الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
التحذير من تتبع رخص الفقهاء 3
تاريخ النشر: ٠٩ / ربيع الآخر / ١٤٢٩
التحميل: 4914
مرات الإستماع: 8262

التحذير من تتبع الرخص 3


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
لا زال حديثنا معكم عن موضوع تتبع الرخص، وبقي في الحديث عنه قضيتان:
القضية الأولى: وهي ذكر بعض ما جاء عن العلماء في ذم هذا المسلك.
والقضية الثانية: وهي في بيان الواجب على المكلف إذا اختلف العلماء، أو اختلفت أقوال العلماء أمامه، ما الذي يجب عليه أن يفعله؟
أما ما يتعلق بالقضية الأولى: فأذكر لكم بعضاً مما ورد في ذلك، وما أكثر ما ورد عنهم في ذم هذا المسلك فمن ذلك ما قاله الإمام سليمان التيمي -رحمه الله- المتوفى في سنة ثلاث وأربعين ومائة يقول: "لو أخذتَ برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله"، وعقب هذا القول الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله- بقوله: "هذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً"، أي أنه لا يجوز تتبع الرخص، وأن ذلك مظنة لاجتماع الشر في الإنسان، وقد مثلنا لذلك من قبل.
وهذا الأوزاعي المتوفى سنة سبع وخمسين ومائة -عليه رحمه الله- يقول: "من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام"

 

"من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام"

 

، ويقصد بنوادر العلماء أي بشذوذاتهم، ويقول أيضاً: "نتجنب من قول أهل العراق خمساً" يعني أن العلماء في العراق كانت لهم مسائل قد شذت أقوالهم فيها، كما أن علماء الحجاز في ذلك الزمان لهم مسائل قد شذت أقوالهم فيها وهكذا، فهو يقول: "نتجنب من قول أهل العراق -يعني علماء العراق، من علماء الكوفة- خمساً، ومن قول أهل الحجاز خمساً، يقول في بيان المسائل التي تجتنب من أهل العراق: "شرب المسكر" لأن أهل الكوفة في ذلك الوقت كان كثير من علمائهم يقولون: لا بأس بالنبيذ من غير عصير العنب باعتبار أن الخمر التي جاء تحريمها، ونزل ذلك في القرآن كانت مما يتخذ من عصير العنب، فكانوا يترخصون في ذلك النبيذ، فيقول: "لا نوافقهم على هذا القول"، قال: "والأكل عند الفجر في رمضان -يعني بعد طلوع الفجر- فقد جاءت جملة من الآثار عن السلف أو بعض السلف، حيث إن بعضهم كان يترخص في الأكل حتى الإسفار، فهذا مشكل، فلا ينبغي أن يتابع القائل بذلك على هذا القول، قال: "ولا جمعة إلا في سبعة أمصار، يعني هذا قولهم فهم لا يتابعون عليه، قال: "وتأخير العصر حتى يكون ظل كل شيء أربعة أمثاله" ولا شك أن العصر تصلى في أول الوقت قبل اصفرار الشمس، قال: "والفرار يوم الزحف فهو من الكبائر" فهم لا يتابعون في هذه الخمس، قال: "ومن قول أهل الحجاز: استماع الملاهي، فقد نقل هذا عن بعض علماء المدينة في زمان التابعين، قال: والجمع بين الصلاتين من غير عذر بناءً على حديث ابن عباس -ا- أن النبي ﷺ جمع بين الصلاتين من غير مرض..، قال: "والمتعة بالنساء" يعني أن يتزوج أمرآة بعقد مؤقت، أن يعقد بينه وبينها عقداً على يوم أو على ساعة أو نحو ذلك بمقابل شيء من العطاء، بمهر يسميه، بثوب أو بدينار أو نحو ذلك، فهو ينكحها بهذه الطريقة، ثم بعد ذلك ينقضي هذا العقد بانقضاء المدة من غير طلاق، فهذا لا يجوز، وكان ذلك مرخصاً فيه في أول الأمر، ثم بعد ذلك نسخ، ولا زال بعض العلماء بعد نسخه يقولون: إنه لم ينسخ، لم يعلموا بالناسخ، فمن تابع هؤلاء على هذا القول وقع في الزنا، قال: "والدرهم بالدرهمين، والدينار بالدينارين يداً بيد" نحن تكلمنا في بعض الليالي الماضية عن الربا وقلنا: إنه لابد في الأموال الربوية كالذهب والفضة وغيرها لا بد فيها من التقابض، ولا بد إذا اتحد فيها الجنس من التساوي، فكان بعض علماء الحجاز يرخص إذا كان ذلك على سبيل التقابض، يرخص بالدرهم في مقابل الدرهمين والدينار في مقابل الدينارين، وذكر خامسة لا أريد أن أذكرها، كان بعضهم يترخص بها، وقال الإمام أحمد -رحمه الله- المتوفى سنة إحدى وأربعين بعد المائتين: "لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ -يعني المسكر- وأهل المدينة في السماع -يعني سماع المعازف- وأهل مكة في المتعة -التي وصفنا لكم- كان فاسقاً" ويقول الإمام إسماعيل القاضي المالكي المتوفى سنة اثنتين وثمانين بعد المائتين: "دخلت على المعتضد -يعني الخليفة- في أيام خلافته فرفع إلى كتاباً لأنظر فيه، وقد جمع فيه المؤلف الرخص من زلل العلماء -يعني هذا كتاب قد جمعت فيه الرخص والأقوال الشاذة المرخِصة من أقوال أهل العلم وأعطي لهذا الخليفة-، يقول: "وما احتج به كل منهم، فقلت: مصنف هذا زنديق" هذا رجل أراد أن يتقرب إلى الخليفة بجمع هذه الرخص له، فقال الإمام إسماعيل: "مصنف هذا زنديق"، ثم قال: "لم تصح هذه الأحاديث على ما رويت؛ ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة -يعني يقول: هذا الذي جمع لك هذه الأشياء هي بمجموعها لا يقول بها عالم، وإنما بعض العلماء شذ في مسألة، والآخر شذ في مسألة، والثالث شذ في مسألة، والرابع شذ في مسألة، ولا أحد منهم أبداً يرخص في هذه الأشياء مجتمعة، وقد جمعت إليك في كتاب، يقول: "ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء، ثم أخذ بها ذهب دينه

 

أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء، ثم أخذ بها ذهب دينه

 

"، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب.
ويقول الحافظ بن حزم -رحمه الله- المتوفى سنة ستة وخمسين بعد الأربعمائة في بيان طبقت المختلفين: "وطبقة أخرى وهم قوم بلغت بهم رقة الدين وقلة التقوى إلى طلب ما وافق أهوائهم في قول كل قائل، فهم يأخذون ما كان رخصة من قول كل عالم مقلدين له غير طالبين ما أوجبه النص عن الله تعالى وعن رسوله ﷺ"، وقد حكي ابن حزم -رحمه الله- الإجماع على أن تتبع رخص المذاهب بغير مستند شرعي فسق لا يحل.
ويقول أبو الوليد الباجي المالكي المتوفى سنة أربع وتسعين بعد الأربعمائة مبنياً ما وقع في زمانه من عموم هذه البلوى، ومن فشوها وانتشارها حيث إن العامة صاروا يسألون العلماء عن المسألة فإذا أفتوهم قالوا: ألا يوجد قول آخر؟ أليس في المسألة رخصة؟ فاجترأ هؤلاء العامة على العلماء بسبب أن بعض العلماء فتح لهم هذا الباب، يقول: "وكثيراً ما يسألني من تقع له مسألة من الأيمان ونحوها -رجل يحلف-: لعل فيها رواية أو لعل فيها رخصة" يعني لعل فيها قولاً آخر عن الإمام أو رواية عنه، أو لعل فيها رخصة، يقول: "وهم يرون أن هذا من الأمور الشائعة الجائزة، ولو كان تكرر عليهم إنكار العلماء لمثل هذا لما طالبوا به"، يقول: لو أن الفقهاء ينكرون عليهم مثل هذه المطالبات لما اجترءوا عليها، ولا طلبوه مني و لا من سواي، وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتد به في الإجماع أنه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنه حق، رضي بذلك من رضيه، وسخطه من سخطه، وإنما المفتي مخبر عن الله تعالى في حكمه، فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حكم به وأوجبه؟!
والله تعالى يقول لنبيه -عليه الصلاة والسلام-: وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ 49 سورة المائدة فكيف يجوز لهذا المفتي أن يفتي بما يشتهي؟ أو يفتي زيداً بما لا يفتي به عمراً لصداقة تكون بينهما أو غير ذلك من الأغراض؟ وإنما يجب على المفتي أن يعلم أن الله أمره أن يحكم بما أنزل الله من الحق، فيجتهد في طلبه، ونهاه أن يخالفه وينحرف عنه، وكيف له بالخلاص؟".. إلى آخر ما ذكر -رحمه الله-.
فهذه بعض أقوال العلماء في التحذير من تتبع الرخص، بقيت القضية الأخيرة، وهي موقف المكلف إذا اختلفت أمامه الأقوال، وتباينت الآراء، ما الذي عليه أن يفعله؟ وأترك ذلك في ليلة قادمة.
وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداةً مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعافي مبتلانا، واجعل أخرتنا خير من دنيانا.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

مواد ذات صلة