الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فسيكون الكلام بإذن الله عن مقدمة أذكر فيها شيئاً من أهمية التفسير، ثم بعد ذلك سأتحدث عن طريقة مقترحة فيما يتصل بطريقة إعداد درس في التفسير، ثم بعد ذلك سيكون الحديث عن الكتب التي يُحتاج إليها لإعداد الدرس، وسواء كانت هذه الكتب من كتب التفسير أو من كتب أخرى معينة تبين لنا جوانب متعددة مما يتصل بالتفسير، وقد يدعونا هذا إلى الحديث عن نشأة علم التفسير، ونقتصر على بعض القضايا التي عامة من يكتبون في كتب التفسير يتواطئون على ذكرها، ينقل بعضهم من بعض، فينبه على بعض هذه القضايا من غير استطراد ولا إطالة، ثم بعد ذلك يكون الحديث عن كتب التفسير، ثم بعد ذلك عن الكتب التي تعين من أراد أن ينظر في التفسير، وهي ليست من كتب التفسير، وآخر ما نتحدث عنه هو عبارة عن مقارنة بين كتب التفسير، ونسأل الله العون والسداد والتوفيق، وأن يلهمنا رشدنا ويقينا شر أنفسنا.
أولاً: ما يتصل بمنزلة التفسير وشرفه وهو ذلك العلم الذي فرط فيه كثير من الناس، وقد صار انصراف الهمم لدى الكثيرين، وإنما هو الاشتغال بعلوم لربما تكون من علوم الآلة، أو لربما تكون من علوم الغاية ولكنها لا تبلغ مرتبة التفسير، والكثير صار شغلهم في تتبع متون وكتب ألفها مؤلفون، يفكك كل لفظة ويحللها ولا يتجاوز عبارة من عبارات المؤلف إلا حاول أن يفهمها، فإن لم يفهم ذلك من خلال الشرح فإنه يعود إلى الحواشي، وإلى الشروح، ويسأل من أجل أن يعرف مراد المؤلف من هذه اللفظة، وفي كثير من الأحيان لربما تُحمَّل عبارات المؤلفين ما لا تحتمل، فيقول مثلاً: قدم كذا على كذا من أجل مراعاة كذا، و لربما لم يخطر ذلك له على بال أصلاً، كما نقل عن أحد الأدباء أنه كان يشرح قصيدة لأحد الشعراء، وحضر ابنُ ذلك الشاعر شرحَ ذلك الأديب، فسمعه يقول: قدم هذه اللفظة على هذه اللفظة وقصد بذلك كذا، وقدم كذا وأراد به كذا، فبُهر الابن من سعة نظر أبيه ومن دقته في التعبير، وكيف راعى هذه القضايا حينما ألقي هذه القصيدة، فرجع إلى البيت وهو ممتلئ إعجاباً بأبيه وبقصيدته، فسأله عن هذه الأشياء التي ذكرها هذا الأديب، فقال ذلك الشاعر: والله يا بني ما خطر لي ذلك على بال، وتجد هذا كثيراً في شروح بعض المتون و لربما بشيء من التكلف، ولا شك أن دراسة العلوم النافعة أمر مطلوب، وكذلك دراسة المتون في سائر الفنون أمر حسن، يحمد عليه الإنسان، وبه ينال العلم، وإنما الحديث عندما يكون التركيز والاهتمام والاشتغال بدراسة أصول الفقه، أو مصطلح الحديث، أو النحو، أو دراسة البلاغة، أو دراسة القواعد الفقهية، أو دراسة الفقه، أو نحو ذلك مع الإعراض الكامل عن دراسة كتاب الله -، فهذا أمر لا شك فيه من الغبن العظيم، والله -تبارك وتعالى- قال عن بني إسرائيل وهي أمة دون هذه الأمة شرفاً ومنزلة: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ [سورة البقرة:78]، وقد قال بعض المفسرين: إن المراد بقوله -تبارك وتعالى: لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ أي: لا يعلمون إلا قراءة مجردة من المعاني، فهم لا يعرفون التفسير، وإنما يقرءون كتابهم دون فهم لمعانيه، فعابهم الله -تبارك وتعالى- على ذلك، وإذا كان هؤلاء قد لحقهم الذم والعيب على تفريطهم في كتابهم وعدم علمهم به، فإن العيب والذم الذي يلحق هذه الأمة حينما تفرط بأعظم كتاب يكون أكثر، وقد قيل: "على قدر المقام يكون الملام"، ولهذا قال الله -تبارك وتعالى- عن هذا القرآن: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ [سورة فصلت:41] ومن عزته ألا تدخل معانيه في القلوب الفارغة المعرضة المشتغلة عنه بغيره زهداً فيه، وإعراضاً عنه فقد قيل: "إنما يفهم بعضَ معانيه ويطلع على أسراره ومبانيه من قوي نظره واتسع مجاله في الفكر، وتدبره، وامتد باعه، ورقت طباعه، وامتد في فنون الأدب، وأحاط بلغة العرب"، وللحراري -رحمه الله- كلام طويل منه قوله: "وأكمل العلماء من وهبه الله تعالى فهماً في كتابه، ووعياً عن كتابه، وتبصرةً في الفرقان، وإحاطة بما شاء من علوم القرآن"، وقول الشافعي -رحمه الله: "جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة، وجميع السنة شرح للقرآن، وجميع القرآن شرح لأسماء الله الحسنى، وصفاته العليا إلى أن قال: وكما أنه أفضل من كل كلام سواه، فعلومه أفضل من كل علم عداه، قال الله تعالى: أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى [سورة الرعد:19]، ويقول: يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [سورة البقرة:269]، يقول مجاهد في تفسير الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيراً كثيراً قال: الفهم والإصابة في القرآن، ويقول مقاتل: يعني علم القرآن هذه الحكمة، ويقول سفيان بن عيينة في قوله تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [سورة الأعراف:146] قال: أحْرِمهم فهم القرآن، ويقول سفيان الثوري -رحمه الله: لا يجتمع فهم القرآن والاشتغال بالحطام في قلب مؤمن أبدأ، ولهذا قالوا في قول النبي ﷺ: إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة[1]، قالوا: كذلك القلوب إذا كانت تحمل أخلاق الكلاب فإن الملائكة لا تدخلها بالمعاني الطيبة، فلا تنفتح مغاليق القرآن على تلك القلوب البطالة، يقول عبد العزيز الكتاني -رحمه الله: "مثل علم القرآن مثل الأسد لا يمكّن من غيله سواه"، والغيل هو الشجر الملتف الذي يكمن فيه الأسد فلا يستطيع أحد أن يقترب منه أو يتوصل إليه، ويقول آخر: "أبى الله إلا أن يحرم قلوب البطالين مكنون حكمة القرآن"، وجاء عن ابن مسعود في قوله تعالى: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] قال: القرآن، يقول: أرشدنا إلى علمه، ويقول الحسن البصري: "علم القرآن ذِكْر، لا يعلمه إلا الذكور من الرجال"، وكل علم من العلوم منتزع من القرآن، وإلا فليس له برهان، كما قال ابن مسعود : "من أراد العلم فليُثَوِّر القرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين"، ونحن نشاهد ونعلم من حال الصحابة أنه كان فيهم علماء، وكل واحد يختص بعلم من العلوم، فعليٌّ عُرف بالقضاء، وزيد بالفرائض، ومعاذ بالحلال والحرام، وأُبيٌّ بالقراءة، ولم يُسَم أحد منهم بالبحر إلا عبد الله بن عباس -ا؛ لاختصاصه بالتفسير وعلم التأويل، وقد أحسن الناظم في قوله في بيان شرف العلوم المتعلقة بالقرآن:
إن العلوم وإن جلّت محاسنها | فتاجها ما به الإيمان قد وجبا |
هو الكتاب العزيز الله يحفظه | وبعد ذلك علم فرّج الكربا |
فذاك فاعلم حديث المصطفى فبه | نور النبوة سنّ الشرع والأدبا |
وبعد هذا علوم لا انتهاء لها | فاختر لنفسك يا من آثر الطلبا |
والعلم كنز تجده في معادنه | يا أيها الطالب ابحث وانظر الكتبا |
واتلُ بفهم كتاب الله فيه أتت | كل العلوم تدبره ترَ العجبا |
وأقرأ هُديت حديثَ المصطفى وسلن | مولاك ما تشتهي يقضِ لك الأربا |
من ذاق طعماً لعلم الدين سُرّ به | وإذا تزيد منه مال واطربا[2] |
وهذا إنما يكون بالممارسة، فالعلم شاق في أوله يصعب على الإنسان الجلوس من أجل حضور مجالس العلم، بحيث يجد فيه مشقة كبيرة جداً، ولكنه إذا اعتاده فإنه يجد له لذة لا تعادلها لذة، ويفتح الله بسبب ذلك من الفهوم والمعارف والعلوم مالا يقادر قدره، ويحصل له من الأنس والراحة وانشراح الصدر وارتفاع الغم والهم الشيء الكثير، ويجد الإنسان ذلك بالصبر على طلب العلم، وقد قال بعض أهل العلم في تفسير قوله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ [سورة يونس:58] قال: الإسلام والقرآن، يقول الشيخالأمينالشنقيطي -رحمه الله- صاحب أضواء البيان: "ما من قلب يعيش مع القرآن إلا وجد حلاوة الإيمان شاء أم أبى، ولكن ذلك حينما يعرف معانيه"، وكان يقول كبير المفسرين الإمام ابن جرير -رحمه الله: "إني لأعجب ممن يقرأ القرآن وهو لا يعرف معانيه كيف يلتذ بقراءته؟"، فهذه فضائل ومنن يفتحها الله على من شاء من عباده، يقولقتادة -رحمه الله: "ما جالس القرآنَ أحدٌ فقام عنه إلا بزيادة أو نقصان"، وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا [سورة الإسراء:82]، يقول الذهبي -رحمه الله: "مكث شيخنا ابن تيمية أزيد من سنة يفسر سورة نوح، فكان بحراً لا تكدره الدلاء"، ويقول الشنقيطي -رحمه الله: "لا يثبت القرآن في الصدر ولا يسهل حفظه وييسر فهمه إلا القيام به في جوف الليل"، ويقول أحمد بن أبي الحواري-رحمه الله: "إني لأقرأ القرآن وأنظر في آية فيتحير عقلي بها، وأعجب من حفاظ القرآن كيف يهنيهم النوم، ويسعهم أن يشتغلوا بشيء من الدنيا وهم يتلون كتاب الله؟!، أما إنهم لو فهموا ما يتلون، وعرفوا حقه وتلذذوا به، واستحلوا المناجاة لذهب عنهم النوم فرحاً بما قد رزقوا"، ويقول الحافظ ابن الجوزي-رحمه الله: "ينبغي لتالي القرآن أن ينظر كيف لطف الله تعالى بخلقه في إيصال معاني كلامه إلى أفهامهم، وأن يعلم أن ما يقرأه ليس من كلام البشر، وأن يستحضر عظمة المتكلم سبحانه ويتدبر كلامه"، وقيل ليوسف بن أسباط-رحمه الله: "بأي شيء تدعو إذا ختمت القرآن؟ قال: أستغفر الله من تلاوتي؛ لأني إذا ختمته وتذكرت ما فيه من الأعمال خشيت المقت، فأعدل إلى الاستغفار والتسبيح، وقرأ رجل القرآن على بعض العلماء قال: فلما ختمته أردت الرجوع من أوله، فقال لي: اتخذت القراءة عليّ عملاً، اذهب فأقرأه على الله تعالى في ليلك وانظر ماذا يُفهمك منه، واعمل به"، وهكذا كان الصحابة ، فقد جاء عن مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قال: "إن عمر تعلم البقرة في اثنتي عشرة سنة، فلما ختمها نحر جزوراً"، وكان يستطيع أن يحفظ البقرة في أقل من عشرة أيام، ولكن كان يتعلم ما فيها من المعاني، كما جاء عن أبي عبد الرحمن السلمي حينما ذكر عن الذين أخذ عنهم القرآن من الصحابة أنهم كانوا ما يتجاوزون الخمس الآيات حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا العلم والعمل جميعاً، وكان خلف بن هشام يقول: "ما أظن القرآن إلا عارية في أيدينا، وذكر أن عمر ابن الخطاب حفظ البقرة في بضع عشرة سنة، فلما حفظها نحر جزوراً شكراً لله ، وإن الغلام في دهرنا هذا يجلس بين يدي، فيقرأ ثلث القرآن لا يُسقط منه حرفاً"، وكلام السلف في هذا كثير، ويمكن لطالب العلم أن يراجعه في مظانه.
هذه جملة مختصرة تنبه على غيرها فيما يتصل بأهمية التفسير، ولزوم الاشتغال به، وأن يفيق الإنسان من الغفلة، والإعراض عن كتاب الله لأن الهجر للقرآن لا يقتصر على هجر تلاوته بل يكون بهجر تدبره، والتدبر لا يمكن إلا بفهم معانيه، وكذلك بهجر العمل به، والعمل به لا يتأتى إلا بفهمه، ولذلك أقول: ينبغي للإنسان أن يعيد النظر في عمله، وعلمه، ودراسته، واشتغاله، ولينظر في الأمور التي قد شغل زمانه فيها مالا تعدل بالنسبة للاشتغال بكتاب الله ، فإن من أعظم الغبن أن ينقضي عمر الإنسان وبين يديه أعظم كتاب وهو لا يعرف معانيه، ولم يقرأ تفسيراً واحداً ولو مختصراً، ولذلك نجد الأمية في فهم معاني القرآن مستشرية مستفحلة لدى طلاب العلم وغيرهم، تجد الكثيرين لو سُئلوا عن بعض الألفاظ الغريبة في السور القصيرة فإنهم لا يعرفون معانيها، بل لربما يفهم الكثيرون معاني تلك الألفاظ أو تلك الآيات على خلاف مراد الله ، والله المستعان.
كيف تعد درساً في التفسير؟
كثير من الناس إذا أراد أن يعد درساً فإنه ربما يعمد إلى هذا الكتاب أو ذاك من كتب التفسير ثم يقمش منها، ثم يأتي بعد ذلك ويطرح هذه الأشياء بعيداً عن تمحيصها، وبعيداً عن التعامل مع هذه المنقولات والنصوص والمرويات وما أشبه ذلك؛ من أجل أن يتكلم الإنسان بطريقة علمية صحيحة تقوم على أصول وضوابط وقواعد التفسير، ودرس التفسير حينما يريد الإنسان أن يُعد له فإن ذلك يرتكز على أمرين:
الأمر الأول: المادة العلمية المنقولة، وهذه المادة العلمية المنقولة تُستجلب وتستصلح من نوعين من المصنفات، وإن شئت أن تزيد ثالثاً فلا بأس.
النوع الأول: هو كتب التفسير، وهي كثيرة جداً والذي لم يطبع منها أكثر من المطبوع، وهذه الكتب لها طرق، ومناهج تسير عليها، وكل كتاب منها له جوانب يركز عليها، فهذه كتب تُعنى بالجوانب الأعرابية
والنحو، وهذه تعنى بالجوانب البلاغية، وهذه تعنى بالجوانب الفقهية والأحكام إلى غير ذلك، فلابد أن الإنسان يعرف هذه الأشياء، ويعرف أن هذه الكتب منها ما يغني بعضه عن بعض، فبعض هذه الكتب تنقل عن بعض، بل إن بعض هذه الكتب لربما تكون نسخة شديدة الشبه بكتاب آخر نُقلت منه مع بعض التغيرات اليسيرة والإضافات المحدودة، فقد يقتني الإنسان كثيراً من الكتب وليس من المتخصصين في التفسير، وكان بإمكانه أن يستغني ببعض هذه الكتب عن غيرها، هناك كتب لربما تكون هي كتب تفسير لكنها لا تحرر الأقوال، وهي كتب نقل مؤلفها هذا التفسير من جملة من المصنفات كان بالإمكان الرجوع إلى أصول هذا الكتاب والاستغناء عنه؛ لأنه خلا من التحقيق والتعامل مع هذه النقولات بطريقة علمية صحيحة، فهو عبارة عن نقولات مجمعة، وهذه الكتب تتفاوت تفاوتاً كبيراً وسأبين طرفاً من حال هذه الكتب بإذن الله وأُعرّف بطائفة منها.
النوع الثاني: مصادر تُجمع منها المادة العلمية في درس التفسير وهي كتب ليست من كتب التفسير، وإنما تعين على فهم التفسير ومعرفته، ولكنها تناقش جوانب معينة، على سبيل المثال -كما سيتضح بإذن الله في حينه- هذه الكتب منها ما يُعنى بجانب الناسخ والمنسوخ، وهي كتب متفاوتة وكثيرة جداً، هناك كتب تُعنى بالأمثال الواردة في القرآن، وهناك كتب تعنى بما هو أوسع من ذلك وهو التشبيهات التي في القرآن، تناقشها وتفصلها وتبين أنواعها، وهناك كتب تعنى بالأقسام، القسم بالقرآن، وهناك مؤلفات أخرى تعنى بالتشابه اللفظي، والمقصود بالمتشابه اللفظي أنك تجد تشابها في بعض الآيات كقول الله مثلاً في سورة الأنفال: وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة الأنفال:10]، وفي سورة آل عمران: وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ [سورة آل عمران:126] بزيادة لكم، وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ في الأنفال، وفي آل عمران:إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وهكذا في قوله في سورة الإسراء: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ [سورة الأنعام:151]، وفي الإسراء: نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم، وفي الأنعام: نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ، وفي سورة الكهف لما أراد الخضر أن يخبر موسى ﷺ بحقيقة ما جرى منه قال: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا [سورة الكهف:78]، ولما أخبره قال: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا [سورة الكهف:82] نقص حرفٌ، وفي سورة الكهف أيضاً: فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [سورة الكهف:97] زاد حرفٌ، فالنقب أشد، وزيادة المبنى لزيادة المعنى، وهذا يسمونه بالمتشابه اللفظي، وبعض الكتب تتحدث عن علوم المعاني مثل حروف الجر، كتب متخصصة بهذا الجانب، وهكذا يوجد مؤلفات تُعنى بالآيات المشكلة التي يشكل معناها، بل إن بعض أهل العلم يؤلف رسالة كاملة في مثل قوله تعالى: إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ [سورة طه:63] لماذا لم يقل: إن هذين؟ وإنما قال: إِنْ هَذَانِ رسائل مستقلة في بيان وجه ذلك، وهكذا في جوانب كثيرة، وهذا من غير كتب التفسير.
والنوع الثالث: من مصادر المعلومات في التفسير هي تلك المعلومات التي تستجلب من الجرد والقراءات في السنين المتطاولة، فطالب العلم حين يقرأ في السير، والتراجم، وكتب اللغة، وأحياناً كتب الفقه، وأحياناً في بعض شروح الحديث غير كتب التفسير، يعني في مواضع ليست في مظان التفسير، فقد تجد في ترجمة عالم مثلاً أنهم يقولون في ترجمته كانت له استنباطات لطيفة، ويأتون بدرر، فهذه الاستنباطات التي تمر في ترجمته أحياناً تمر في تعليق على آية في كتاب، وأحياناً في كتاب تربوي، وأحياناً في كتاب من كتب اللغة، وأحياناً في كتب البلاغة، وأحياناً تمر هذه الفائدة واللطيفة في كتاب من كتب شروح الحديث إلى غير ذلك، فهذه تقيدها على الأقل بالإحالة، سورة الفاتحة آية رقم (1) انظر كتاب الإتقان للسيوطي الجزء الأول صفحة كذا وكذا، وانظر كتاب البرهان للزركشي، وانظر المدخل للحدادي، وانظر كتاب الأمثال، وللإمام ابن القيم -رحمه الله- نفائس في الكلام على بعض الآيات، فجُمعت وخَرجت كتاباً حافلاً بالفوائد والدرر، وتفسير شيخ الإسلام جرت عدة محاولات لجمعه، والآن سيطبع كتاب قد انتُهي من تنضيده ومراجعته في تفسير شيخ الإسلام لا يقل عن ثمانية مجلدات، حاول من جمعه أن يستقرا كلام شيخ الإسلام فيما تناثر من مؤلفاته وكتبه -رحمه الله، فالشاهد حينما يقرأ الإنسان في كتب شيخ الإسلام أو يقرأ في كلام ابن رجب، أو يقرأ أحياناً في بعض اللطائف لابن حجر، الحافظ ابن حجر كان له درس في التفسير حافل يحضره العلماء، وكان من شرطه في هذا الدرس ألا ينقل شيئاً من كتب التفسير، بمعنى أنه كان يستنبط، يقول: الذي في كتب التفسير أيُّ واحد يستطيع أن يرجع إليه، فكانت استنباطات واستنتاجات، فهذه ثلاثة مصادر يمكن أن تجمع فيها المعلومات، فإذا جمعت المعلومات بهذه الطريقة –بالاستقراء- وأنت تقرأ تقيد هذه الفوائد والدرر والنفائس، ثم جئت تطرح درساً في التفسير تجد هذا الدرس مرصعاً بالجواهر والدرر واللآلئ التي لا تجدها في كتب التفسير، هذا فيما يتعلق بالمصادر، أما ما يتعلق بالناحية العلمية التي يحتاج إليها من يريد أن يعد درساً في التفسير فيحتاج إلى آلة يتعامل فيها مع هذه المعلومات، هذه المعلومات كثيرة جداً في كتب التفسير وفي غيرها يجد مرويات متعددة، ففي سبب النزول روايات أحياناً صحيحة لربما يجد في سبب النزول خمس روايات صحيحة ثابتة ومتنوعة في سبب نزول الآية، في مثل قوله تعالى مثلاً: فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [سورة البقرة:115]، صح في أسباب النزول أن ذلك حينما التبس عليهم القبلة، وصلوا في ليلة مظلمة لم يعرفوا فيها القبلة، فحينما أصبحوا سألوا النبي ﷺ فنزلت الآية، إذاً هي في الذي يخطئ في تحديد القبلة، وكذلك صح في أسباب النزول أنها رد على اليهود حينما قالوا: مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا [سورة البقرة:142]، فالله رد عليهم بهذا: فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ، وصح في أسباب النزول أشياء أخرى، فكيف نتعامل مع هذه الروايات؟ هل نأخذ برواية ونترك الباقي؟ أو نقول جاء في رواية كذا، وجاء في رواية كذا، ونورد الروايات كلها؟ لكن المستمع يريد أن يعرف ما هو السبب الحقيقي للنزول، فإذا كان عند الإنسان آلة، بحيث يكون عنده قدرة على التعامل مع هذه المنقولات من الروايات وغيرها، ويستطيع أن يجمع بينها أحياناً، ويستطيع أن يرجح في المقامات التي تحتاج إلى ترجيح فيخلص هذه القضايا، ويَنتجُ عن نظره هذا في التفسير خلاصةٌ وأقوالٌ محررة، ومعانٍ واضحة، ويفهم عبارات السلف، والسلف أحياناً يعبرون بجزء المعنى، وأحياناً يفسرون بالمثال لتقريب المعنى، وأحياناً قد يفسرون بتفسيرات قد لا يقصدون بها الحصر وإنما هذا بعض ما يدخل في معنى الآية، فيحتاج أن يعرف طريقتهم، ويتعامل معها ولا
يتسرع في رد أقوالهم وتخطئتها، ثم هو يستطيع أن يحكم على أقوال المفسرين متى تكون هذه الأقوال صحيحة، ومتى تكون غير صحيحة، فعلى قدر تمرسه، وعلى قدر قدرته وعلى قدر ما يكون عنده من القدرة على تحقيق التفسير والفهم والاستنباط، والإضافة، والترجيح، فيتعامل بمهارة، هذه الآلة، لكن كيف يحصل للإنسان وجود هذه الملكة؟، تأتي هذه الملكة من دراسة اللغة العربية بعلومها المختلفة، وأصول الفقه، وأصول التفسير، علوم الآلة مع الممارسة، فإذا درس ذلك مع التطبيق فإنه تحصل له ملكة وذوق في التفسير، فيأتي تفسيره في غاية الجودة والتحرير، والواقع أن الكثير مما يطرح في كتب التفسير أحياناً في بعض الجامعات والكليات وما أشبه ذلك تجمع الأقوال من بعض الكتب، ثم يقول: قال فلان، وقال فلان، يجمع الأقوال، ويخرج المتعلمون كما دخلوا، حتى لو حفظوا هذه الأشياء فإن مصيرها إلى النسيان، ولو بعد حين، لكن حينما يتعامل مع التفسير بهذه الطريقة، وتتربى عند المتعلم ملكة في درس التفسير فإنه يتذوق هذا الفن، ولا يشبع منه بحال من الأحوال، لكن للأسف درس التفسير في غالب الأحيان لا يعرض بالطريقة الصحيحة، وعرض الأقوال كيفما اتفق لا يعتبر هذا درس تفسير إطلاقاً، والتفسير له شأن آخر، والشيخ الأمين محمد الشنقيطي -رحمه الله- كان يُقرأ عليه قبل الدرس الذي كان يلقيه في المسجد النبوي من بعض الكتب، ولكنه حينما يتكلم فهو بحر يتفجر لا ساحل له، وقد عاينت هذا سنوات وتتبعت تفسيره، وأقارنه بالمصادر والكتب التي كانت تقرأ عليه قبل الدرس، ولا مقارنة بين ما يذكره بالتفسير وبين هذه المصادر والكتب، فحينما كان يمر على قضية من القضايا أو لفظة من الألفاظ ككلمة "الظلم" مثلاً يأتي بجميع معانيها، وشواهد من الشعر، وحينما يأتي إلى حرف من الحروف -حروف المعاني- يذكر معانيه، ويذكر لكل معنى شاهداً من الشواهد الشعرية، وحينما يمر على قضايا تاريخية أو قضايا تتعلق بالسيرة أو بالأنبياء السابقين -عليهم الصلاة والسلام- يذكر أشياء عجيبة، يتعب الناظر وهو يتتبع في كتب التواريخ حتى يوثق ذلك، بل وجدت أشياء كثيرة من الشواهد التي يذكرها غير موجودة في الكتب ولا في الموسوعات التي ظهرت فيما بعد ذلك في الأقراص التي تذكر الشواهد الشعرية مع طول التتبع حتى سافرت في هذا إلى موريتانيا؛ من أجل سؤال العلماء، وهناك لم أجد ما يشفي، يعني غاية ما وجدت أن بعض أهل العلم يقول: هذا مما ذكره بعضهم، يعني هو يذكر مثلاً أبياتاً لبعض الشعراء المعروفين، ثم يذكر بعده بيتاً أو بيتين ليسا من القصيدة، وإنما ذلك أخذه عن شيوخه أو بالمشافهة، فالرجل حينما كان يتكلم كأن العلوم بين عينيه يأخذ منها ما شاء ويدع ما يشاء، ولما تكلم عن قول الله: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [سورة الأعراف:12]، رد على إبليس في قياسه الفاسد من وجوه متعددة، ثم بعد ذلك بدأ يتكلم على القياس وأنواع القياس، ورد على نفاة القياس من الظاهرية كابن حزم وداود، رداً مفصلاً طويلاً، حتى إن تلميذه الشيخ عطية -رحمه الله- كتب هذا ثم عرضه عليه فلما نظر فيه وقرأه قال: "لولا أني أسمعه بصوتي لم أصدق أني قلت هذا"، فتح الله عليه في أثناء الدرس فكان يجلس -رحمه الله- ويتكلم على الآيات ثم بعد ذلك يسهب ويتوسع ويبحر، وكان يعتذر أن هذه الدروس لربما قد ذهبت بعيداً، لم تُفهم، ويعتذر بأن هذه الدروس يذكر فيها هذه الأشياء لينتفع الجميع؛ لأنه كان من الحضور الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله، والشيخ حماد الأنصاري، وأمثال هؤلاء من العلماء كانوا يحضرون درسه في التفسير، ويحضره كثير من العامة، وأقل ما يأتي العاميَّ من هذا الدرس أنه يعرف عظمة القرآن ولو لم يفهم حرفاً واحداً، ومن غرته نفسه يوماً من دهره وظن أنه حصّل شيئاً من العلم فما عليه إلا أن يسمع لبضع دقائق من درس الشيخ -رحمه الله- المسجل، شيء من دروسه فقط، يسمع قليلاً حتى يعرف وين العلم، ومن النماذج المعاصرة الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- المعاني التي يذكرها في درسه الذي كان في الإذاعة، وفي تعليقاته حتى على الجلالين في دروسه في المسجد، وفي الباب المفتوح في البداية تقرأ عليه الآيات وبعد ذلك يعلق عليها هذه الأشياء التي يذكرها من الاستنباطات الدقيقة، واللطيفة أشياء عجيبة بغاية الفائدة، فهو إمام في العلم، وإمام في الفقه، أقول هذا من باب إحقاق الحق، وبيان الفضل لأهله، فجربت تتبع ومقارنة كتب كثيرة من كتب التفسير على التسلسل التاريخي وكان آخر ما أقرأ كتب المعاصرين، أقرأ كتاب الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله، وكنت إذا وصلت عند هذا الكتاب أقول في نفسي ماذا بقي له، وإنما كنت أقرأ من باب تحلة القسم من أجل أن أكمل العدد الذي أمامي، أكثر من خمسين كتاباً أقرأ منها بالتدريج يعني بعد التسلسل التاريخي فبعض الكتب طويلة جداً، وما كنت أحتاج أن أكتب منها حرفاً واحداً، فالفوائد واللطائف موجودة في كتب سابقة، وهي عبارة عن تكرار، فإذا جئت عند كتاب الشيخ -رحمه الله- أجد أشياء كثيرة جداً تحتاج أن تدون، والشيخ -رحمه الله- كان لا يتعب في التحضير، فوقت الشيخ كان مملوءًا، فالشيخ منذ زمن بعيد وعنده خمسة دروس في أقل تقدير، في الفترة الصباحية، وفي الأجازات الصيفية دائماً منذ زمن بعيد قبل أن يشتهر الشيخ ويعرف، وأحد هذه الدروس هو تفسير الجلالين كان يشبعه تعليقاً، ويستنبط من القرآن أشياء، وهذه الأشياء كانت تستوعب وقته، خمسة دروس في الصباح، وكان يُقرأ عليه بعد المغرب في الفقه، وبين الأذان والإقامة في علم آخر، هذه سبعة دروس بالإضافة إلى الأشياء الأخرى، لقاء بأعضاء الدولة لقاء بأعضاء الهيئة، ولقاء بطلاب العلم خارج عنيزة، وطلاب السكن، ولقاء آخر خاص بطلاب الشيخ أو الطلاب القدامى، ولقاء آخر لبعض مندوبي بعض الجمعيات، ولقاءات ومواعيد، ونور على الدرب، فلا يوجد وقت لدى الشيخ يُعد فيه ويحضر مع ذلك تجد هذه الاستنباطات والدقائق والفوائد واللطائف، أشياء عجيبة وكثيرة فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
وينبغي لمن أراد أن يعد درساً في التفسير أن يحدد في البداية الاتجاه المطلوب سلوكه في هذا الدرس، هل نريد درساً يُعنى بالأشياء المنقولة، والأشياء المنقولة تشمل تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالسنة، والتفسير بأقوال الصحابة، وبأقوال التابعين وهذا ما يسمى بالتفسير المأثور، ويضاف إلى التفسير بالمنقول التفسير باللغة؛ ولا نقول: إنه من قبيل التفسير بالمأثور لكنه تفسير بالمنقول فهل نريد هذا أو نريد أن يكون التفسير بالاجتهاد والنظر والاستنباط وما يسمى بالرأي؟، فحينما نريد أن نفسر مثلاً قوله -تبارك وتعالى: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الفاتحة:2] إذا أردنا أن نفسر بالمنقول فمعنى ذلك أننا نقول: قال ابن عباس، وقال قتادة، وقال مجاهد، وهكذا، وننقل قول أئمة اللغة، ولكن حينما نريد أن نفسر بالاجتهاد فإننا نفسر من غير عزو، فنقول مثلاً: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ "ال" هذه للاستغراق، و"الحمد" هو إضافة أوصاف الكمال، ودخول ال الاستغراقية على هذا اللفظ "الحمد" يدل على أن الله -تبارك وتعالى- مستحق لجميع أوصاف الكمال، ولا يكون مستحقاً لجميع أوصاف الكمال إلا من كان منزهاً عن كل نقص، ومتصفاً بكل كمال، وأيضاً فإن الذي يكون متصفاً بصفات الكمال جميعاً هو الذي ينبغي أن يكون المعبود وحده، و إن الناقص لا يصح أن يكون إلهاً، والفرق بين "الحمد والشكر" إلى آخر ما يذكر، و"لله" اللام هذه للاستحقاق؛ لأن هذا من باب إضافة معنى بذات الحمد مستحق لله، ولفظ الجلالة مشتق من الإلهية وهو أعظم الأسماء إلى آخر ما يذكر، وهذا يسمى بالتفسير بالرأي والاجتهاد والنظر، فلابد من تحديد الدرس وتحديد المستهدف، ولمن الخطاب، وإذا كنت تؤلف للعوام فهذا له طريقة حتى في التوثيق والصياغة وقوة العبارة، وإذا كنت تؤلف لطلبة العلم فهذا له طريقة من جهة الأسلوب، ومن جهة طريقة التوثيق فلابد أن يحدد الهدف والمستهدف من هذا التأليف أو من هذا الدرس، أما أن يأتي الإنسان ويجلس ولو جلس عنده أكبر العلماء أو جلس أجهل الناس فإنه لا فرق عنده بين هذا وهذا في المعلومات التي يقدمها فهذا غلط، وللأسف خطأ شائع، ومن أعظم أسباب الانقطاع عن العلم فلابد من التحديد من البداية، هل تريد أن تنمي عندهم الملكة؟ أو تريد أن تبين لهم فقط عظمة القرآن وجوانب تربوية؟، أو تريد أن تقدم هذا الدرس بطريقة محررة يستفيد منها المتعلم؟، وهذه أمور في غاية الأهمية، فتحديد الهدف قبل كل أمر له أهمية كبرى، ولابد من اتخاذ الأسلوب المناسب لكل من تخاطبه، ولابد من تحديد نوع التفسير الذي تريد أن تفسر به، فالتفسير على ثلاثة أنواع: النوع الأول: التفسير التحليلي والمقصود به أن يقف المفسر عند كل جملة، وكل لفظة، كما تقدم في الكلام على قوله: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فهذا يسمى بالتفسير التحليلي حتى لو كنا نذكر أقول العلماء، سواء من الصحابة أو من التابعين أو مَن بعدهم، و التفسير التحليلي على نوعين:
النوع الأول: التفسير المقارن، وهو عبارة عن ذكر أقوال المفسرين في الآية، ولا يكتفى بقول واحد، وهناك النوع الآخر من التفسير التحليلي وهو الذي يختار فيه القول الراجح لدى المفسر، ولا يذكر الأقوال كما تقدم في أول سورة الفاتحة، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- يذكر الأقوال فيسمى تفسيره تحليلياً مقارناً، وتفسير القرطبي تحليلي ومقارن يذكر الأقوال ويتوسع، وتفسير الشوكاني "فتح القدير" تحليلي، يذكر الأقوال، وكذلك تفسير ابن جرير الطبري يعتبر تفسيراً تحليلياً، ويذكر الأقوال القول الأول كذا، ويذكر من قال ذلك، ويأتي بسرد الروايات، ثم يقول: وقال آخرون ويأتي بالقول ثم يسرد الروايات، ويأتي بقول ثالث ورابع وهكذا، فهو تفسير تحليلي مقارن، وأكثر كتب التفسير هي من قبيل التفسير التحليلي المقارن، وهناك نوع آخر من كتب التفسير هو تفسير تحليلي لكنه غير مقارن، بمعنى أن المفسر ينتخب قولاً يرى أنه الأرجح، فيذكر هذا القول مثل تفسير الجلالين اقتصر على قول واحد، ومثل زبدة التفسير وهو اختصار لفتح القدير للشوكاني، ومما يشبه هذا أيضاً التفسير الذي صدر عن المجمع لطباعة المصحف، تفسير الميسر فهو يجمع بين كونه من قبيل التفسير التحليلي الذي يقتصر على قول واحد، وفيه أيضاً صبغة من التفسير الإجمالي.
النوع الثاني: التفسير الإجمالي والمقصود بالتفسير الإجمالي هو الذي لا يقف عند الألفاظ، وإنما يذكر المعنى العام للآيات، وأبرز الكتب وأشهرها بهذه الطريقة تفسير الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- يذكر المعنى العام ولا يقف عند كل لفظة، تجد مضامين كلامه تبين عن بعض الألفاظ الغريبة، لكنه لا يقف عندها بذاتها، وإنما يتكلم عن معنى الآية العام، فتفهم معنى هذه الكلمة وتلك من خلال التفسير المجمل، فهذا من التفسير الإجمالي، وابن جرير الطبري -رحمه الله- في تفسيره عادة بعد كل آية يذكر في نحو من أربعة أسطر أو أقل أو أكثر قليلاً المعنى العام للآية، وهذا من أنفع ما يكون للقارئ، وهو من مزايا تفسير ابن جرير -رحمه الله، والسبب في ذلك هو أن القارئ أو المستمع إذا كان الدرس بالإلقاء إذا كان يسمع الدرس وأنت تحلل له كل حرف، وكل لفظة تذكر ما فيها من المعاني، والشواهد الشعرية، والاستنباطات الدقيقة، واللام مثلاً في قوله: الْحَمْدُ للّهِ للاستحقاق، واللام ثلاثة أنواع للاختصاص، والملك، والاستحقاق، فهي للاستحقاق هنا؛ لأنه أضاف معنى إلى ذلك من شأنها، يعني الْحَمْدُ مستحق لله ، ويبدأ يتكلم عن هذه القضايا، فيضيع السامع في هذه التفاصيل والدقائق لاسيما إذا كانت من الاستنباطات التي تستخرج بالمناقيش، لطائف بلاغية عبّر بكذا ولم يعبر بكذا، لكذا، وقدم هذه اللفظة على هذه اللفظة لكذا، كما في قوله: فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا أيها أشد نقب السد الذي بني بالبناء الذي وصفه الله : آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا [سورة الكهف:96]، أوقدوا عليه النار، ثم قال: آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا أي نحاس، والنقب أشد فزاد حرف التاء في اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا، وهذا قد يستفيد السامع منها، لكن حينما نفسر بهذه الطريقة قد يضيع المعنى الأصلي الذي نزلت الآية لتقريره، ولهذا كان الشاطبي -رحمه الله- يشنع على هذه الطريقة ويلفظها ويقول: إن ذلك يضيع المعنى الذي نزلت الآية لتقريره، والتوسط لهذا الباب أن يقال بالاعتدال، يذكر المعنى العام كما يفعل ابن جرير -رحمه الله-؛ حتى لا يضيع المعنى، ويذكر من هذه الاستنباطات واللطائف القدر الذي لا يفضي إلى تكلف وتحميل كلام الله ما لا يحتمل؛ لأن بعض الناس يذكر أشياء لا يدل عليها ظاهر القرآن، وهي من التكلف، وقد يقع الإنسان بسبب ذلك في القول على الله -تبارك وتعالى- بلا علم، وهذا أمر شديد، فهذا هو التوصف، وإذا استطاع المفسر أن يجمع بين الإجمالي والتحليلي فهذا جيد.
النوع الثالث: التفسير الموضوعي، وهذا التفسير الموضوعي اشتهر في العصر الحديث، وطريقة هذا التفسير أنه يأخذ سورة، يأخذ موضوعاً، يجمع الآيات التي تتصل بموضوع معين، مثلاً: الصلاة في القرآن الكريم كل الآيات المتعلقة بالصلاة، تجمع ثم بعد ذلك ينظر في هذه الآيات المجتمعة ويضع العناصر بهذا الدرس، وهذه الآيات منها ما يتعلق بحكم الصلاة فيأتي بالآيات التي تدل على الوجوب، والآيات التي تتعلق بفضل الصلاة يأتي بها تحت عنوان فضل الصلاة، وهناك آيات تتعلق بالثناء على المصلين مثلاً، أو وعيد للذين لا يصلون، وهناك آيات تتعلق بثمرات الصلاة وفوائدها، فيضع عنواناً ويأتي بهذه الآيات.
لكن هناك جوانب تتعلق بالصلاة فيها أحاديث ولا يوجد فيها آيات، وطريقة هذا التفسير أنه يذكر من الأحاديث ما يتعلق بالآيات، كما يفسرها ويشرحها ويبين بعض متعلقاتها، لكن لا تفتح باباً مستقلاً في هذا البحث مثلاً في جوانب لم يرد فيها إلا أحاديث، ولهذا نقول: إن هذا التفسير الموضوعي فيه نقص، ومن التفسير الموضوعي ما يُدرس فيه موضوع في سورة معينة، فحينما تقول مثلاً: "المنافقون في سورة براءة"، أو حينما تقول مثلاً: "الأحكام المالية في سورة البقرة"، أو "اليهود في سورة البقرة"، أو"الأخلاق الاجتماعية في سورة الحجرات" هذا الموضوع من خلال سورة، وهناك نوع منه تدرس فيه لفظة واحدة كيف استعملت في القرآن مثلاً لفظة القنوت، ومعناها، وشيخ الإسلام ابن تيمية ألف فيها رسالة مستقلة، وتتبع مواردها في القرآن فهل القنوت معناه دوام الطاعة؟ أو معنى القنوت هو الخضوع والخشوع أو غير ذلك كطول القيام في الصلاة؟ -أفضل الصلاة طول القنوت- أو الدعاء، قنت فلان ما المراد به؟ تدرس هذه اللفظة في القرآن جميع الموارد بجميع مواضعها، والمراد بها في هذا الموضع وهكذا، ثم بعد ذلك إما أن نخرج منها بمعانٍ متعددة، أو نقول جميع الاستعمالات ترجع إلى معنى واحد، كما خرج بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: أن المقصود هو دوام الطاعة، هذا يسمى بالتفسير الموضوعي، فبدايةً نحدد هذه الأشياء ثم نجمع المادة العلمية المناسبة لهذا الاتجاه، ونرتب هذه المادة بطريقة معينة، والطريقة المقترحة في ترتيب هذه المادة يمكن أن تكون على النحو الآتي:
أولاً: نبدأ بالقضايا العامة، والقضايا العامة بالنسبة مثلاً لسورة الفاتحة معنى السورة لغة واصطلاحاً، ولماذا سُورت السور؟ والحكمة من ذلك فيما يظهر لنا، كذلك معنى الآية لغة واصطلاحاً، ولماذا سميت بهذا؟ وهكذا ترتيب السور، وترتيب الآيات هل ترتيب الآيات توقيفي بمعنى أنه مأخوذ من النبي ﷺ بهذه الطريقة، أو أنه اجتهد فيه الصحابة؟، ونبين أن ترتيب الآيات أمر توقيفي لا اجتهاد لأحد فيه، وكذلك أسماء السور هل هي توقيفية أو اجتهادية؟ وأحياناً يذكر السورة الواحدة، سورة الفاتحة لها أكثر من عشرين اسما هل هذه الأسماء كلها منقولة عن النبي ﷺ أو أن هذه في الأغلب أوصاف وأن الأسماء الحقيقية قليلة والبقية هي أوصاف لهذه السورة؟ فهذه من القضايا العامة أولاً فيما يتعلق بالسورة والآية من هذه النواحي، ومن القضايا العامة نبين أسماء هذه السورة ومعنى كل اسم، فسورة الفاتحة مثلاً قيل لها ذلك لأنها يستفتح بها في الصلاة، أو لأنه افتتح بها القرآن، وقيل لها: الحمد؛ لأنها مبدوءة بالحمد، وقيل لها: أم القرآن باعتبار أن جميع معاني القرآن ترجع إليها، إلى غير ذلك من الأسماء، فنذكر الأسماء التي هي الأسماء وليست الأوصاف ونبين المراد بكل اسم، ويذكر فضل هذه السورة إذا وردت أحاديث صحيحة في فضلها كذا وكذا وكذا في الأحاديث، وهناك كتب تُعنى بهذه الأشياء جميعاً، هناك مصادر تتكلم عن السور وما يتصل بها، وأسماء سور القرآن ومعنى كل اسم إضافة إلى كتب التفسير تُعنى بهذه الأشياء، وهناك كتب تتعلق بفضائل السور، وهناك كتب في فضائل الآيات، وهناك كتب تُعنى بالصحيح، وهناك كتب تذكر الصحيح والضعيف، وهناك كتب بالأسانيد، هناك كتب تختصر بالأسانيد، ومكان نزول السورة، ومتى نحكم على السورة أنها مكية أو مدنية، وكيف نحكم بالنسبة للآيات التي يذكر بعض المفسرين أنها نازلة مستثناة، كقولهم: إلا هذه الآية نزلت بالمدينة، والسورة أحياناً تتكلم عن موضوع واحد محدد، وأحياناً عن مواضيع متعددة، وهناك كتب من غير كتب التفسير معينة تتحدث عن موضوعات في السور، وطالب العلم يمكن أن ينظر في السورة ويستطيع أن يحكم أنها تتكلم عن موضوع واحد أو عن عدة مواضيع.
ثانياً: ينتقل إلى تحليل الآيات، وهذا هو الجزء الأخير فيما يتعلق بإعداد درس التفسير.
وفيما يتعلق بتحليل الآيات إذا قلنا: إن هذا التفسير تفسير تحليلي فيذكر في البداية ما يتعلق بالمناسبة، والمقصود بالمناسبة يعني وجه الارتباط بين الآية والآية التي بعدها، يعني نفترض أننا مثلاً في الآية رقم (2) ما وجه الارتباط بين هذه الآية وهذه الآية؟ هناك مناسبات بين السور يذكرها بعض العلماء، وهذا مبني على أن ترتيب السور توقيفي، ومعنى توقيفي: أن ذلك متلقي عن رسول الله ﷺ بهذا الترتيب الذي في المصاحف، وأنه لا دخل للاجتهاد فيه، والأرجح أن ترتيب السور ليس بتوقيفي بل هو شيء له تعلق بالاجتهاد؛ وذلك أن مصاحف الصحابة كانت متفاوتة، فمنهم من كان يرتب على حسب النزول إلى غير ذلك، وأحسن ما قيل في هذا -والله تعالى أعلم- هو ما ذكره الإمام مالك من أنه مستأنَس بما كانوا يرونه من غالب حال رسول الله ﷺ في قراءته، ولا شك أنه في ذلك الحين في ذلك الوقت في زمان النبي ﷺ كان يعرف بعض الأجزاء، وبعض المجموعات -إن صح التعبير- من السور بحسب ترتيبها اليوم مثلاً الزهراوان "البقرة، وآل عمران"، و"المسبحات"، ونحو ذلك، لكن جميع سور القرآن ترتيبها ليس بتوقيفي، لكن كونهم استأنسوا بما كانوا يرونه من غالب قراءة النبي ﷺ في بعض الصلوات ممكن، والنبي ﷺ لم يقل لهم: ضعوا الفاتحة أولاً ثم البقرة ثانياً، ثم آل عمران ثالثاً، إلخ.
مسألة التنكيس جاء عن ابن مسعود لما سئل عن رجل يقرأ القرآن منكوساً قال: ذاك رجل نكس الله قلبه،، والمقصود بالتنكيس قلب الآيات في السورة، يعني يقلب السورة من آخر آية حتى يصل للآية الأولى، وهذا يفعله بعض المتمرسين في الحفظ، وهذا لا يجوز؛ لأنه يفسد نظم القرآن والمعاني، لكن كون الإنسان يقرأ في الركعة الأولى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [سورة الناس:1]، وفي الركعة الثانية: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [سورة الفلق:1]، فهذا لا شيء فيه، والنبي ﷺ قرأ في ركعة واحدة البقرة ثم النساء ثم آل عمران بركعة واحدة، فلا بأس أن يقرأ الإنسان، بل أكثر من هذا لا بأس أن يقرأ مقطعين من سورة واحدة، الأول منهما بعد الثاني بشرط ألا يكون الكلام مترتباً على بعض، وإنما يكون الكلام منفصلاً، يعني يقرأ قصة طالوت وجالوت أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ [سورة البقرة:246] يقرأ ذلك بالركعة الأولى، ويقرأ في الركعة الثانية مثلاً أول السورة أو يقرأ في الركعة الأولى آية الديْن، ويقرأ في الركعة الثانية قصة طالوت، فهذا لا شيء فيه -مع أن ترتيب الآيات توقيفي- فلا يقرأ آخر قصة طالوت في الركعة الأولى ويقرأ أولها في الركعة الثانية، هذا لا يصلح، ولابد أن يقرأ مرتباً، فالشاهد أن المناسبات بين السور ليست توقيفية، وبناء عليه فلا يبنى على ذلك: القول بأن التنكيس هو أن يقرأ سورة ثم يقرأ في الركعة الثانية السورة التي قبلها في ترتيب المصحف، هذا ليس هو التنكيس المقصود بالذم؛ بدليل فعل النبي ﷺ، والتنكيس المذموم إذا بني على القول بأن ترتيب السور توقيفي، وهو ليس كذلك فكل ما بني عليه فلا عبرة به، ومن الأشياء التي يبنونها على أن ترتيب السور توقيفي علم المناسبة وهو وجه الارتباط بين السورة والسورة، مثلاً في سورة الفيل: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ [سورة الفيل:1-4]، وسورة قريش: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ [سورة قريش:1-2]، لماذا فعل بأصحاب الفيل ما فعل؟ بالسورة التي بعدها مباشرة: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ فعلنا ذلك بأصحاب الفيل من أجلكم يا قريش، ويقولون في سورة الفاتحة مثلاً: الله ضمنها معاني القرآن، وذكر الصراط والمغضوب عليهم، وصراط الضالين، ثم جاء ذلك مفصلاً بصدر سورة البقرة: أهل الإيمان، وأهل النفاق، والكفار، ثم ذكر اليهود ذكراً طويلاً مفصلاً، فهذا تفصيل غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ [سورة الفاتحة:7] لكن هذا كله بناءً على ترتيب السور هل هو توقيفي أو لا؟ والمناسبة المعتبرة تكون فيما عدا ذلك، بأن تكون المناسبة بين الآية والآية الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الفاتحة:2] من هو رب العالمين؟ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفاتحة:3] ذكر صفته وخص هذه الصفة ليبين أن ربوبيته للعالمين، والربوبية مبنية على الرحمة وليست مبنية على المضادة والعسف، والقهر، والظلم وما أشبه ذلك ربوبية مبناها على الرحمة الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:4] لكن جاء بينهما بذكر الرحمة من أجل بيان أن ربوبيته مبنية على الرحمة، ثم لما ذكره بهذه الأوصاف حمده ثم أعاد الحمد ثانياً، وهذا الثناء أثنى عليّ عبدي[3]، إذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ثم مجده ثالثاً بذكر الْحَمْدُ ثالثاً، ثم بعد ذلك كما يقول ابن القيم كأنه صار بحضرته فخاطبه فالتفت من الغيبة الْحَمْدُ للّهِ الغائب "ربّ" هو رَبِّ الْعَالَمِينَ هو الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هو مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ فوجه الخطاب إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] ثم بعد ذلك سأل حاجته ومطلوبه اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] ثم بين هذا الصراط، وضبطه بوصف يبين حقيقته فهو صراط يجانب طريق الانحراف بالإفراط والتفريط غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ، هذا باختصار، وقل مثل ذلك في الحروف المقطعة، والراجح أنها لا معنى لها في نفسها لكنها تشير إلى معنى وهو أن هذا القرآن مكون من هذه الحروف فأتوا بمثله، ولذلك يأتي غالباً بعدها ذكر القرآن، ولهذا قال: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:1-3]، بدأ يفصل بعد أن أجمل المتقين أولاً فقال: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وهكذا في سائر الآيات المناسبة أحياناً تكون ظاهرة، وأحياناً تكون خفية، إذا كانت ظاهرة فإنها تذكر ولا بأس من هذا وليس ذلك من التكلف، وإذا كانت المناسبة خفية فإنه يعرض عنها؛ لئلا يكون الإنسان قائلاً على الله بغير علم، المناسبة الظاهرة في الأمثلة التي ذكرتها آنفاً، والمناسبة الخفية كما في قوله -تبارك وتعالى- مثلاً: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [سورة القيامة:16-17]، والذي قبله: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لَا وَزَرَ [سورة القيامة:1-11] هذا كله في القيامة واضح الارتباط إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [سورة القيامة:12-15]، فكل هذا يتحدث عن أحوال الآخرة والإنسان وما يلقاه فيها، ثم قال: لَا تُحَرِّكْ بِهِ [سورة القيامة:16] يعني بتلقي الوحي القرآن، لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [سورة القيامة:16-17]، فهنا لا يظهر ارتباط، لكن لا يجوز لنا أن نقول على الله بلا علم، وإذا رجعت إلى بعض الكتب تجدهم يذكرون وجوهاً متكلفة وهذا لا يسوغ، والإنسان ينبغي أن يتحرز ويتورع، وهناك مناسبة بين المقطع والمقطع حتى ولو كان المقطع نزل قبل سنوات، ومثال ذلك لما ذهب كعب بن الأشرف ومن معه من اليهود إلى المشركين في مكة بعد غزوة أُحد يحرضونهم على استئصال المسلمين، ويقولون: أتيتم وانتصرتم ولم تفعلوا شيئاً، لماذا رجعتم؟ هم الآن يعيدون ترتيب صفوفهم ارجعوا إليهم فاستأصلوهم، فسألهم المشركون أنحن أهدى أم محمد؟ قالوا: أنتم أهدى من محمد، وسجدوا لأصنام المشركين، الأحبار سجدوا لأصنام المشركين تأكيداً على أنهم أحق من النبي ﷺ وأهدى سبيلاً فقال الله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً [سورة النساء:52-57] إلى هنا، ثم قال: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ [سورة النساء:58] هذه لا علاقة لها بما قبلها بسبب النزول، والذي يُروى في هذا أنها نزلت بسبب قصة مفاتيح الكعبة لما فتح النبي ﷺ مكة في السنة الثامنة، والمقطع الأول أتى بعد أُحد وهي في السنة الثالثة، فالذي حصل أن النبي ﷺ أخذ مفاتيح الكعبة وطلبها منه عليٌّ ، ومفاتيح الكعبة أخذها النبي ﷺ من بني شيبة، والنبي ﷺ أخبر أنها عندهم إلى يوم القيامة، ولا زالت مفاتيح الكعبة عند بني شيبة إلى اليوم وهذا معروف، فالشاهد أن الآية: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ نزلت في هذا فيما يروى في أسباب النزول، فعلى كل حال المقطع الأول يتحدث عن اليهود، والمقطع الثاني يتحدث عن الأمانات، والأمانات صيغة عموم يدخل فيها كل أمانة، ومما يدخل فيها دخولاً أولياً هو سبب النزول مفاتيح الكعبة، ويدخل فيها ما عدا ذلك، فمن الأمانات الداخلة تحتها الشهادة بالحق وعدم كتمانه، فالنبي ﷺ حينما سئل هؤلاء اليهود عنه كتموا ما عندهم من الأمانة، وهي ما عَرفوا من صفته ﷺ، وقالوا للمشركين: أنتم أهدى من محمد، فخانوا الأمانة وضيعوها، فهذا هو الربط بين المقطعين، وهناك ربط مناسبات بين أول السورة وآخرها، ففي أول سورة البقرة مثلاً قال الله: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:2-5]، وقال في آخرها: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ والغيب هو كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [سورة البقرة:285]، وهذا واضح لمن تدبر، ويمكن النظر في أول سورة الحشر وآخرها، وفي أول سورة التحريم قال الله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ [سورة التحريم:1]، وانظر للأمثال التي في آخرها للمؤمنين و للكافرين في النساء، امرأة نوح، ولوط، وامرأة فرعون ومريم، الارتباط مناسبة بين أول السورة وآخرها، وهناك ارتباط بين أول الآية وخاتمتها كما في قوله سبحانه: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة المائدة:38]، فلم يقل: والله غفور رحيم، وإنما قال: والله عزيز حكيم.
- رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه، برقم (3053)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنة بالفرش ونحوه وأن الملائكة -عليهم السلام- لا يدخلون بيتا فيه صورة ولا كلب، برقم (2106).
- الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (1/ 41).
- رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وإنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها، برقم (395).