلفنا الكلام عليها فيمن تسوغ مخالفته.

هذه المحكمات هي المسائل الواضحة، البينة، الأصلية، التي جاءت بها النصوص، مما أجمع عليه الصحابة والسلف الصالح.

كوجوب عبادة الله وتحريم الكفر، والشرك والنفاق، تحريم الظلم، والربا، والفواحش، كذلك أركان الإسلام الخمسة، أركان الإيمان الستة، قواعد الأخلاق، وكذلك ما يتصل بوجوب الصدق، وتحريم الكذب، وجوب العدل، وتحريم الظلم، وجوب البر، وتحريم العقوق.

وهكذا ما يتصل أيضًا بالمنهيات كالموبقات السبع، ونحو ذلك، ويُحفظ بذلك الإيمان والإسلام، ونؤمن بأصول الدين، وكذلك أيضًا محكماته، وتتحقق لنا النجاة.

وهكذا تُحفظ لنا الدنيا بحفظ الضرورات الخمس التي أجمع عليها الرسل -عليهم الصلاة والسلام: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، هذه الضرورات الخمس يجب حفظها من الجانبين، من جهة الوجود، ومن جهة العدم.

عبد الله بن مسعود يقول: "من سره أن ينظر إلى الصحيفة التي عليها خاتم محمد ﷺ فليقرأ هذه الآيات[20]، هذا مثال للمحكمات في سورة الأنعام: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ۝ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۝ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:151، 153]، فهذه الآيات الثلاث تضمنت هذه الوصايا في الأمور المحكمات العشر، كما هو معلوم.

ولاحظ أنه ذكر منها ما يتعلق بالعدل، وقال: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [الرحمن:9] كما في سورة الرحمن.

وقالوَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ۝ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين:1-3].

وهنا الله -تبارك وتعالى- يقول: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا [الأنعام:152].

هذا من الأمور المحكمات، ومع ذلك نضيع هذا الأصل كثيرًا، وهكذا قَفْوُ الانسان ما ليس به علم، عدم استشعار المسئولية تجاه الكلمة، تجاه ما يقول، ويكتب، أو يسمع، أو يقرأ. 

يقول شيخ الإسلام -رحمه الله: إن الرسل جميعًا متفقون في الدين الجامع في الأمور الاعتقادية، والأمور العلمية كالإيمان بالله تعالى والملائكة والكتاب والنبيين، إلى غير ذلك، وكذلك الأصول العملية، كالأعمال المذكورة في سورة الأنعام، فهذا من الدين الجامع، الذي اتفق عليه الرسل عليهم الصلاة والسلام[21].

فمن هنا، إذا أردنا أن نجمع الكلمة، فينبغي أن نؤسس لها، وأن نؤصل على هذه الأصول والكليات، فلا نختلف في شيء منها، لكن لا يكون ذلك على اجتهاداتنا وآرائنا، وما ننتحله من استنباطات، وما إلى ذلك تخصنا تصيب وتخطئ، فمن وافقنا عليها فهو معنا، ومن خالفنا فهو ضدنا، فهذا الكلام غير صحيح، ولا يمكن أن يتحقق الاجتماع بذلك.

ومن ثَمّ لا يمكن أن يُبنى ذلك وأن يتحقق الاجتماع بأن نطالب الآخرين بأن يكونوا نسخة منا، أن يفكروا بعقولنا، أن ينظروا بنظرنا، أن يتعرفوا على الأشياء من خلالنا، نحن نطالبهم بشطط لا يمكن أن يتقبله الناس، ولا أن يتحقق.

ثالثاً: التواصي بالحق والتعاون على البر والتقوى.

ولا نتعاون على الإثم والعدوان، نتواصى بالحق والصبر كما أمر الله وَالْعَصْرِ ۝ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ۝ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر]. يبقى بيننا تواصٍ.

رابعاً: التناصر والتناصح.

فالمؤمنون نَصَحَة، فنحيي هذا المبدأ، والنبي ﷺ يقول: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا[22]وبين كيف يكون نصره في حال ظلمه، أو وقوع الظلم عليه، ولو فعلنا ذلك لانكفّ كثير من الشر وارتفع.

خامساً: أن يوجد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فهذا من سمات المؤمنين كما وصفهم الله بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71].

مع مراعاة ما ينبغي مراعاته في هذا الباب من النظر في المصالح والمفاسد .

سادساً: التشاور.

لا يمكن لأحد من الأمة أن يبتدرها بقول أو فعل، ثم بعد ذلك الأمة تتحمل التبعة، جرائر هذا العمل تدفع فاتورته سائر الأمة، هذا لا يجوز، فمثل هذه القضايا التي يكون لها أثر في أوساط الأمة ينبغي أن يتراجع فيها المؤهلون من أهل العلم، فضلا عن غيرهم.

لكن للأسف أصبحنا في واقع يفعل من شاء ما شاء، فهذا يقوم بمبادرة، أو يصدر تصريحًا، أو نحو ذلك، ثم بعد ذلك يقع بسببه من المفاسد ما الله به عليم، وتتحمل التبعة أمة كاملة.

ولربما يتحمل التبعة أهل بلد قد جنى عليهم هذا بسوء تصرفه، سوء صنعه، وهم في أحوال لا تحتمل الزيادة من الضعف والهوان، فيأتي بزعمه أنه ينصرهم، أو أنه ينصر دين الله فيتصرف تصرفات، يفعل فعلًا تزينه له نفسه الأمارة، ثم بعد ذلك يقع من الفساد والضر والشر ما الله به عليم.

وانظر ما يجري في مشارق الأرض ومغاربها من الذي يتحمل تبعة ذلك!، فهذا أمرٌ يحتاج أن يتشاور فيه أهل العلم والرأي السديد، ولا يجترئ أحد على بقية المسلمين.

سابعاً: أن يكون هناك تحاور.

إذا اختلفنا مع إنسان نسمع منه مباشرة، إذا كان له رأي، فتوى معينة، أو نحو ذلك، نسمع منه لا داعي للنَقَلة الذين ينقلون الكلام أحيانًا على غير وجهه، ينقلونه مع زوائد، ينقلونه مع أمور مؤثرة، تورث الوحشة في القلوب، فنجد أننا نتراشق من بعيد، ولا نريد أن نلتقي، ولا نريد أن يسمع بعضنا من بعض.

وقد نتصور أن جلوسنا مع هذا الذي لربما خالفناه أن ذلك يكون من قبيل التعزيز له، أو الرفع من شأنه، هذه قضايا قد تقدر بهذا، ويكون التقدير صحيحًا، وقد لا يكون التقدير صحيحًا، فيكون هذا من الأوهام.

فالمقصود أن أهل العلم -وليس كل أحد- من الراسخين العقلاء من يملكون الحكمة يسمعون مباشرة من هذا وذاك، هذا إنسان أخطأ، تعال، ما وجه هذا القول؟ ما وجه هذه الفتوى؟ ما وجه هذا الكلام الذي نشر؟ بدلاً من أن يكون هناك تباعد، وتصور، كل يوم يزداد السوء، ولربما كان بالإمكان حل ذلك جميعًا منذ البداية لأول شرارة في مجلس يسمع فيه كل طرف من الآخر، لكن مع الأيام والليالي والسنوات أصبحت الوحشة، وتحول هذا الإنسان الذي كان موافقًا في يوم من الأيام إلى خصم ومخالف، فأبعد وأبعدنا عنه، كان يمكن أن تعالج هذه القضايا منذ بداياتها، اسمعوا مباشرة، لا داعي للوسطاء والتشويه والتضخيم، فالأمة لا تحتمل أكثر مما هي عليه.

والله قال: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46].

وقال: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، أحيانًا نتحدث عن إنسان، ونحن ما قرأنا له شيئًا، ولا سمعنا منه شيئًا، إنما هي وحشة يلقيها الشيطان، ثم بعد ذلك لا مساس، هذا ما يجوز، لو جلست معه، لو سمعت منه لربما تدرك أن ما يقال، أو ينقل أنه غير صحيح، وأنه كذب.

ثامناً: أن نبتعد عن التحزب، والتعصب.

كما ذكرنا في الكلام على التعامل مع هذه القضايا، لا يمكن أن يحصل الاجتماع ووحدة الأمة لا على الكليات، ولا على غيرها إذا كان كل طائفة تتحزب لنفسها، وتتعصب لما عندها، وتريد من الآخرين أن يجتمعوا تحت لوائها وظلها، هذا أمر لا يكون سواء كان ذلك في ميدان الدعوة، أو كان ذلك في ميدان القتال، فإن هذا لن يتحقق، ولكن يكون الإنسان في حال من التجرد والنظر في مصالح الأمة.

وكما ذكرنا من كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- أن الواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله ورسوله، وأن يبغض ما أبغضه الله ورسوله، مما دل عليه في كتابه، فلا يجوز لأحد أن يجعل الأصل في الدين لشخص إلا لرسول الله ﷺ، ولا يقول إلا لكتاب الله ، ومن نصب شخصًا كائنًا من كان، فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل فهو: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا [الروم:32]"[23]، إلى آخر ما ذكر، مما أشرنا إليه سابقًا.

وهكذا في كلامه الآخر أن موالاة طائفة ومعاداة طائفة أخرى بالظن والهوى إنما هو من فعل أهل البدع، وأدنى درجات هذه الموالاة الباطلة حصول الميل القلبي نحو الموافق على الهوى وإن كان طالحًا، والنفور القلبي من المخالف وإن كان صالحًا.

فهنا يقول شيخ الإسلام: أقل ما في ذلك أن يفضل الرجل من يوافقه على هواه، وإن كان غيره أتقى لله منه، وإنما الواجب أن يقدم ما قدمه الله ورسوله، ويؤخر من أخره الله ورسوله، ويحب ما أحب الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله[24].

ويقول أيضًا: وليس لأحد أن ينتسب إلى شيخ يوالي على متابعته، ويعادي على ذلك، بل عليه أن يوالي كل من كان من أهل الإيمان، ومن عُرف منه التقوى من جميع الشيوخ وغيرهم، ولا يخص أحدًا بمزيد موالاة إلا إذا ظهر له مزيد إيمان وتقوى، فيقدم من قدمه الله تعالى ورسوله عليه، ويفضل من فضله الله ورسوله ﷺ[25].

وهكذا يذكر: إذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام، والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته[26].   

كلام طويل جميل على هذا الطراز، وللأسف نحن أحيانًا نتصرف تصرفات، الولاء عندنا ينعدم تمامًا مع من نختلف معه.

يا إخوان، هذه طريقة الخوارج والمعتزلة -أعني: الوعيدية- الذين يقولون: إن الولاء والبراء لا يتجزأ إما أسود، وإما أبيض.  

أهل السنة يقولون: يتجزأ يُوالَى الإنسان بقدر ما فيه من الدين والإيمان والاستقامة على الصراط المستقيم، ويكون البراء منه بقدر ما عنده من الانحراف والإساءة، بصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى.

هل نحن كذلك؟ أم أننا نقبل الناس تحت فقط الدعاوى والأسماء، نجفوهم أو نقربهم؟ هذا كله لا يجوز، والله المستعان.

أيضًا من هذه العبارات التي لشيخ الإسلام يقول: "ليس للمعلمين أن يحزِّبوا الناس، ويفعلوا ما يلقي بينهم العداوة"[27].

ليس للمعلمين أن يحزبوا الناس، معلم في مسجد، معلم في جامعة، معلم في مدرسة، وإنما يعلمونهم دينهم -هذا كلامي أنا- يعلمونهم دينهم، ويعلمونهم ما ينفعهم، ويعلمونهم ما يحصل به جمع الكلمة، وتأليف القلوب، لا تشتيت الشمل، فلا يصح أن يكون بعضنا معاول للهدم والتفريق من غير موجب.

يقول شيخ الإسلام: "المؤمن عليه أن يوالي في الله ويعادي في الله، فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، وذكر الآية وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9][28].

ثم ذكر كلامًا طويلًا يمكن مراجعته في مجموع الفتاوى في المجلد الثامن والعشرين صفحة مائتين وتسعة، وله كلام في مواضع أخرى، فهنا نعرف هذا الأصل في الطريق إلى الاجتماع .

تاسعاً: أن التصحيح مطلب.

 لابد من التصحيح والمراجعة، ولكن بالرحمة والشفقة، بقلب ناصح محب، يتحرى الخير، ويحسن الظن، ويلتمس المعاذير، ويحفظ حقوق المسلمين، ولا يصلح لهذا من كان وغِر الصدر يصفي الحسابات، أو يرجِّي تحصيل مكاسب لنفسه هو، هذه قضايا مصالح إستراتيجية، ما يصلح أن يكون الذي يدخل فيها أو يريد أن يتصدر أو يتصدى لها أن يبغي تحصيل مكاسب لنفسه هو، أو أن ينتقم من زيد أو عمرو، أو الطائفة الفلانية، أو نحو ذلك، هذا لا يصلح، هذا سيكون طرفًا في هذا الشقاق والصراع والعراك.

هذا يحتاج إلى غيره؛ من أجل أن ينتشله؛ لأنه أحد الأطراف، الذي يريد أن يصلح لا يمكن أن يكون طرفًا في هذا الصراع، وإنما يكون مثل الطبيب الذي يعالج العلل والأمراض، أما أن يكون قد اعتل من رأسه إلى أخمص قدميه، ثم بعد ذلك يقول: المخرج عندي، هو لم يعالج نفسه، فهو جزء من هذا العراك الدائر، يقع في هذا، ويذم هذا، وتزيد الفرقة على يده.

عاشراً: سلامة القلب والصدر للمسلمين من الغل والحقد والضغائن.

قال تعالى:مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [لفتح:29]، ولاحظ لما ذكر الله الطوائف الثلاث: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ [الحشر:8]، ثم قال: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ [الحشر:9]، هؤلاء لا يمكن إدراك هذه المراتب التي أدركوها؛ لأنها قد مضت، بقيت المرتبة الثالثة وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ [الحشر:10]، ليس للذين سبقونا بالإيمان فقط، غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا، فمن أراد أن يكون مُحصِّلا لهذه المرتبة الثالثة فعليه أن يسلم قلبه من الغل لإخوانه المسلمين.

وهذا الغِل في القلب كالغُل في العنق، رباط يربط العنق -نسأل الله العافية- تشد إليه اليدان، ثم بعد ذلك لا يستطيع الإنسان أن يتصرف في شيء مما يصلحه، أو ينفعه، أو يرفعه، يكون القلب مشوشًا مشغولًا بهذه الأمور التي امتلأ بها.

فأين هذا من هذه الصفة التي ذكرها الله عن النبي ﷺ وأصحابه: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ؟ [الفتح:29]، ثم إن قوله -تبارك وتعالى- في الآية الأخرى: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ [الحشر:10]، هذا الدعاء لهم يدل على أنهم يصافونهم، وعلى سَنَنهم، وأنهم لا يحملون لهم إلا المشاعر الطيبة.

الحادي عشر: حفظ حقوق المسلمين.

كما عرفنا في أول هذه المجالس هناك حقوق يجب أن تحفظ ولا تضيّع، فجمع الكلمة ينبغي أن يراعى معه مثل هذه الأمور، وإلا فإن إهدار الحقوق يكون سببًا لمزيد من الفرقة والشر والتشاحن، هذه الحقوق بجميع أنواعها منها الحقوق القلبية: كالمحبة، وسلامة الصدر لإخوانه المسلمين، الفرح لما يحصل لهم من الخير، الحزن لحزنهم وآلامهم، هؤلاء لما تقع لهم مصيبة خاصة، أو تقع مصيبة عامة لهم في بلدهم، أو نحو ذلك، لا يصح أن أشمت بهم، وإن اختلفت معهم، أو مع بعضهم، ولا أن أظهر الفرح والاستبشار بذلك، أو أن أعين عدوهم عليهم.

هذا لا يجوز بحال من الأحوال، فأين الموالاة بين المؤمنين؟ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] وإنما يفرح لفرحهم، ويحزن لحزنهم، سواء عرفهم أو لم يعرفهم.

وهناك حقوق تتعلق باللسان: إلقاء السلام، رد السلام، تشميت العاطس، وكذلك تعليم الجاهل، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الدعاء لهم، كل هذا مما يتصل باللسان.

كذلك هناك أشياء تتعلق بالجوارح: كإعانة وإغاثة الملهوف، ونحو ذلك.

وهناك أمور تتعلق بالمال: كالصدقة، والزكاة، والمواساة، وإطعام الجائع، ونحو ذلك.

هذا كله من حقوق المسلمين، وللأسف إذا كثر الشر لربما تُنسى مثل هذه الأمور التي هي من الأسس والمبادئ التي عرفناها في أول ما عرفنا من مبادئ العلم.

الثاني عشر: التواصل مع الآخرين والسماع منهم مباشرة.

كما ذكرنا في التعامل مع الاختلاف، فقضايا الاتصال هذه لربما تسبب عثرة، ولقد تحدثت عن ذلك قريبًا، فلا حاجة للإعادة.

الثالث عشر: قضية التثريب أو التشنيع على من أخطأ باجتهاد سائغ هذا أمر لا يصح.

فمثل هذا اجتهد، وهو مؤهل للاجتهاد، وكذلك نحسن الظن به أنه أراد بذلك ما عند الله -تبارك وتعالى- فهنا كما قال يحيى بن سعيد: "ما برح المستفتون يستفتون، فيُحل هذا، ويحرِّم هذا، فلا يرى المُحرِّم أن المُحلِّل هلك لتحليله، ولا يرى المُحلِّل أن المُحرِّم هلك لتحريمه"[29]

الإمام أحمد يقول عن إسحاق بن راهويه: "ما عبر الجسر إلينا أفضل من إسحاق، وإن كنا نختلف معه في أشياء، فإنه لم يزل الناس يخالف بعضهم بعضًا"[30].

ومن ثَمّ فإن هذا الاختلاف في أمور سائغة، أو اجتهادات لا يؤثر في جمع الكلمة، واتحاد الأمة، بل إن شيخ الإسلام -رحمه الله- لما ذكر الثنتين والسبعين فرقة -فرق الضلال، يقول: "فأما من كان في قلبه الإيمان بالرسول، وما جاء به، وقد غلط في بعض ما تأوله من البدع، فهذا ليس بكافرٍ أصلًا، ومن قال بأن الثنتين والسبعين فرقة كل واحد منهم يكفر كفرًا ينقل عن الملة -يعني بعينه- فقد خالف الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة -رضوان الله عليهم...". لاحظ يتكلم عن الثنتين والسبعين فرقة!

يقول: "..وإجماع الأئمة الأربعة، وغير الأربعة، فليس فيهم من كفر كل واحد من الثنتين والسبعين فرقة[31].

ويقول: فإن تسليط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات، وإنما أصل هذا من الخوارج والروافض الذين يكفرون أئمة المسلمين لما يعتقدون أنهم أخطئوا فيه من الدين، وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض"[32]. وذكر كلامًا نحو هذا أيضًا في مواقع أخرى.

الرابع عشر: النظر في جوانب الاتفاق.

يعني: لا نبحث دائمًا عن جوانب الاختلاف، هناك جوانب نتفق فيها قد تكون هي الأكثر، وقد تكون هي الأصول، ومن ثَمّ فإن إبراز مثل هذه الأمور أدعى إلى الاجتماع.

الخامس عشر: الاجتماع على الأسماء الشرعية وترك ما عداها.

وقد سبقت الإشارة إلى هذا، وشيخ الإسلام يقول: "فلا نعدل عن الأسماء التي سمانا الله بها -المسلمين، المؤمنين، عباد الله- إلى أسماء أحدثها قوم وسموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان، بل الأسماء التي يسوغ التسمي بها مثل انتساب الناس إلى إمام أو شيخ.... إلى أن قال: فلا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بها"[33].

وقد مضى الكلام على هذا، ومن ثَمّ فإن أهل السنة والجماعة ليس لهم اسم من هذه الأسماء المحدثة التي عرف بها أهل البدع والضلال.

السادس عشر: التكامل.

كما ذكرنا في اختلاف التنوع، هذا له اهتمامات وهذا له اهتمامات، كل هذا من العمل المشروع، فهذا يكمل هذا، وهذا يكمل هذا، ولا داعي للتشاحن والتباعد والتحاسد والتقاطع والتفرق، هذا إذا كان المراد بذلك ما عند الله -تبارك وتعالى.

السابع عشر: قد يتعذر الكمال، فإن الإنسان مجبول على النقص.

وكذلك أيضًا قد يتعذر الكمال في هؤلاء الذين يقومون بهذه الوظائف، فإذا تعذر إقامة الواجبات -كما يقول شيخ الإسلام- من العلم والجهاد، وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب، كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيرًا من العكس، وكثير من أجوبة الإمام أحمد وغيره من الأئمة خرج على سؤال سائل قد علم المسئول حاله، أو خرج خطابًا لمعين قد علم حاله"[34].

انتبهوا: هذه ضع تحتها ثلاثة خطوط، كما قلت لكم في المسائل التي فيها يأخذ هذا من الكتاب الفلاني والفتاوى الفلانية، وهذا يأخذ منه ثم يقول: انظر.

هذه فتاوى قيلت في وقائع معينة، لمعين بمناسبة معينة، هذه فتوى في واقعة عين، فلا يصح أن نجعلها أصلًا نحاكم إليه كل ما يقع إلى يوم القيامة، ونحتج بها ونضرب بها في وجه كل من خالفنا، ونقول: هذا العالم الفلاني قال كذا، وجدنا في الكتاب الفلاني كذا، هذا كلام غير صحيح.

يقول شيخ الإسلام: "فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول ﷺ إنما يثبت حكمها في نظيرها، فإن أقوامًا جعلوا ذلك عامًّا، فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به، فلا يجب، ولا يستحب، وربما تركوا به واجبات ومستحبات، وفعلوا به محرمات"[35].

يأخذ عبارة للإمام أحمد قيلت في مناسبة معينة، ثم يجعل ذلك منهجًا يتعامل فيه مع الأولين والآخرين، فيرمي هذا بكذا، وهذا أشد من اليهود والنصارى، وهذا كذا، وهذا كذا، وهذا كذا، عبارة قيلت في مناسبة معينة، في شخص معين في ملابسات معينة، ثم يجعل هذا من الأصول، هذا خطأ في الحكم على الناس، أو التعامل معهم.

يقول شيخ الإسلام أيضًا: "فإن الإمام أحمد مثلًا قد باشر الجهمية الذين دعوه إلى خلق القرآن، ونفي الصفات وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب، والحبس، والقتل، والعزل عن الولايات، وقطع الأرزاق، ورد الشهادة، وترك تخليصهم من أيدي العدو، بحيث كان كثير من أولي الأمر إذ ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة وغيرهم يكفرون كل من لم يكن جهميًّا موافقًا لهم على نفي الصفات، مثل القول بخلق القرآن، ويحكمون فيه بحكمهم في الكافر، ومعلوم أن هذا من أغلظ التجهم"[36].

إلى أن قال: "ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم، فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع"[37].

فنحن نأتي نأخذ عبارة، نأخذ موقفًا ثم بعد ذلك نعمم هذا الموقف.

الثامن عشر: العمل والجد والاجتهاد على تأليف القلوب.

وقد أشرت إلى هذا في الكلام على طريقة التعامل مع الاختلاف، وشيخ الإسلام له كلام جيد في هذا الموضوع، ومن كلامه يقول: "تعلمون أن من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين: تأليف القلوب، واجتماع الكلمة وصلاح ذات البين، وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة"[38].  

التاسع عشر: ليكن الحق هو الرائد لنا.

أن يكون مطلوبنا هو الحق، كما قال بعض أهل العلم: "أن يكون الواحد منا في طلب الحق كناشد ضالة، لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يده، أو على يد من يعاونه، ويرى رفيقه معينًا لا خصمًا، ويشكره إذا عرّفه الخطأ وأظهر له الحق"[39].

القضية ليست أن يظهر الحق على يدي، أو أنا الذي أقوم بالشيء الفلاني، المهم هو نصر الدين، وإعزاز كلمة الله -تبارك وتعالى.

ويقول: "فالواجب على كل مؤمن موالاة المؤمنين وعلماء المؤمنين، وأن يقصد الحق، ويتبعه حيث وجده، ويعلم أنه من اجتهد منهم فأصاب فله أجران، ومن اجتهد منهم فأخطأ فله أجر لاجتهاده، وخطؤه مغفور"[40].

وكذلك أيضًا الكلام الذي أشرنا إليه سابقًا من كلامه في وجوب العدل والقسط، يقول: "لا يجوز لنا إذا قال يهودي، أو نصراني -فضلًا عن الرافضي- قولًا فيه حق أن نتركه، أو أن نرده كله"[41]. إلى آخر ما قال.

وهكذا الحَبر الذي قال: يا محمد، نعم القوم أنتم، لولا أنكم تشركون، قال: سبحان الله!، وما ذاك؟، قال: تقولون إذا حلفتم: والكعبة، فأَمهل رسولُ الله ﷺ شيئًا ثم قال: إنه قد قال، فمن حلف فليحلف برب الكعبة، ثم قال: يا محمد، نعم القوم أنتم، لولا أنكم تجعلون لله ندًّا، قال: سبحان الله، وما ذاك؟، قال: تقولون ما شاء الله وشئت، فأَمهل رسولُ الله ﷺ شيئًا ثم قال: إنه قد قال، فمن قال: ما شاء الله فليفصل بينهما ثم شئت[42].

الحافظ ابن القيم -رحمه الله- يذكر هذا المعنى أيضًا، وأن على المؤمن أن يتبع هدي النبي ﷺ في قبول الحق ممن جاء به من ولي وعدو وحبيب وبغيض وبر وفاجر، ويرد الباطل على من قال كائنًا من كان[43].

وله كلام آخر أيضًا يشبه هذا.

الواجب الحذر من جملة من الأمور:

أولاً: نحذر من الاشتغال برمي الناس بالألقاب والتنابز بها.

فهذا أمر محرم، وكما أشرنا فهو من الفسوق، وانظر إلى كلام لهذا العالم ابن بطة -رحمه الله- يشكو فيه من مثل هذه الحال، وهي حال قديمة، يقول: "عجبت من حالي في سفري، وحضري مع الأقربين مني والأبعدين، العارفين والمنكرين، فإني وجدت بمكة وخراسان، وغيرها من الأماكن، أكثر من لقيت بها موافقًا، أو مخالفًا دعاني إلى متابعته على ما يقوله، وتصديق قوله، والشهادة له، فإن كنت صدقته فيما يقول وأجزت له ذلك كما يفعله أهل هذا الزمان سماني موافقًا، وإن وقفت في حرف من قوله، أو في شيء من فعله سماني مخالفًا، وإن ذكرت في واحد منها أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك وارد سماني خارجيًًّا، وإن قرأت عليه حديثًا في التوحيد سماني مُشبهًا، وإن كان في الرؤيا سماني سالميًّا -فرقة يقال لها السالمية، وإن كان في الإيمان سماني مرجئيًّا، وإن كان في الأعمال سماني قدريًّا، وإن كان في المعرفة سماني كرّاميًّا، وإن كان في فضائل أبي بكر وعمر سماني ناصبيًّا، وإن كان في فضائل أهل البيت سماني رافضيًّا، وإن سكت عن تفسير آية أو حديث فلم أجب فيهما إلا بهما سماني ظاهريًّا، وإن أجبت بغيرهما سماني باطنيًّا، وإن أجبت بتأويل سماني أشعريًّا، وإن جحدتهما سماني معتزليًّا، وإن كان في السُّنن مثل القراءة سماني شافعيًّا، وإن كان في القنوت سماني حنفيًّا، وإن كان في القرآن سماني حنبليًّا، وإذا ذكرت رجحان ما ذهب كل واحد إليه من الأخبار؛ إذ ليس في الحكم والحديث محاباة، قالوا: طعن في تزكيتهم، ومهما وافقت بعضَهم عاداني غيره، وإن داهنت جماعتهم أسخطت الله -تبارك وتعالى"[44].

السلامة متعذرة، لن تسلم، ولكن لا تقع في مثل هذا العمل المشين.

ثانيًا: إياك أن يضيق عطَنُك، وتتعامل مع الناس على أساس إن لم تكن معي فأنت ضدي، إما مائة وإما صفر، فهذا غير صحيح.

ثالثًا: لا نخلط بين الموضوع والشخص.

قد يجتهد بعض طلبة العلم، قد يجتهد بعض الأخيار، قد يجتهد بعض العلماء، يخطئ، قد يكون هذا الخطأ من قبيل المستهجن في نظرنا، ثم بعد ذلك لا يكون رد الفعل هو معالجة هذا الخطأ، وبيان الصواب، وبيان الحكم الصحيح في هذه القضية، وذكر الأدلة وما إلى ذلك، بل يتحول إلى الكلام على شخصه، فنبدأ نطعن فيه، ونظلمه، ونسيء إليه، ونرميه بالأوصاف القبيحة، ونجهّله، ونشكك في قصده ونيته، فهذا لا يجوز.

نحن عندنا خطأ نعتقد أنه خطأ نعالج هذا الخطأ، نقول: الموقف الصحيح كذا، الحكم الصحيح كذا، الحكم الراجح كذا، نعالج هذه القضية بمعالجة علمية، لكن إذا تحول هذا إلى كلام على هذا الإنسان الذي خالف في هذه القضية الشرعية، أو في موقف من المواقف، أو في حدث من الأحداث، أبدى رأيه، ثم بعد ذلك نتحول إلى هجوم على هذا الإنسان، ونرميه بكل وصف قبيح، هذا لا يجوز بحال من الأحوال، والله علمنا أن نقول: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] قال الله: قد فعلت[45].

شيخ الإسلام يقول: "كثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا، وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة، إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها، وإما لرأي رأوه، وفي المسألة نصوص لم تبلغهم، وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا[46].

رابعًا: لغة الحوار.

سواء كان هذا في حوار مباشر عبر قناة فضائية، أو كان في كتابات، في منتديات، في غير ذلك، أولًا: حدد الهدف ماذا تريد أنت من هذا الحوار؟ هل تريد أن تبرز نفسك؟ هل تريد أن تسيء إلى هذا الإنسان، أن تكسره؟ هل تريد أن تشنع عليه؟، أو أنك تريد هداية هذا الإنسان؟، أو بيان الخطأ للناس؟ فلابد من تحديد الهدف، ومن ثَمّ تُحدد اللغة، لكننا للأسف في كثير من الأحيان نصُكّ المخالف صكَّ الجَنْدَل، ونُنشِّقه الخردل، ونريد منه أن يقبل.    

حتى لو كان هذا من أصحاب البدع الغليظة، ونحن نريد دعوته، فينبغي أن تكون اللغة لغة مقبولة، حجج وأدلة، كلام مقنع، أما أن تتحول القضية إلى سباب، وتشبيه بالحيوانات، أو وصف هذا الإنسان بأنه خنزير وأنه كذا وكذا ثم نريد منه أن يقبل منا! هذا الكلام غير صحيح، وإنما يكون بعبارة مقبولة، بيِّن الحق ووجه الصواب، واجتنب العبارات الموحشة، والله يقول: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125].

شعيب  لما قال له قومه: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ [الأعراف:66]، لم يزد على أن نفاها عن نفسه، ما رد عليهم بالمثل، وإنما قال لهم: يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:67].

فهو أجل وأشرف وأنزه وأعظم من أن يقع في شيء من السفاهة، السفه لا يليق بمثل هؤلاء، ولا بأتباعهم من الدعاة إلى الله وأهل العلم، ولهذا لما قال قوم موسى عندما أمرهم أن يذبحوا بقرة، قالوا: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67].

يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي ما حاصله أن ذلك يدل على أن الذي يستهزئ بالناس، ويسخر منهم أنه من الجاهلين[47].

فينبغي أن تكون اللغة في الردود مقبولة، أحيانًا عنوان الكتاب في غاية الإيجاع والإيحاش، ولا حاجة لذكر بعض العناوين، لكن لو ذكرت طرفًا من العنوان لبعض الكتب المتقدمة، وإلا فالكتب في عصرنا الحاضر فيها ما فيها، بعض الكتب المتقدمة، بعض العنوان لن أذكر العنوان كله، فإن النطق بمثل هذا يثقل على اللسان، "الكاوي لدماغ فلان"، هذا عنوان كتاب، رد على عالم "العروج بالفروج" هذا عالم يرد على عالم! ولا حاجة لتسمية هذا ولا هذا، هذا عنوان كتاب يرد فيه على عالم؟

فمثل هذا لا يحقق المطلوب، وإنما يضر القائل به نفسه، والله يقول: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ [النور:26].

ابن جرير يحمل ذلك على الكلمات، كلمات الخبيثات للخبيثين، تصدر مِمن هو أهل لها، مِن موضعها ومعدنها[48].  

فيبتعد الإنسان وينأى عن هذا وإن كانت الآية أعم من ذلك، فهي -والله أعلم- تشمل الكلمات والأوصاف والذوات، يعني: النساء، والرجال كذلك.

ومن هنا فلا داعي للهبوط بالعبارات، وإنما يتلطف الإنسان علّ ذلك أن يقبل، النبي ﷺ يقول لأحد أقطاب المشركين، يخاطبه بكنيته: أَفَرَغت يا أبا الوليد؟[49]، حينما حاوره عتبة بن ربيعة، وهو من عتاة المشركين وكبرائهم.

كذلك حينما دخل النبي ﷺ مكة، قال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن كلمة تحقق مصلحة، الرجل يحب الفخر، وهو سيد من سادات هؤلاء، وقال في الوقت نفسه: ومن دخل داره فهو آمن[50].

إذًا دخول دار أبي سفيان لا قيمة له، "من دخل داره فهو آمن" يعني: دخل في بيته هو، بيت الإنسان، كل واحد يدخل في بيته فهو آمن إذًا ما الحاجة للذهاب إلى دار أبي سفيان؟ لكن لها وقع في نفس أبي سفيان فقالها ﷺ.

وهكذا حينما كتب لملك الروم وصفه بأنه عظيم الروم[51].

فما توجد حاجة أن يوصف هذا المخالف بأنه خنزير الروم، أو أنه كلب الروم، أو نحو ذلك، إذا كنا نريد استمالة هذا الإنسان، أو دعوة هذا الإنسان، أو إصلاح حال هذا الإنسان، فهذه تحتاج إلى حكمة، وتحتاج إلى قلب كبير، وتحتاج إلى تربية، نفوس مهذبة، تحتاج إلى حسن نظر في الأمور، وتحتاج إلى مجاهدة لهذه النفس التي قد يثقل عليها استخدام العبارات اللطيفة واللائقة.

أحيانًا بعض الناس قد يثقل عليه أن يكني صديقه، أو أن يكني ولده، بعض الناس يثقل عليه أن يقبل رأس والده، أو والدته، عنده كبر داخلي، ويقول: لو فعلت سيستغربون، هو متعود على الجفاء، يستغربون منه البر واللطف والإحسان، فما تطيعه نفسه، إذا أراد أن يكني صاحبه، أن يكني جليسه، أن يكني كذا نفسه ما تقبل، يناديه باسمه، هذا جفاء، أخلاق صحراوية، والله المستعان. 

خامساً: أن نبتعد عن حال ذاك الذي قال لقومه: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى [غافر: 29].

هناك متسع فلا داعي للتعامل مع الناس بهذه الطريقة، الناس يفكرون ويجتهدون، فيهم علماء، فيهم عقلاء، أمّا أن أحمل الناس على رأيي، ويجب أن ينقادوا له، وإلا فهم مخالفون وأرميهم بالقبائح، فهذا لا يليق، والله المستعان.

تجد الإنسان أحيانًا ينتقد غيره، ينتقد عسف فلان، أو تضييق فلان، وحجر فلان على غيره، وتجد حاله مع الناس أسوأ من ذلك، والله المستعان.

سادسًا: في هذه المسائل التي فيها مساغ لا داعي لاستعمال العبارات القوية.

نحو: هذا الحق الذي ليس بعده إلا الضلال، هذا الحق الذي لا مرية فيه، هي مسألة اجتهادية، رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب، عبارات علماء كبار أمثال ابن الجزري في مسائل دقيقة في تخصصهم تجد عبارات: الذي أظنه -يعبر هكذا، يعبر بالظن- أن هذا هو الأرجح، فنجد أننا أحيانًا نستعمل عبارات خاصة حينما نقرأ كلام أهل العلم أحيانًا، ونريد أن نلبس ثوبًا ليس لنا، ثم بعد ذلك تأتي هذه العبارات في ثنايا الكلام، في ثنايا الكتابة، ويلاحظ أن هذه الكلمة كبيرة ما تركب على قائلها، مثل الطفل إن لبس ثوب أبيه، فالثوب حسن على أبيه، ولكنه قبيح على هذا الولد، يثير الضحك والتندر، ولربما يتعثر به فيسقط وينكسر، فهكذا الذي يلبس ثوبًا ليس له، ويستخدم عبارات لا تُحتمل منه، خَفف خفف، لطّف.

سابعًا: مما ينبغي أن نحاذره: أن نبتعد عن بعض العبارات المنفوخة.

نجد أننا نتكلم أحيانًا عن شخص نحبه: من فطاحل العلماء، وقد يكون طالب علم، لكن ما وصل إلى مرتبة الرسوخ كما قالوا، ونعطيه ألقابًا، لربما قلنا عنه: إنه فقيه العصر، أو إنه محدث، أو حافظ، كم يحفظ؟ ستمائة ألف حديث؟

الإمام أحمد -رحمه الله- سئل: إذا حفظ الرجل مائة ألف حديث يكون فقيها؟ قال: لا، قال: فمائتي ألف؟ قال: لا، قال: فثلاثمائة ألف؟ قال: لا، قال: فأربعمائة ألف، قال بيده هكذا، وحرك يده[52].

أحيانًا لربما نصف كتابًا، أو مقالًا: مقال محرر، كتاب في الصميم، وتقرأ الكتاب تجد عليه ملاحظات كثيرة، فيه إشكالات، يحتاج إلى تحرير، فيه عبارات ليست محررة، واضح أن الكتاب ما نضج، كان ينبغي ألا يخرج الآن، فيه ملاحظات لغوية، فيه ملاحظات علمية، لكن هؤلاء بعين الرضا، أو لربما أنهم لم يتأهلوا للتمييز، وما رأوا شيئًا فظنوا أن هذا الكتاب ما بعده، أو بُهروا بطالب العلم هذا، فظنوا أن هذا البحر الحبر العلامة الفهامة الفقيه المحدث الحافظ، هذا لا داعي له.

بعض العلماء كان يقول عن نفسه: أنا طويلب علم مقصر، في مقدمة لمحاضرة: معنا فضيلة الشيخ الـ...، قاطع المقدم وقال: أنا طويلب علم مقصر، لا داعي للتزيد.

فمثل هذا نبتعد عنه، ولربما تتغير أراؤنا حينما ننمو من الناحية العلمية، والفكرية، والعقلية، الإنسان يمر بمراحل إذا استمر في العلم، الكتاب الذي كنت تعجب به، وتقول: هذا الكتاب جيد، وتنصح دائمًا به، والناس يبحثون عنه، ولا يجدون له طبعة أحيانًا، ويكون نادرًا، وكذا، تقرؤه بعد عشرين سنة، أو كذا، تقول: عجيب! أنا كيف كنت معجبًا به، هذا كله نقولات من كلام الحافظ ابن حجر في الفتح، ومن شروح المتأخرين، وما فيه جديد، كيف كنتُ معجبًا بهذا الكتاب؟ لا جديد فيه، ومن قبل تُطريه في كل مجلس، كتاب هذا أفضل -لاحظ كلمة أفضل- شروح الكتاب الفلاني، وبعد مدة تقرأ الكتاب مرة ثانية، تقول: غريب! كيف كنت معجبًا به؟

أحيانًا تظن الكلام الجيد الجميل هذا كلام هذا المؤلف، بعد مدة تنمو المدارك، وكذا يتبين لك أن هذه الأشياء الجميلة هي من الكتاب الفلاني الذي سبقه في التفسير، أو في شرح الحديث، أو في الفقه، أو في غير ذلك، فتزهد في الكتاب، طيب كنتَ أوصلته إلى القمة، فعلى الأقل الآن لا توصل هذا الكتاب إلى الحضيض.

فمدارك الإنسان تنمو، ثم يغير بعد ذلك رأيه، إذًا لا تكن ضحية لمثل هذا، فعليك بالتوسط في الأمور، عليك بالتوسط.

ثامنًا: الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة، الخطأ في الإحسان مقدم على الإساءة، ومن ثَمّ فإن الخطأ في المدح أيضًا أهون من الخطأ في القدح.

تاسعًا: لا تتتبع العيوب والزلات والعورات والأخطاء.

كما يقول ابن فرحون المالكي: فاتق الله، وليردنّك عيب نفسك عن عيوب الناس، ولا تكن كمثل الذباب الذي لا يقع على المواضع السليمة من الجسد، ويقع على الجروح فينكيها[53]. لا تكن بهذه المثابة.

عاشرًا: الزم الحذر، وأمسك عليك لسانك.

أمسك عليك لسانك، انظر ماذا يقولون عن هؤلاء الكبار، الربيع بن خثيم -رحمه الله- قال عنه بعضهم: "ما أرى الربيع بن خثيم تكلم بكلام منذ عشرين سنة إلا بكلمة تصعد"[54].

تصعد يعني: هو يحسب الحرف، يزن الحرف، لا يطلق لسانه.

وقال آخر: "صحبت الربيع عشرين عامًا ما سمعت منه كلمة تعاب"[55]، ما فيه كلمة عوجاء.

هذا يقول: "جالست الربيع بن خثيم سنين فما سألني عن شيء مما فيه الناس -يعني ما عنده فضول- إلا أنه قال لي مرة: أمك حية؟[56].

يعني: ما ينشغل بفلان من أين له الفيلا؟، فلان هذه سيارته؟، فلان أين يشتغل؟.

كان يقول: "كل ما لا يراد به وجه الله يضمحل"[57].

انظر إلى مثل هؤلاء القمم، لو أراد الإنسان أن يحسب ما يجري على لسانه وقلبه وجوارحه، أين هو من هؤلاء؟ بون شاسع كبير.

ابن مسعود قال لبعض الأشخاص: إنه سيأتي عليك زمان -يعني إن مُد في العمر- كثير خطباؤه، قليل علماؤه، كثير سُؤّاله، قليل معطوه، الهوى فيه قائد للعمل.  

الشاهد: قال: متى ذلك؟ قال: "إذا أميتت الصلاة، وقبلت الرُّشى، وبيع الدين بعرض يسير من الدنيا، فالنجا ويحك، ثم النجا[58].

يقول بعض أهل العلم: إن ما ذكر في هذا الخبر وغيره شاهد وحاضر، يعني: في عصرهم، يقول: "هؤلاء أجمعوا -يعني السلف- على التحذير من زمانهم وأهله، وأمروا بالعزلة، وتواصوا بها، ولا شك أنهم أبصر وأنصح، وإن الزمان لم يكن بعدهم إلا أشد وأمر"[59].

وذَكر عن يوسف بن أسباط قال: سمعت الثوري يقول: "والله الذي لا إله إلا هو لقد حلت العزلة في هذا الزمان". ويقول بعض من جاء بعدُ من أهل العلم، يقول: "قلت أنا: ولئن حلت في زمانه ففي زماننا هذا وجبت وافتُرضت"[60].

يقول سفيان الثوري أيضًا: إنه كتب إلى عبّاد الخواص: "أما بعد، فإنك في زمان كان أصحاب محمد يتعوذون بالله من أن يدركوه فيما بلغنا، ولهم من العلم ما ليس لنا، فكيف بنا حين أدركناه على قلة علم، وقلة صبر وقلة أعوان على الخير، وكدر من الدنيا، وفساد من الناس؟"[61].

يعلق على هذا السنوسي في حاشيته على مسلم يقول: "قلت أنا: فكيف لو رأى هؤلاء الأئمة زماننا هذا الذي أدركناه -والله المستعان، وإليه المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله- وهو آخر القرن التاسع الذي آن فيه خروج الدجال، وطلوع الشمس من مغربها، ونحو ذلك من الأشراط الكبرى، فإن زمانهم، وإن كان على ما كان عليه فلم يخل من ظهور علماء عاملين، ولا من وجود أولياء في معاملتهم صادقين، بحيث يجد المسكين الطالب للآخرة من يصح الاقتداء به في أقواله وأفعاله، ويجد من يعينه على عزمه، والزيادة في أحواله[62]. إلى آخر ما ذكر.

ومن ثم أقول ما ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله: إن الحق كالذهب الخالص، كلما امتُحن ازداد جودة، والباطل كالمغشوش، إذا امتحن ظهر فساده، فالدين الحق كلما نظر فيه الناظِر، ونَاظَر عنه المُناظِر ظهرت له البراهين، وقوي به اليقين، وازداد به إيمان المؤمنين، وأشرق نوره في صدور العالمين، والدين الباطل إذا جادل عنه المجادل، ورام أن يقيم عوده المائل، أقام الله -تبارك وتعالى- من يقذف بالحق على الباطل فيدمغه، فإذا هو زاهق....[63]إلى آخر ما قال.

فأبشروا وأملوا، الدين محفوظ، والله -تبارك وتعالى- تكفل بذلك، وسيبقى حتى يظهره الله -تبارك وتعالى- على الدين كله، ولكن هذه مثل العواصف العارضة التي تعبر، وتمضي، كما مضت في القرون الماضية.

تلك الصور التي ذكرناها من حال أولئك المنحرفين، كان في المقابل سواد كبير من أهل الحق والدين والعلم، وأئمة المسلمين ونَصَحَة لله -تبارك وتعالى- ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم.

فنحن حينما ننظر إلى مثل هذه الوقائع والقضايا، فنحن لا نضخمها، ولا نعطيها أكثر مما تستحق، وإنما ننظر إليها من أعلى بنظر صحيح، فيكون لكل شيء القدر الذي يليق به، يوجد خير كثير، يوجد فضاء واسع، يوجد مجال رحب للدعوة إلى الله، والبر والمعروف، يوجد أخيار صلحاء من أهل العلم، ومن الدعاة، ومن المصلحين، ومن الباذلين والقائمين بأعمال البر المتنوعة، يوجد من العبّاد وغيرهم، وهذا أمر مشاهد لا يخفى، ولله الحمد.

ولكن في الوقت نفسه حينما ننظر نستعرض التاريخ فإنما نقصد بذلك ألا نقع، ألا نشتط، ألا نجرب على أنفسنا، أن نعتبر بما مضى، وإلا لو قدر أن نتحدث عن قضايا أخرى، ونذكر الجوانب المشرقة في تاريخ الأمة لكان أوسع من هذا بكثير، إنما هذه مثل الندوب السوداء فقط في صفحة بيضاء.

ولكننا استعرضناها، وتكلمنا عن هذه القضايا من أجل أن هذا مقام تحذير من الفرقة والاختلاف، فيُذكر من التاريخ ما تحصل به العظة والعبرة، فترتدع النفوس، وكل مقام له مقال، وإلا فالجوانب الطيبة، جوانب البر والمعروف في سالف الأمة وسابقتها عظيمة وكبيرة وواسعة، ويوجد في عصرنا هذا، وسيأتي رجال هم في أصلاب آبائهم ينصرون أيضًا هذا الدين، ويحملونه، ويدعون إليه، ويذبون عنه.

هكذا سنة الله صراع بين الحق والباطل، لكن يخاف المؤمن على نفسه، فهذا الكلام الذي أذكره  هو كلام محب مشفق ناصح، ما أتيت يومًا من الأيام هنا إلا وعرضت كلامي على نفسي، أين أنا من هذا الكلام الذي أقوله؟ وماذا أعني به؟ وماذا أقصد؟ فليس عندي في هذا إلا النصيحة لنفسي ولإخواني.

اسمع هذا الكلام، وانظر فيه، وليس هذا من تحليلاتي ولا استنتاجاتي، حرصت أن أورد كلام هؤلاء الأئمة الأعلام مع النصوص، وهذا هو التأصيل، أن نورد الأدلة من الكتاب والسنة، ولا نتكلم بأشياء ننشئها من عند أنفسنا، ومن استنتاجاتنا، وآرائنا، واجتهاداتنا، ونطالب الناس بها.

أتيت بكلام الأئمة الفحول الذين نجُمع عليهم، وأعرضت قصدًا عن كلام المعاصرين، مع كثرة العلم والخير والفضل، ولكني أعلم أن بعض القلوب تغيرت، فما أردت أن أنقل كلامًا لأحد من أهل العلم لربما يكون سببًا لانصراف بعض من يبلغه هذا الكلام، أو بعض من يسمع هذا، فإن المقصود أن نعتبر، وأن ننظر، فإن وجدنا حقا قبلناه، وإن وجدنا غير ذلك تركناه.

ولن تعدم في هذا الكلام الطويل المفصل في كلام على مسألة كهذه، تُطرح عادة في درس، أو مجلس واحد أو محاضرة، لن تعدم شيئًا تنتفع به، والحكمة ضالة المؤمن.

فينبغي أن يظهر أثر ذلك علينا، أن يظهر أثر هذا علينا بضبط اللسان، بضبط الجوارح، الأشياء التي ننشرها، الأشياء التي نقرؤها، المجالس التي نحضرها، مواقفنا من الآخرين، حتى يلقى العبد ربه -تبارك وتعالى- وهو نظيف.

ونصيحتي لكم التي أنصح بها نفسي: كن نظيفاً، خرجتَ إلى هذه الدنيا وأنت على الفطرة، ليس هناك أدناس، وليس هناك ذنوب، اخرج من هذه الدنيا نظيفًا، لا تحمل مظالم للمسلمين، لا تحمل غلا في قلبك، لا تتلوث ببدع وضلالات وانحرافات، واعلم أن التوبة من الذنوب والمعاصي إن كان ذلك فيما يتعلق بحقوق الناس ومظالمهم، فإن ذلك لا يكفي إلا مع استحلالهم، ولابد من دفع الثمن، الثمن هناك هو الحسنات والسيئات.

فإن الإنسان يكون قليل البضاعة، ضعيفًا يكسل عن قيام الليل، وعن صيام النهار، وعن تلاوة القرآن، ثم بعد ذلك أيضًا يقع في عرض هذا، ويظلم هذا، ونحو ذلك، وقلبه مليء من الغل على إخوانه المسلمين، ثم يأتي إلى الآخرة، ويأخذ هذا من الحسنات على قلتها، وهذا من الحسنات، وهذا من الحسنات، ويعيش في عذاب ونكد، هذا القلب المظلم بالغل.

انظروا إلى أهل الجنة لما قال الله وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [لأعراف:43]، فدل على أن الجنة لا يصلح فيها إلا النعيم، فالغل يعذَّب به صاحبه، فمن نعيم أهل الجنة أنه لا يوجد فيها غل، فلماذا يعذب الإنسان نفسه؟!.

ولذلك فإن من أقرب الطرق لإزالة ذلك ما قاله النبي ﷺ: ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئٍ مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم[64].

فلو كان هناك تواصل، وتناصح مباشر فإن ذلك يُذهب ما في القلوب، لكن إذا بقي الكلام بين الجدران فإن ذلك يورث الغل، لا يتغير واقع هذا الإنسان المنحرف، أو المخطئ سواء كان طائفة، أو شخصًا، أو غير ذلك، هو بعيد بمنأى عنا، لكن نحن نوقد نارًا، وقلوبنا هي التي تصطلي، هل هذا من العقل؟

فأسأل الله أن يلطف بنا، وأن يحفظنا وإياكم من مضلات الفتن، وأن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، ولا يجعله ملتبسًا علينا فنضل.

اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه الترمذي، أبواب البر والصلة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الاقتصاد في الحب والبغض (4/ 360)، رقم: (1997).
  2. سير أعلام النبلاء (11/ 203).
  3. المصدر السابق (11/ 204).
  4. المصدر السابق (11/ 201).
  5. المصدر السابق (21/ 383).
  6. المصدر السابق (10/ 444).
  7. إحياء علوم الدين (3/ 394).
  8. تفسير ابن كثير (6/ 480).
  9. أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في الغيبة (4/ 269)، رقم: (4876) وأحمد، رقم: (1651).
  10. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب الرياء والسمعة (8/ 104)، رقم: (6499)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله (4/ 2289)، رقم: (2986).
  11. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الغيبة (4/ 2001)، رقم: (2589).
  12. أخرجه ابن ماجه، كتاب الحدود، باب الستر على المؤمن ودفع الحدود بالشبهات (2/ 850)، رقم (2544)، وأحمد، رقم: (16959).
  13. الفتنة ووقعة الجمل (ص: 49-50).
  14. الشريعة للآجري (1/ 297) رقم: (16).
  15. مجموع الفتاوى (12/ 237).
  16. الكامل في التاريخ (2/ 695).
  17. سير أعلام النبلاء (13/ 265).
  18. تذكرة الحفاظ (3/ 34).
  19. المصدر السابق (3/ 34).
  20. أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن، باب: ومن سورة الأنعام (5/ 264)، رقم: (3070).
  21. مجموع الفتاوى (15/ 159).
  22. أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب: أعن أخاك ظالمًا أو مظلومًا (3/ 128)، رقم: (2443).
  23. مجموع الفتاوى (20/ 8).
  24. المصدر السابق (3/ 420).
  25. المصدر السابق (11/ 512).
  26. المصدر السابق (28/ 209).
  27. المصدر السابق (28 /15).
  28. المصدر السابق (28/ 208).
  29. جامع بيان العلم وفضله (2/ 903)، رقم: (1691)
  30. سير أعلام النبلاء (11/ 371).
  31. مجموع الفتاوى (7/ 218).
  32. المصدر السابق (35/ 100).
  33. المصدر السابق (3/ 415-416).
  34. المصدر السابق (28/ 212-213).
  35. المصدر السابق (28/ 213).
  36. المصدر السابق (12/ 488).
  37. المصدر السابق (12/ 489).
  38. المصدر السابق (28/ 51).
  39. إحياء علوم الدين (1/ 44).
  40. مجموع الفتاوى (22/ 253).
  41. منهاج السنة النبوية (2/ 342).
  42. أخرجه أحمد: (27093).
  43. إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 82).
  44. الاعتصام للشاطبي (1/ 37- 38).
  45. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، بَابُ بَيَانِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [البقرة: 284] (1/ 116)، رقم: (126).
  46. مجموع الفتاوى (19/ 191-192).
  47. تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:55).
  48. تفسير الطبري = جامع البيان (19/ 141).
  49. الاعتقاد للبيهقي (ص:267)، وسيرة ابن هشام (1/ 261).
  50. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، جماع أبواب السير، باب فتح مكة حرسها الله تعالى (9/ 199)، رقم: (18274).
  51. وجاء عند مسلم بلفظ: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن انظر صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب فتح مكة (3/ 1407)، رقم: (1780).
  52. إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 36).
  53. ذكر نحو هذه العبارة ابن الجوزي في بحر الدموع (ص:126).
  54. سير أعلام النبلاء (4/ 259).
  55. المصدر السابق.
  56. المصدر السابق.
  57. الطبقات الكبرى (6/ 222)، وسير أعلام النبلاء (4/ 259).
  58. مكمل إكمال الإكمال للسنوسي (1/ 288).
  59. مكمل إكمال الإكمال للإمام أبي عبد الله محمد بن يوسف (1/ 288)، وشرح صحيح البخاري، للسنوسي ص: (1/ 233).
  60. المصدران السابقان.
  61. أخبار الشيوخ وأخلاقهم، للمروذي  (ص:185).
  62. مكمل إكمال الإكمال للسنوسي (1/ 288)، وشرح صحيح البخاري، للسنوسي ص: (1/ 234).
  63. الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (1/ 88).
  64. أخرجه الترمذي، أبواب العلم عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع (4/ 331)، رقم: (2658)، وابن ماجه، باب من بلغ علمًا (1/ 84)، رقم: (230).

مواد ذات صلة