الخامس عشر: تعظيم الأمة لهم، واعترافها بفضلهم، وهو أمر ظاهر معلوم بالحس والتواتر لكل من سمع كلام المسلمين، يقول شيخ الإسلام: "لا تجد في الأمة عظم أحد تعظيما أعظم مما عظموا به، ولا تجد غيرهم يعظم إلا بقدر ما وافقهم فيه، كما لا ينقص إلا بقدر ما خالفهم"[1]، فهم العدول الذين تقبل أقوالهم، ويحتج برواياتهم، ولو استعرضنا تاريخ الإسلام لوجدنا البارزين فيه في كل عصر هم أهل السنة الذين قاموا بالحق ودعوا إليه، وجددوا من درس من أمور الإسلام، وجاهدوا في الله حق جهاده، بالنفس والمال والقلم واللسان، يقول إسحاق بن موسى: "ما مكن لأحد من هذه الأمة ما مكن لأصحاب الحديث؛ لأن الله قال: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ [النور:55] فالذي ارتضاه الله قد مكن لأهله فيه، ولم يمكن لأصحاب الأهواء في أن يقبل منهم حديث واحد عن أصحاب النبي ﷺ[2]، إلى آخر ما ذكر.
فهؤلاء منهم العلماء العاملون؛ كما قال ابن قدامة -رحمه الله- في "تحريم النظر في كتب الكلام": "ومنهم الأولياء والصالحون، ومنهم الأتقياء الأبرار، والأصفياء الأخيار، أهل الولايات والكرامات، وأهل العبادات والاجتهادات، بذكرهم تزين الكتب والدفاتر، وأخبارهم تحسن المحافل والمحاضر، تحيا القلوب بذكرهم، وتحصل السعادة باقتفاء آثارهم، بهم قام الدين، وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب، وبه نطقوا، وهم مفزع الخلق عند الشدائد" إلى أن يقول: "فنحن أصحاب المقامات الفاخرة، ولنا شرف الدنيا والآخرة، ومن نظر في كتب العلماء التي أفردت لذكر الأولياء لم يجد فيها إلا منا، ومتى نقلت الكرامات لم تنقل إلا عنا، ومتى أراد واعظ أو غيره يطيب مجلسه ويزينه زينه بأخبار بعض زهادنا أو كرامات عبادنا، أو وصف علمائنا، وعند ذكر صالحينا، تنزل الرحمة، وتطيب القلوب، ويستجاب الدعاء، ويكشف البلاء، ولله در القائل:
ذهبت دولة أصحاب البدع | ووهى حبلهم ثم انقطع |
وتداعى بانصداع شملهم | حزب إبليس الذي كان جمع |
هل لكم بالله في بدعتكم | من فقيه أو إمام يتبع |
مثل سفيان أخي الثوري الذي | علم الناس خفيات الورع |
أو سليمان أخي التيم الذي | هجر النوم لهول المطلع |
أو إمام الحرمين مالكا | ذلك البحر الذي لا ينتزع |
أو فقيه الشام أوزاعيها | ذاك لو قارعه القراء قرع |
أو فتى الإسلام أعني أحمدا | ذاك حصن الدين إن حصن منع |
لم يخف سوطهم إذ خوفوا | لا ولا سيفهم حين لمع[3]. |
يقول الخطيب البغدادي -رحمه الله: "وقد جعل الله -تعالى- أهله أركان الشريعة، وهدم بهم كل بدعه شنيعة، فهم أمناء الله من خليقته، والواسطة بينه ﷺ وأمته، والمجتهدون في حفظ ملته، أنوارهم زاهرة، وفضائلهم سائرة، وآياتهم باهرة، ومذاهبهم ظاهرة، وحججهم قاهرة، وكل فئة تتحيز إلى هوى ترجع إليه، أو تستحسن رأيا تعكف عليه، سوى أصحاب الحديث، فإن الكتاب عدتهم، والسنة حجتهم، والرسول فئتهم، وإليه نسبتهم، لا يعرجون على الأهواء، ولا يلتفتون إلى الآراء، يقبل منهم ما رووا عن النبي ﷺ، وهم المأمونون عليه والعدول، حفظة الدين وخزنته وأوعية العلم وحملته، إذا اختلف في حديث كان إليهم الرجوع، فما حكموا به فهو المقبول المسموع، ومنهم كل عالم فقيه، وإمام رفيع نبيه، وزاهد في قبيلة، ومخصوص بفضيلة، وقارئ متقن، وخطيب محسن، وهم الجمهور العظيم، وسبيلهم السبيل المستقي، وكل مبتدع باعتقادهم يتظاهر، وعلى الإفصاح بغير مذاهبهم لا يتجاسر، من كادهم قصمه الله، ومن عاندهم خذله الله، لا يضرهم من خذلهم، ولا يفلح من اعتزلهم، المحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير، وبصر الناظر بالسوء إليهم حسير: وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحـج:39]"[4].
السادس عشر: أنهم يتركون الخوض فيما لا تدركه عقولهم، فهم لا يبحثون في غوامض العلم، والأغاليط والمسائل التي تغمض على الأفهام، أو القضايا التي تورث الشبهات والنزاع والتفرق بين طوائف الأمه، ولا يشتغلون بما لا يترتب عليه عمل، ولهذا كان شغلهم فيما ينفع.
والكلام في هذه المسألة يطول، وكلام السلف فيها وتحذيرهم من الخوض في الغوامض، والكلام في المسائل التي هي من جملة الأغاليط أو الغوامض كلام مشهور يرجع إليه في مظانه.
السابع عشر والأخير: أنهم يشاركون غيرهم في الكمالات، وينفردون بما لا يوجد عند غيرهم من الطوائف، فكل كمال يوجد في طائفة من الطوائف هو موجود موفور في أهل السنة والجماعة، ويوجد فيهم من الكمالات ما لا يوجد عند أهل الأهواء والبدع، فعندهم من صحيح المعقول، والقياس، وصحة النظر والاستدلال والمحاجة والمجادلة الصحيحة، والمكاشفة والمخاطبة، والذوق، ونحو ذلك، الذوق الصحيح السني، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ما لا يوجد عند غيرهم، فلهم من هذه الطرق "صفوتها وخلاصتها، فهم أكمل الناس عقلا؛ وأعدلهم قياسا، وأصوبهم رأيا، وأسدهم كلاما، وأصحهم نظرا، وأهداهم استدلالا، وأقومهم جدلا، وأتمهم فراسة، وأصدقهم إلهاما، وأحدهم بصرا ومكاشفة، وأصوبهم سمعا ومخاطبة، وأعظمهم وأحسنهم وجدا وذوقا. وهذا هو للمسلمين بالنسبة إلى سائر الأمم ولأهل السنة والحديث بالنسبة إلى سائر الملل"، هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[5].
وبهذا نكون قد انتهينا من هذا القسم الثاني وهو: الخصائص العامة.
فقد عرفنا أن أهل السنة هم الذين يحملون ميراث النبوة، وهم الذين يمثلون الإسلام الحقيقي الذي جاء به النبي ﷺ، وأن هذا الدين يشتمل على العقائد، ويشتمل على غيرها من الأمور الفرعية، كما يقسم بعضهم، وإن كان هذا التقسيم عليه ما عليه من التحفظات، لكن المقصود هو التوضيح والبيان، وكذلك ما يتعلق بتهذيب السلوك مما يتعلق باللسان والمعاملة والرحمة ومحبة الخير للناس، واحتمال الأذى، والصبر على دعوتهم، والعدل معهم، وما أشبه ذلك من المعاني الأخلاقية التي هي من جملة الدين.
ومن أراد أن يكمل نفسه فعليه أن يأخذ هذا الدين بجملته، وأن لا يفرق بين جانب وجانب، وإنما يتلقى كما كان يتلقى أصحاب النبي ﷺ، فكانوا يتلقون عنه العقائد، كما كانوا يتلقون عنه الأخلاق والسلوك، وما إلى ذلك من الأمور.
أقول: من أبرز هذه السمات السلوكية أن أهل السنة مع أنهم يتفاوتون ففيهم الطوائف الثلاث التي ذكرها الله بقوله: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32] فهؤلاء فيهم من يجد ويجتهد لفعل مأمورات الله -تبارك وتعالى- من الواجبات والمستحبات، ويتحرز من المحرمات والمكروهات، وهؤلاء هم السابقون، وفيهم من يقتصر على الواجبات ويترك المحرمات، وفي هؤلاء أيضاً من يوجد عنده التقصير بفعل بعض الذنوب، ولربما الكبائر، وكذلك قد يترك بعض الواجبات، فهؤلاء من جملة المسلمين، والمسلمون يقع فيهم هذا وهذا، كما وقع في أصحاب رسول ﷺ.
ومن الطرائف التي تذكر في هذا: ما يذكر في ترجمة بعض أئمة السنة أن أحد هؤلاء الذين يحضرون مجلسه ويحبونه، وهو من العامة خرج في حال من السكر، فمر على رجل من أهل البدع، فقال: هؤلاء هم الحنابلة، في ذلك الوقت يسمونهم بالحنابلة -كما ذكرنا، فجاء إليه، وقال: الحنابلة ثلاثة أقسام: قسم يعلمون العلم، ويتعلمون في المساجد، وقسم يتعبدون ويتزهدون، وقسم يصفعون، ثم صفعه، فهذا رجل فاسق من هؤلاء العوام كان يحب مجالس هذا العالم، ويحضر شيئاً منها.
فالحاصل: أن أهل السنة مع هذا التفاوت الواقع فيهم إلا أن الخير فيهم أغلب وأكثر وأوفر بالنسبة لغيرهم، كما أن الشر في غيرهم أكثر، يعني إذا نظرت إلى الانحرافات في الطوائف تجد أن الانحرفات كما هو معلوم الآن لو سألت أهل الحسبة فيما يقبضون من الخلوات المحرمة، وغير ذلك من المنكرات، فإنهم يجدون ذلك عند أهل الأهواء أكثر مما يجدونه عند أهل السنة والجماعة، كما هو معلوم.
فأهل السنة في الإسلام كالإسلام في الملل، فكما أنه يوجد في المسلمين ما قد يوجد في غيرهم، إلا أن الخير في المسلمين لا شك أنه أوفر وأتم وأعظم، وأكثر، وكل شر يوجد في المسلمين فلا شك أنه في غيرهم أكثر، وهكذا يقال أيضاً في المنتسبين إلى السنة والجماعة، وهذه قضية لا تخفى، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتاب: "اقتضاء الصراط المستقيم" كثيراً من الأمور التي حاكت فيها هذه الأمة الأمم التي كانت قبلها، مصداقاً لقول ﷺ: لتتبعن سنن من كان قبلكم[6]، فوقعوا فيما وقع فيه من قبلهم من الحسد والبغي والبغضاء، والتناحر، والتهافت على الدنيا، وما أشبه ذلك من الأمور.
الخاصية الثانية: أنهم يضبطون الاجتهادات بالحرص على الوحدة والائتلاف، أهل الأهواء إذا اختلفوا انشعبوا وافترقوا -كما ذكرنا- في حال أبي هاشم الجبائي وفي حال أبي علي الجبائي، الابن والأب، هذا يكفر هذا، وهذا يكفر هذا، فالطائفة الواحدة تتحول إلى طوائف متناحرة يكفر بعضها بعضا، ويضلل بعضها بعضاً، أما أهل السنة والجماعة فإنهم يضبطون الاختلاف بهذا الضابط، ويكونون ممتثلين لأمر الله : وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46]، ولهذا فإن الاختلاف الذي وقع بين أصحاب النبي ﷺ، ووقع أيضاً لسلف هذه الأمة لم يوجب بينهم التدابر والتقاطع والتنازع والتفرق، فلم يتحول السلف إلى فرق وطوائف يضلل بعضها بعضاً، ثم بعد ذلك يأتي لهذا أتباع، ويأتي لهذا أتباع، إطلاقاً، وإنما كانوا على دين واحد، وعلى قلب رجل واحد، وإن اختلفوا في بعض اجتهاداتهم، ولربما بلغ ذلك الاختلاف إلى حد إلى حد التقاتل، لكنه لا يؤدي إلى التفرق المذموم الذي وصفت، ولهذا ذكر أهل العلم؛ كالآجري وابن بطة واللالكائي، وجماعة أيضاً ممن قبل هؤلاء: أن كل اختلاف أورث التقاطع والتدابر والتفرق والانقسام في الأمة، فإنه اختلاف مذموم.
أما أصحاب النبي ﷺ فقد اختلفوا في مسائل: هل رأى النبي ﷺ ربه أو لم ير ربه؟ أهل السنة يختلفون: هل الكفار يرون الله في عرصات القيامة أولا يرونه؟
فهذه من مسائل العلم التي اختلفوا فيها إلا أن ذلك لم يوجب بينهم تنازعاً، وتفرقاً وتناحراً وتطاحناً، وإنما يكون ذلك بسبب الجهل، أو الهوى الذي يحصل به البغي، فالجهل قد يظن هذا الجاهل أن هذه المسألة التي وقع الاختلاف فيها وهي من قضايا الاجتهاد أن ذلك يوجب التفرق فينابذ غيره، وينافره ويضلله، ولربما رماه بالعظائم، أو يكون ذلك بسبب الهوى الذي يوجب البغي، فهو يفعل ذلك لمنافسة، أو حسد، أو مضادة بينه وبين هذا الإنسان فيكرهه، ويفرح بزلته، فإذا أخطأ خطاءً فإنه يسارع إلى تضليله وإخراجه من أهل السنة والجماعة، ويحكم عليه بالبدعة والهوى، وما أشبه ذلك، فتتحول الطائفة الواحدة إلى طوائف متناحرة، مع أن هؤلاء يعتقدون عقيدة واحدة، ويدرسون كُتباً متحدة، ويدرسون الكتاب الواحد، ويعظمون أئمة الإسلام جميعاً من أهل السنة والجماعة، ويقبلون الأحاديث الصحيحة، وأقوال السلف، ويعظمونهم، ومع ذلك تجد هذا التشرذم والتناحر والتفرق الذي يجعل الطائفة الواحدة طوائف، وهم في الواقع لا يختلفون على الدين وإنما أوقعهم بذلك إما الجهل بما يوجب التفرق، وما لا يوجب التفرق، أو الهوى الذي يحمل على العصبية والبغي والظلم والتعدي، وتجاوز ما أمر الله به، والله يقول: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء: 59]، فكانوا كما يقول الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومذاكرة ومناصحة، وتبقى الألفة بينهم والمحبة، وأخوة الدين، يقول شيخ الإسلام: "ولو كان كل ما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة"[7].
وكان -رحمه الله- يقول: "إني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعمالخطأ في المسائل الخبرية القولية، والمسائل العملية، وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا معصية"[8].
والناس اليوم على أتم الاستعداد أن يتفرقوا، وينقسموا بسبب تزكية فلان، أو تجريح فلان، إن كنت تحسن الظن بفلان فيمكن أن تكون خصماً ومخالفاً وعدوا، وترمى بكل عظيمة وكريهة، وإذا كنت توافقني في الحكم على هذا أو ذاك، فهذا لا يكون أبداً ولا يجوز، وذلك على خلاف ما كان عليه أهل السنة والجماعة - وأرضاهم.
الخاصية الثالثة: أنهم خير الناس للناس، كما أن الله -تبارك وتعالى- بعث نبيه محمدا ﷺ رحمة للعالمين، أرسله بالعلم والهدى والبراهين، فكذلك أرسله بالإحسان إلى الناس، والرحمة لهم، بلا عوض، وبالصبر على أذاهم واحتماله، والله يمتن عليه: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [الضحى:6-8].
ذكر له ثلاث منن، ثم قال: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ [الضحى:9]، كنت يتيماً وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ [الضحى:10] السائل الذي يسأل عن العلم والهداية، والسائل الذي يطلب المعونة والمواساة بالمال، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11].
فالحاصل: أن الله أمر نبيه ﷺ بهذه الأمور، وهذا سبيل أتباعه إلى يوم القيامة، ولهذا وصف الله هذه الأمة بقوله: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، وقد قال أبو هريرة : "خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم، حتى يدخلوا في الإسلام"[9].
فهم يجاهدون يبذلون أنفسهم وأموالهم لمنفعة الخلق وصلاحهم، كما قال الإمام أحمد -رحمه الله: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم"[10].
الخاصة الرابعة: أنهم يصدرون في جميع سلوكياتهم من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، لا يتلقون ذلك من التربية الأمريكية، كما يقول –للأسف الشديد- بعضهم، ولا يتلقون ذلك من فلسفات الفلاسفة الذين ضلوا عن صراط الله المستقيم، وإنما يأخذون ذلك من كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، فيأمرون بما أمر الله به، وينهون عما نهى الله عنه، فيأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمر القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله ﷺ: أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً[11].
ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين، وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي، ويأمرون بمعالي الأخلاق، وتكميل المروءات، وهم في ذلك كله متبعون للكتاب والسنة، وعلى قدر اهتداء العبد بهدي النبي ﷺ على قدر ما يحصل من الكمالات، وهذه القضايا مما يتعلق بهذه الأخلاق التي كانوا يذكرونها في عقائدهم، كما ذكر الإمام أبو بكر الإسماعيلي في اعتقاده، فيقول: "مع لزوم الجماعة، والتعفف في المأكل والمشرب والملبس، والسعي في عمل الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإعراض عن الجاهلين حتى يعلموهم ويبينوا لهم الحق، ثم الإنكار والعقوبة من بعد البيان، وإقامة العذر بينهم ومنهم"[12]، هذا في كتاب من كتب العقيدة.
ويقول أيضاً في موضع آخر: "ويرون مجانبة البدعة والآثام والفخر والتكبر والعجب والخيانة والدغل، والسعاية" يعني الوشاية "ويرون كف الأذى، وترك الغيبة"، إلى أن قال: "ويرون تعلم العلم، وطلبه من مظانه، والجد في تعلم القرآن وعلومه، وتفسيره، وسماع سنن الرسول ﷺ، وجمعها والتفقه فيها، وطلب آثار أصحابه - وأرضاهم-"[13].
فالدين لا يقتصر على جزئية أو جانب من الجوانب قد تميل إليه نفس الإنسان، أو يتلقى الدين تلقياً قاصراً، بل الدين هو الأخلاق وهو العقائد، وهو الأعمال والعبادات بجميع أنواعها وصورها.
الخاصية الخامسة: هم أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح للأمة؛ كما قال الله -تبارك وتعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [آل عمران:110]، فهم يحملون هم الدعوة، ويدينون بالنصيحة للأمة، ويعتقدون معنى قول النبي ﷺ: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً[14].
ويدينون بقوله ﷺ: مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى[15]، فإذا رأوا واحداً قد قصر أو أخطأ أو ترك أمر الله ، أو فعل شيئاً من المحرمات، بادروا إليه فأمروه ونهوه ونصحوه وانتشلوه من هذا التقصير الذي وقع به، ولا يشمتون بهؤلاء الذين قد وقعوا فيما وقعوا فيهمن معصية الله ، ونحو ذلك، وإنما ينصحونهم ويرفقون به.
الخاصة السادسة: أن ولائهم للحق وحده، فيوالون ويعادون على أساس الدين، ولا يمتحنون الناس بما ليس من الله ، فهم ينظرون إلى ما عند الإنسان أو عند الطائفة من حق وهدى ومعروف، بعيداً عن العصبيات والجاهليات والألقاب التي ما أنزل الله بها من سلطان؛ كما قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله: "ليس لأحد أن يعلق الحمد والذم والحب والبغض والمولاة والمعاداة بغير الأسماء التي علق الله بها ذلك، مثل: أسماء القبائل والمدائن والمذاهب والطرائق"، إلى أن يقول: "ونحو ذلك مما يراد به التعريف"[16]، "فمن كان مؤمناً وجبت موالاته من أي صنف كان، ومن كان كافر وجبت معاداته من أي صنف كان، ومن كان فيه إيمان وفيه فجور أعطي من الموالاة بحسب إيمانه، ومن البغض بحسب فجوره"[17]، فهم يقدمون من قدمه الله ورسوله، ويؤخرون من أخره الله ورسوله، ويحبون من أحبه الله ورسوله، ويبغضون من أبغضه الله ورسوله، وهم يداً واحدة، ويعذرون من أخطأ إذا كان ذلك للعذر فيه مجال[18]، كما سيأتي.
يقول شيخ ابن تيمية -رحمه الله- في كلام له متين ينبغي الوقوف عنده، يقول: "إذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور، وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته"[19].
الخاصة السابعة: أنهم يعملون على تأليف القلوب واجتماع الكلمة، ويحبون الخير لكل المسلمين، ويعفون، ويتجاوزون عن إساءة المسيء، وخطأ المخطئ، والله يقول: فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ [الأنفال:1] فكل أمر يؤدي إلى الشقاق والنزاع والوحشة، وإثارة الضغائن، فهم يدفعونه، ويتباعدون منه، ويحرصون كل الحرص على الوحدة على الأصول الصحيحة، على الكتاب والسنة، وصحة الاعتقاد، وينبذون الفرقة والتفرق، وهذا واضح من منهج السلف ، فهم يحكمون الكتاب والسنة، على أعمالهم وأعمال غيرهم، ويجمعون الناس على ذلك، ولا يشتغلون ببنيات الطريق التي من شأنها أن تفرق وتفسد، ولا تصلح، يقول شيخ الإسلام في رسالته التي كتبها إلى بعض أصحابه بعدما حبس يقول: "تعلمون من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين: تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البين، وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة كما أن الخارجين عنه قم أهل الفرقة"[20].
الخاصة الثامنة: أنهم أعظم الناس ثباتاً على مبادئهم وصبراً على ذلك، ولما جاء أبو سفيان ومن ومعه إلى هرقل، وسألهم السؤالات المعروفة، كان مما سألهم: "هل يرجع أحد منهم سخطة لدينه بعد أن دخل فيه؟ فقال له أبو سفيان: لا"[21].
فالحاصل: أنه استدل بهذا وبغيره على صحة ما جاء به الرسول ﷺ.
فأهل السنة والحديث لا يعلم أحد كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- "من علمائهم، ولا صالح من عامتهم رجع قط عن قوله واعتقاده، بل هم أعظم الناس صبراً على ذلك، وإن امتحنوا بألوان المحن، وفتنوا بأنواع الفتن، وهذه حال الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، واتباع الأنبياء من المتقدمين كأهل الأخدود، ونحوهم، وكسلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين، وغيرهم من الأئمة، حتى كان مالك -رحمه الله- يقول: "لا تغبطوا أحداً لم يصبه في هذا الأمر بلاء"[22].
فهم ثابتون على المنهج؛ لأنهم قد اقتنعوا وعلموا وأيقنوا، بأنه حق، فهم لا يتقلبون كما يتقلب أهل الأهواء من أهل الكلام، وغيرهم، فهو في كل يوم على نحلة ودين ورأي ومذهب، ولهذا قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله: "من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل"[23].
وقد قال الإمام مالك: "كلما ما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد ﷺ لجدله"[24].
ولما تبعه رجل وأراد أن يناظره -كما أشرنا سابقاً- وقال له: اسمع مني شيئاً أكلمك به، وأحاجك، وأخبرك رأيي؟ قال: فإن غلبتني؟ قال: إن غلبتك اتبعتني، قال: فإن جاء رجل آخر فكلمنا فغلبنا، قال: نتبعه، قال مالك -رحمه الله: يا عبد الله بعث الله محمدا ﷺ بدين واحد، وأراك تنتقل من دين إلى دين[25].
الإمام مالك ينقل كلام عمر بن عبد العزيز: "من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل"، ولهذا عرف عن أهل البدع كثرة التقلب والتلون والتنقل.
أما أهل السنة فلا يحفظ عن واحد منهم من أئمتهم وعلمائهم أنه تحول من مذهب أهل السنة إلى مذهب من مذاهب أهل البدع، كما هو معلوم، فهم ثابتون، الثبات على المبدأ.
الخاصة التاسعة: أنهم يلتزمون العدل والإنصاف مع العدو والصديق، امتثالاً لقول الله -تبارك وتعالى: فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ [النساء: 135].
وامتثالاً لقوله: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8].
وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152]، فالتزام العدل مع أعدائهم ظاهر في كلامهم وسيرتهم وأخبارهم، فلا يعميهم ما يجدونه عند خصومهم من الضلال عن قول الحق فيهم، ولا يرمونهم بما ليس فيهم من الباطل والقبائح، وهذا بخلاف منهج أهل الأهواء الذين يرمون كل من خالفهم في شيء من مقالاتهم بالشنائع والتهم، بل لربما اتهموه في عرضه ورموه بكل قبيح، مع أنهم كانوا يعظمونه غاية التعظيم، ويرون أنه من كبرائهم، هذه صفة من صفات اليهود؛ كما في خبر إسلام عبد الله بن سلام قالوا عنه: "إنه خيرنا وابن خيرنا"، فلما أخبرهم النبيﷺ أنه أسلم، قالوا: شرنا وابن شرنا"[26].
فالحاصل: أن أهل السنة ينصفون مع القريب والبعيد، والصديق والعدو، ويفرقون بين الناس، فالناس منهم الكفار فهؤلاء لا يحبونهم، ولا يوالونهم أبداً، وإنما يجاهدونهم في الله حق جهاده، ومنهم أهل بدع وعصيان فهؤلاء يحمدون بما عندهم من حق ومعروف إذا اقتضى المقام ذلك، ويرد ما عندهم من البدع والانحرافات والضلالات، ويبين أهل السنة أمرها، ولا يسكتون عنها، ومن كان داعياً إلى بدعته كان الموقف معه بحسب حاله.
ومن إنصافهم أن كل حق مع طائفة فإنهم يوافقونه فيه يوافقون هؤلاء فيه، ويقبلونه منهم، ويردون باطلهم، من الناس من تحمله العداوة والبغضاء أن يرد الحق الذي جاء في الكتاب والسنة؛ لأنه يبغض هذا الذي قاله، أو عُرف به، أو اشغل به، بل وجد من أهل البدع من سيقت له آية من كتاب الله فاستنكف وأعرض، ثم قال: هذه آية وهابية، إلى هذا الحد؛ لأنه يسمع كثيرا من هؤلاء الذين يلمزهم بهذه الفرى، يسمعهم كثيراً ما يرددون هذه الآية، فرد كلام الله ، يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله: "فكل حق مع طائفة من الطوائف فهم يوافقونهم فيه، وهم براء من باطلهم، فمذهبهم جمع حق الطوائف بعضه إلى بعض، والقول به، ونصره، وموالاة أهله، من ذلك الوجه، ونفي باطل كل طائفة من الطوائف، وكره ومعاداة أهله من هذا الوجه، فهم حكام بين الطوائف لا يتحيزون إلى فئة منهم على الإطلاق، ولا يردون باطلاً بباطل، ولا يحملهم شنئان قوم يعادونهم ويكفرونهم على ألا يعدلوا فيهم، بل يقولون فيهم الحق، ويحكمون في مقالاتهم بالعدل"[27].
كما أنهم لا يهدرون العالم بزلة، أو هفوة، أو خطأ أخطأ فيه، كما يقول شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله: "لو قدر أن العالم الكثير الفتاوى أخطأ في مائة مسألة لم يكن ذلك عيبا"[28]؛ لأنه لا يخلو إنسان من عيوب وأخطاء مهما كان فضله، من شأن الإنسان أن يخطئ وأن يزل، ولكن كما قال سعيد بن المسيب -رحمه الله: "ليس من شريف ولا عالم ولا ذي سلطان إلا وفيه عيب ولا بد، ولكن من الناس من لا تذكر عيوبه، من كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله"[29].
وابن المبارك -رحمه الله- يقول: "إذا غلبت محاسن الرجل على مساوئه لم تذكر المساوئ، وإذا غلبت المساوئ على المحاسن لم تذكر المحاسن"[30].
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: "ومن جعل كل مجتهد في طاعة أخطأ في بعض الأمور مذموماً معيباً ممقوتاً فهو مخطئ ضال مبتدع"[31].
ويقول تلميذه ابن القيم: "ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعاً أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح، وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهفوة والزلة، وهو فيها معذور، بل ومأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين"[32].
ويقول في موضع آخر متحدثاً عن فضل أئمة المسلمين: "وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم لله ورسوله لا يوجب قبول كل ما قالوه، وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم فيها ما جاء به الرسول ﷺ، فقالوا بمبلغ علمهم، والحق في خلافها لا يوجب اطراح أقوالهم جملة، وتنقصهم، والوقيعة فيهم، فهذان طرفان جائران عن القسط، وقصد السبيل بينهما، فلا نأثم ولا نعصم، ولا نسلك بهم مسلك الرافضة في "علي"، ولا مسلكهم في "الشيخين"[33].
ويذكر ابن رجب -رحمه الله: أن أكثر الأئمة غلطوا في مسائل في مسائل يسيرة، مما لا يقدح في إمامتهم وعلمهم وعملهم، فكان ماذا؟ يقول: "لقد انغمر ذلك في محاسنهم، وكثرة صوابهم، وحسن مقاصدهم، ونصرهم للدين، والانتصاب للتنقيب عن زلاتهم ليس محموداً ولا مشكوراً، لاسيما في فضول المسائل التي لا يضر فيها الخطأ، ولا ينفع فيها كشف خطئهم وبيانه"[34].
ويذكر في موضع آخر يقول: "رحم الله من أساء الظن بنفسه علماً عملاً وحالا، وأحسن الظن بمن سلف، وعرف من نفسه نقصاً، ومن السلف كمالاً، ولم يهجم على أئمة الدين، يقول: وإن أنت أبيت النصيحة، وصار شغلك الرد على أئمة المسلمين، والتفتيش عن عيوب أئمة الدين، فإنك لا تزداد لنفسك إلا عجباً، ولا لطلب العلو في الأرض إلا حبا، وعن الحق إلا بعداً، ومن الباطل إلا قرباً"[35].
وفي ترجمة ابن المديني يقول الذهبي -رحمه الله: "ثم ما كل أحد فيه بدعة، أو له هفوة، أو ذنوب، يقدح فيه بما يوهن حديثه، ولا من شرط الثقة أن يكون معصوماً من الخطايا والخطأ، ولكن فائدة ذكرنا كثيرا من الثقات الذين فيهم أدنى بدعة أو لهم أوهام يسيرة في سعة علمهم أن يعرف أن غيرهم أرجح منهم وأوثق إذا عارضهم أو خالفهم فزن الأشياء بالعدل والورع"[36].
وهذا الشاطبي -رحمه الله- يقول: "بأن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة، ولا الأخذ بها تقليدا له"، إلى أن يقول: "كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير، ولا أن يشنع عليها بها، ولا ينتقص من أجلها، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتاً، فإن هذا كله خلاف ما تقضي رتبته في الدين"[37].
ومن المتأخرين الصنعاني يقول: "وليس أحد من أفراد العلماء إلا وله نادرة ينبغي أن تغمر في جنب فضله وتجتنب"[38].
ومن المعاصرين يقول الشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله: "قد ترى الرجل العظيم يشار إليه بالعلم والدين وقفز القنطرة في أبواب التوحيد على أصول الإسلام والسنة، وجادة سلف الأمة، ثم يحصل منه هفوة أو هفوات أو زلة أو زلات، فلتعلم هنا أنهما كل عالم ولا داعية كذلك يؤخذ بهفوته ولا يتبع بزلته فلو عمل ذلك لما بقي معنا داعية قط.
وكل راد ومردود عليه، والعصمة لأنبياء الله ورسله، ينبه على خطئه، ولا يجرم به، فيحرم الناس من علمه، وما يحصل على يديه من الخير، ومن جرم المخطئ في خطأه الصادر عن اجتهاد له، فيه مسرح شرعاً، فهو صاحب الهوى يحمل التبعة مرتين تبعة التجريم وتبعة حرمان الناس من علمه"[39].
وأيضاً من إنصافهم : أن كل من اجتهد وأخطأ، فإنهم يقولون: إن الله يغفر له خطأه وزلله وعيبه، ولا يجرمونه بهذا الخطأ، ولا يأثمونه، كما قال شيخ الإسلام: "ليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكا، فإن المنازع قد يكون مجتهداً مخطئاً يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته،وإذا كانت ألفاظ الوعيد المتناولة له لا يجب أن يدخل فيها المتأول والقانت وذو الحسنات الماحية والمغفور له، وغير ذلك، فهذا أولى"[40].
ويعتذر لبعض الشيوخ الذين وقعوا في بعض الأخطاء، فيقول: "لكن شيوخ أهل العلم الذين لهم لسان صدق، وإن وقع في كلام بعضهم ما هو خطأ منكر، فأصل الإيمان بالله ورسوله إذا كان ثابتا غفر لأحدهم خطأه الذي أخطأه بعد اجتهاده"[41].
ويقول أيضاً: "قد يكون صدّيقا عظيما، فليس من شرط الصديق أن يكون قوله كله صحيحا، وعمله كله سنة"[42]، يعني ليس بالضرورة أن الناس يوافقوك مائة بالمائة على كل اجتهادك وما خلقهم الله لهذا، وما أمرهم من أجل أن يلغوا عقولهم فيوافقوك في الاجتهادات والنظرات والأقوال والأحكام.
وذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- ما يقع فيبعضهم من الاندفاع في الحكم في بعض المسائل الاجتهادية التي يختلفون فيها مع غيرهم، يذكر أنهم لربما ذموا المخالف، واستحلوا عرض إخوانهم، ووقع فيما حرمه الله عليهم، مع أن الرجل قد تجده صواماً قواماً، ومع ذلك تجد لسانه يفرى في أعراض أهل العلم والفضل والخير والمعروف؛ كما قال ابن القيم -رحمه الله: "ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة، وشرب الخمر، ومن النظر المحرم، وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، يقول: وكم ترى من رجل يتورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات لا يبالي ما يقول"[43].
وقد قال عمر بن الخطاب -رحمه الله: "لا يعجبنكم من الرجل طنطنته، ولكنه من أدى الأمانة، وكف عن أعراض الناس فهو الرجل"[44].
ويقول الذهبي -رحمه الله: "إذا كان مثل كبراء السابقين الأولين قد تكلم فيهم الروافض والخوارج، ومثل الفضيل يتكلم فيه، فمن الذي يسلم من ألسنة الناس لكن إذا ثبتت إمامة الرجل وفضله لن يضره ما قيل فيه، وإنما الكلام في العلماء مفتقر إلى وزن بالعدل والورع"[45].
فالمقصود: أن أهل السنة يلاحظون هذه المعاني بخلاف غيرهم فهم لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا؛ كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: "بل يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهداً معذوراً لا يغضب الله ويرضون عمن وافقهم وإن كان جاهلاً سيء القصد، متاجراً ليس له علم ولا حسن قصد"، فيفضي بهم هذا، كما يقول شيخ الإسلام إلى "أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، وتصير موالاتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله ﷺ"[46].
والمقصود: أن من عرف بالخير والفضل لم يقبل فيه القدح والعيب إلا ببينة؛ كما قال الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله- بأن "من صحت عدالته، وثبتت في العلم إمامته، وبانت ثقته، وبالعلم عنايته، لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحه ببينة عادلة"[47]، بما يوجب تصديقه فيما قاله لبراءته من الغل والحسد والعداوة والمنافسة.
وهذا كلام ينبغي للإنسان أن يعرض نفسه عليه، وانظر إلى حال بعض من فارقوا ذلك وخالفوه، هذا الشوكاني -رحمه الله- يقول: "أدركت في أوائل أيام طلبي رجلا يقال له: الفقيه صالح النهمي، قد اشتهر في الناس بالعلم والزهد، وطلب علوم الاجتهاد طلبا قويا، فأدركها إدراكا جيدا، فرفع يديه في بعض الصلوات، ورآه يفعل ذلك بعض المدرسين في علم الفقه المشهورين بالتحقيق فيه، والإتقان له، فقال اليوم: ارتد الفقيه صالح"[48]، من أجل أنه رفع يديه في الصلاة وهم لا يرون الرفع.
وذكر الشوكاني -رحمه الله- جهالات بعض طلاب العلم الذين فارقوا هذه التربية التي كان يتربى عليها أهل السنة والجماعة، فإذا خالفهم أحد المذاهب عادوه عداوة أشد من عداوتهم لليهود والنصارى؛ كما يقول الشوكاني -رحمه الله: "وظنوا أنه على شريعة أخرى، وعلى دين غير دين الإسلام، وأوقعوا في أذهان العوام أنه ناصبي"، يعني مبغض لعلي يقول: "فانظر هذا الصنيع الشنيع الذي هو شبيه بلعب الصبيان"[49].
بل من إنصاف أهل السنة والجماعة: أنهم يقولون بأنه قد يقوم ببعض جوانب الدين بعض المفضولين في بعض النواحي والأمكنة أو الأوقات، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: "إذا كان الشخص أو الطائفة مرجوحاً في بعض الأحوال لم يمنع أن يكون قائماً بأمر الله وأن يكون ظاهراً بالقيام بـأمر الله عن طاعة الله ورسوله ﷺ"[50].
انظر إلى هذا وانظر إلى حالنا إذا أبغضنا أحداً من الناس، فإننا نهجر كل فضيلة وكل حسنة عنده، وقد أحببت أن أورد هذه النصوص في الإنصاف والعدل من كلام هؤلاء الأئمة بحروفها وألفاظها.
فهذه هي خصائص أهل السنة والجماعة .
والمخالفون لهم، الخارجون عن هذه الخصائص هم على أحوال: إما أن يكون هؤلاء لهم أصول كما ذكرنا كالذي يعتمد العقل مثلاً، ويقدمه على النقل، أو الذي يعتقد العصمة لبعض البشر غير الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام، أو أصحاب الكشف الصوفي، أو الرؤى، أو نحو ذلك، وطائفة أخرى وهم الذين لبس عليهم ببعض الفلسفات، فصاروا يتكلمون في قضايا لربما يدركون أبعادها، وكثير من هؤلاء ممن درسوا في بلاد الغرب، وتأثروا بما عند أولئك من مفاهيم مغلوطة، ومنحرفة.
والطائفة الثالثة: هم الذين يوافقون على هذه الأصول ويقررونها، ويعظون هؤلاء الأئمة من السلف ، ويتلقون كلامهم من الناحية النظرية ويقررون قضايا الاعتقاد تقريراً حسناً من الناحية النظرية، ولكنهم من الناحية العلمية يفارقون ذلك لهوى أو لأي سبب من الأسباب، فمنهم من يكون يطلب الشهرة، فيأتي بالعجائب، والمفارقات والعظائم والشناعات والغرائب.
ومن هؤلاء من يحمله البغض والشنئان لطائفة أو لقوم لا يحبهم حسداً، أو لغير ذلك، إلى رد ومخالفة ما هم عليه، فيأتي بالعجائب والغرائب، وإذا أردت أن تعرف موقفه فانظر إلى حال من يبغضهم فستعرف أنه مباشرة هو في الطرف الآخر، ولاشك أن هذا انحراف، فالقضايا التي تقرر من الناحية النظرية شيء، والقضايا التي تقرر من الناحية العلمية أو التي يعمل بها شيء آخر.
ومنهم من يتطلع إلى العالمية، هو الناحية النظرية يقرر هذه القضايا، ولكنه من الناحية العلمية يخالفها، يتطلع إلى العالمية، فهو في زعمه أن يخاطب العالم على اختلاف مشاربهم، فهو يريد أن يكون مقبولاً عند سائر الطوائف من الرافضة والمعتزلة من العقلانيين، من الصوفية، من جميع الملل والأهواء حتى الكفار لا يريد أن يغضبهم، وأن يجرح مشاعرهم، فهو يتكلم بكلام فيه شيء من محاولة الإرضاء والاستمالة لجميع هذه الطوائف، فلا يضبط كلامه وعمله بميزان أهل السنة والجماعة، ولذلك تجد هذا الإنسان لربما يذهب إلى هؤلاء الضلال والمبتدعة في أماكنهم وفي منتدياتهم وفي محافلهم، ويجلس معهم، ويتحدث معهم، ويتخذ هؤلاء الأخدان والخلان، ويتصور معهم، ولا يجد في ذلك غضاضة بحال من الأحوال، على خلاف المفاهيم التي كان يقررها، وينظر إليها، وقد درسها، وتربى عليها، ونشأ عليها، لكن هو يقول: أنا أخاطب العالَم جميعاً، ولا أخاطب فئة محددة، لا أخاطب أهل السنة المحضة، وإنما أخاطب العالَم فلا بد أن يكون هذا الخطاب يستميل الجميع.
ومن هؤلاء من يكون موقفه بحسب من يطلب مرضاته، إذا كان يريد إرضاء العامة مثلاً فهو يتكلم بما يرضي العامة، وإذا كان في بيئة يميلون إلى التصوف لربما يتحول إلى صوفي، وإذا كان في بيئة تميل إلى المنهج العقلاني الاعتزالي فهو يميل إلى هذا المحنى، وإذا كان في بيئة السلطة مثلاً لا تفرق بين النصارى والمسلمين، وأن هؤلاء جميعاً من المواطنين، ونحو ذلك، فهو يتكلم عن النصارى بأنهم إخوانه، وأنه لا عداوة بيننا ولا مشكلة مع النصارى، وإنما تجمعنا الأخوة، نحن نجتمع في الإيمان بالله والنصارى من إخواننا، وكلاماً مثل هذا، وهكذا كل بحسبه.
فالعبد ينبغي أن يحرص كل الحرص على معرفة طريق أهل السنة والجماعة من الناحية النظرية، وأن يتربى على ذلك من الناحية العملية، وقد لا يستطيع أو يعجز عن القيام ببعض ما أمر الله لسبب أو لآخر، فيسعه السكوت، ولكن لا يسعه أن يتكلم بالباطل، وأن يلبس على الناس، وأن يتلون، فهو في كل مرة بلون ومذهب، فهذا لا يجوز ولا يصوغ بحال من الأحوال لمن أراد ما عند الله -تبارك وتعالى، والله -كما ذكرنا: لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:28]، نحن بحاجة إلى تقرير مثل هذه القضايا كثيراً، في مجالسنا، وفي دروسنا ومنتدياتنا، وفي الأنشطة التي تقام في المراكز الصيفية، وفي غيرها، تقرر هذه الموضوعات وتكرر؛ لأنه قد كثر التلبيس والتضليل.
وهذا المنهج الذي هو منهج أهل السنة والجماعة هو الذي يحارب في مثل هذه الأيام، وهو الذي ينتقص وتشن عليه الحرب الشعواء، وإن اختلفت المنطلقات التي ينطلق منها هؤلاء الذين يحاربونه، فينبغي أن يثبت العبد على أمر الله ، وعلى الحق الذي عرفه مما جاء الرسول ﷺ، وأن لا يزيغ عنه، وأن يعلمه غيره، ويتذاكر مع إخوانه في مثل هذه القضايا، وأن يسأل ربه التثبيت دائماً.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
- انظر: مجموع الفتاوى (4/ 10).
- شرف أصحاب الحديث، ص: (32).
- تحريم النظر في كتب الكلام، لابن قدامة، ص: (40- 41).
- شرف أصحاب الحديث، ص: (8- 9).
- مجموع الفتاوى (4/ 9- 10).
- أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب، باب قول النبي ﷺ: لتتبعن سنن من كان قبلكم، برقم (7320).
- مجموع الفتاوى (24/ 173).
- المصدر السابق (3/ 229).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، برقم (4557).
- الرد على الزنادقة والجهمية، لابن حنبل، ص: (6).
- أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، برقم (4682)، والترمذي، أبواب الرضاع عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في حق المرأة على زوجها، برقم (1162)، وأحمد في المسند، برقم (7402)، وقال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد حسن، رجاله ثقات رجال الشيخين غير محمد بن عمرو -وهو ابن علقمة بن وقاص الليثي، فمن رجال أصحاب السنن، وروى له البخاري مقرونا، ومسلم متابعة، وهو حسن الحديث، والحديث صحيح بمجموع طرقه وشواهده"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1230).
- اعتقاد أئمة أهل الحديث، ص: (79).
- المصدر السابق، ص: (7).
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضا، برقم (6026) ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، برقم (6750).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والأدب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، برقم (6751).
- مجموع الفتاوى (28/ 227).
- المرجع السابق (28/ 228- 229).
- انظر: مجموع الفتاوى (3/ 420).
- المرجع السابق (28/ 209).
- مجموع الفتاوى (28/ 51).
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، باب دعاء النبي ﷺ إلى الإسلام والنبوة، وأن لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، رقم: (2941)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي ﷺ إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، رقم: (4707).
- مجموع الفتاوى (4/ 50).
- الإبانة (2/ 503)، والسنة، للخلال(6/ 105).
- شرح أصول اعتقاد أهل السنة، للالكائي (1/ 144)، وذم الكلام وأهله، للهروي (5/ 69).
- الإبانة (2/ 508).
- أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ [البقرة:97]، برقم (4480).
- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص:52).
- مجموع الفتاوى (27/ 301).
- سير أعلام النبلاء (8/ 398).
- سير أعلام النبلاء (7/ 376)، وتذكرة الحفاظ (1/ 203).
- مجموع الفتاوى (11/ 15).
- إعلام الموقعين (3/ 283).
- المصدر السابق (3/ 283).
- لم أقف عليه.
- لم أقف عليه.
- ميزان الاعتدال (3/ 141).
- الموافقات (5/ 136-137).
- سبل السلام (1/ 251).
- تصنيف الناس بين الظن واليقين (ص: 43-44).
- مجموع الفتاوى (3/ 179).
- الصفدية، لابن تيمية (1/ 265).
- اقتضاء الصراط المستقيم(2/ 106).
- الجواب الكافي، ص: (366).
- أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، برقم (12695)، ابن المبارك في الزهد، برقم (695)، وابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق، (ص: 89)، برقم (270).
- سير أعلام النبلاء (8/ 448).
- منهاج السنة النبوية (5/ 175).
- جامع بيان العلم (2/ 152).
- أدب الطلب، ص: (61).
- المصدر السابق (61).
- مجموع الفتاوى (4/ 448).