بسم الله الرحمن الرحيم
الأسماء الحسنى
الحكيم 4
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعل هذا المجلس نافعاً، ومباركاً، وخالصاً لوجهه الكريم، وأن يعيننا وإياكم على ذكره، وشكره، وحسن عبادته.
لا زال الحديث عن أثر هذا الاسم الكريم (الحكيم) في الخلق، والشرع، والقدر، وشرعنا نتحدث عن آثاره في خلق الإنسان، وبقي من الحديث بقية.
وهذا المجلس -إن شاء الله- وهو المجلس الرابع في الكلام على هذا الاسم- هو المجلس الأخير الذي أختم به حديثي عن هذا الاسم العظيم، وهو استثناء في الحديث عن هذه الأسماء الحسنى، إذ إن كل واحد منها سيكون الحديث عنه منحصراً في مجلس واحد، كما عودتكم، ولكن هذا الاسم رأيت أن من المصلحة، والفائدة أن أبسط الحديث عنه بعض الشيء.
وقد ذكرت جملة من الأمور الشاهدة في خلقنا على حكمة الله -- في هذا الخلق، ولا بأس أن أضيف.
وتأملوا معي في خلق الإنسان، هذه العظام جعلها الله -تبارك وتعالى- قواماً للبدن، لو لم تكن لكان قطعة من اللحم، عاجزة عن الانتقال، والحركة، والتصرف، والتقلب في المنافع، والدفع، لا يستطيع أن يدفع عن نفسه قليلاً، ولا كثيراً؛ لأنه قطعة من اللحم ملقاة، لا قوة فيها، ولا تستطيع أن تتنقل من مكان لآخر، أو أن تتصرف في شيء من مصالحها، أو تدفع شيئاً من المضار عنها، لا يستطيع أن يقوم، ولا يستطيع أن يعمل.
ثم انظروا إلى خلقها بهذه المقادير، والأشكال المختلفة، فمنها الصغير، ومنها الكبير، ومنها الدقيق، ومنها الجليل، ومنها المنحني، ومنها المستقيم، ومنها المستدير، ومنها العريض، ومنها المُصمَت، ومنها المجوف.
كل واحد خلقه الله -تبارك وتعالى- على هيئة تتناسب مع وظيفته، فاختلفت أشكالها باختلاف منافعها، كالأضراس، وهي عظام، فلما كانت آلة للطحن كانت عريضة، ولما كانت الأسنان آلة للقطع كانت دقيقة، لا تجد الناس منهم من يولد وله أضراس في الأمام، وأسنان في الخلف، وإنما جعلهم الله على هذه الهيئة.
بينما تجد في الحيوان ما هو من ذوات الأنياب؛ نظراً لحاجته، وطبيعته، ومنه ما له أسنان، إلى غير ذلك مما هو معلوم.
ولما كان الإنسان بحاجة إلى الانتقال، والحركة، والتصرف ببدنه، وببعض أعضائه لم يجعله الله عظماً واحداً، ولو كان كذلك؛ لصار متصلباً، لا يستطيع أن يخطو، ولا يقوم، ولا يقعد، ولا يأخذ، ولا يعطى، بل جعله عظاماً متعددة.
لما كان الإنسان بحاجة إلى الانتقال، والحركة، والتصرف ببدنه، وببعض أعضائه لم يجعله الله عظماً واحداً، ولو كان كذلك؛ لصار متصلباً، لا يستطيع أن يخطو، ولا يقوم، ولا يقعد، ولا يأخذ، ولا يعطى، بل جعله عظاماً متعددة.
ثم انظروا إلى هذه العظام، قارن بين الأسافل، والأعالي، الأطراف السفلية، الأقدام، الأرجل، قارن ذلك بالأيدي، لما كانت الأطراف السفلية هي قوامنا -لأنها تحملنا- كانت قوية، غليظة، ولما كانت عظام الأعالي محمولة، لا حاملة لم تكن بتلك المثابة في الصلابة، والغلظ، والثخانة.
وهكذا جعل الله بين هذه العظام مفاصل؛ من أجل أن تتيسر الحركة، وقدّر كل مفصل من هذه المفاصل على حسب حاجته، والوظيفة المناطة به، وشد أسرها، وربط بعضها ببعض بأوتار ورباطات تتصل بهذه العظام، وتنبثق منها.
وجعل في هذه المفاصل في العظم الأول نتوءات، وجعل في العظم الآخر الذي يقابله تجويفاً؛ من أجل أن يتصل هذا بهذا، فلا ينفرط، ثم يتصرف الإنسان بناء على ذلك، ويتحرك.
وهذه التجاويف مع تلك الزوائد، والنتوءات متناسبة غاية التناسب، فالنتوء يقابله التجويف، لا تجد في ذلك خطأً، ولا خللاً، ولا تفاوتاً، كل ذلك؛ لأن الخالق -- حكيم، لا يخلق عبثاً، ولا يكون في هذه العظام شيء من تجويف، أو ميل، أو انحناء، أو غلظ، أو دقة إلا لمعنى، وحكمة بالغة.
فلولا أن الله -تبارك وتعالى- جعل لنا هذه المفاصل لم نتمكن من التحرك بجملتنا، ولم نتمكن من التحرك ببعض هذه الأعضاء.
انظروا اختلاف هذه المفاصل بحسب وظائفها، مفصل الورك جعله الله مستديراً؛ ليتمكن الفخذ من الحركة في عدة اتجاهات، تستطيع أن تحرك الرجل إلى الأمام، والخلف، وتقف بطرق متعددة، وتحرك رجليك وأنت واقف، وتستطيع أن تجري، وتتمايل في جريك.
ومن الناس من يستعمل ذلك في غير طاعة، أو في معصية، كالتي ترقص مثلاً حيث لا يباح لها الرقص، انظروا كيف جعله الله بهذه الصفة!.
بينما تجد المفصل الذي يكون في الركبة يختلف عن المفصل الذي يكون في أعلى الفخذ، المفصل الذي في الركبة لا يتيح لك الحركة إلا في اتجاهين، الأمام، والخلف، ولو كان يتيح لك الحركة في الاتجاهات الأربعة لسقط الإنسان، واضطرب في حركته، ومشيته، لكنه يتحرك بحسب المصلحة التي يقوم بها، وتتحقق بها الوظيفة المطلوبة منه.
تصور لو كانت المفاصل التي في الركب تتحرك يميناً، وشمالاً تجد الإنسان يسقط، يقع، إذا أراد أن يمشى اضطرب.
وهكذا إذا تأملت مفاصل العظم، المفصل أملس، بخلاف سائر العظام، فإن فيها خشونة، فجعله بهذه الملاسة؛ من أجل أن لا يكون هناك احتكاك.
ووضع بينها مادة لزجة؛ لتسهل الحركة، بمنزلة ما يوضع في الآلات في مفاصلها الحديد، والمعادن من الشحوم التي تمنع الاحتكاك، لكنه منع مؤقت، ما يلبث أن يتلاشى، ويضمحل، ويحصل الاحتكاك في تلك الآلات، ولو بعد حين، أما الإنسان فينشأ صغيراً إلى أن يشب، ثم يشيب، ومفاصله تتحرك، لا يجد في ذلك عنتاً حينما يتصرف فيها.
وجعل قوة محركة لهذه العظام، وهي العضلات، وهي مربوطة بالعظام، وكاسية لها، وكل عظم قد زود بعضلات تناسبه.
وتأمل أي عضو من أعضائك، ولا داعي للاسترسال، تأمل أي عضو، وانظر إلى الوظيفة المناطة به تجد أنه قد ركب بما يناسب تماماً، ما يحتاج إلى الغضاريف فقط وُضع له الغضاريف، كالأذن ما تحتاج إلى عظم، ووضعت في المكان المناسب، ووزعت من أجل أن يسمع الإنسان الأصوات، بينما جعل الرأس في الأعلى كالبرج، وجعل فيه الحواس الخمس، وجعل البصر في الأعلى، وجعل حول هذه العين هذا التجويف العظمي؛ من أجل الحماية.
وأسال في هذه العين عيناً ملحاً من أجل أن لا تنتن، ومن أجل أن يحصل الصقل، والتنظيف الدائم، قناة دمعية، فإذا حصل شيء من التراب زاد الإفراز.
وهكذا جعل حول هذه العين هذه الأهداب، وزينها بها، وكان ذلك حماية للعين.
وجعل الأنف بهذه الصفة، وجعله إلى أسفل من أجل أن لا يتلقى الهواء، والغبار، وما إلى ذلك مباشرة، فلم يجعله مفتوحاً إلى الأمام.
وانظر إلى الفم كيف زين بهذه الأضراس، والأسنان، وجعلت الشفة كاسية له، كما أنها مبدية للبيان، والنطق، والتبسم إلى غير ذلك من مشاعر الإنسان، العضو الواحد فيه وظائف.
وانظر إلى الأظفار كيف كانت زينة للأصابع، وكيف كانت الأصابع دقيقة حيث يستطيع الإنسان أن يتصرف فيها.
والحديث يطول عن تفاصيل هذه القضايا، لكن انظر، تأمل، وستجد أشياء كثيرة جدًّا.
انظروا الرقبة كيف ركبت بحيث يستطيع الإنسان أن يحركها، ويلتفت في اتجاهات مختلفة.
وانظر إلى الظهر كيف جعل على هذه الفقار من أجل أن ينحني الإنسان، ويقوم، ولم يجعله عظماً واحداً بحيث لا يستطيع أن ينحني، أو يميل.
وانظروا إلى حكمة الله البالغة، حينما يكون الإنسان مستلقياً، ويريد النهوض مباشرة إلى أعلى، فإن المظنون أن الدم ينزل مباشرة من الرأس إلى أسفل البدن، ثم يصيب الإنسان الدوار، والإغماء، لكن الله -تبارك وتعالى- جعل فيه خاصية عن طريق الشوارد التي تأتي مع الدم، فتصدر الأوامر، فتضيق الشرايين، فيبقى الدم متماسكاً في أعالي الإنسان، وإلا كان الإنسان يخلو رأسه من الدم حينما يقوم فجأة.
وإذا ضعف الإنسان، وتقدم به العمر، وضعفت تلك الوظيفة صار الإنسان لا يستطيع أن ينهض مباشرة، فينصحه الأطباء بالمكث، والجلوس على السرير بعض الوقت، ثم بعد ذلك ينهض.
وإذا انتقلنا للحديث عن خلق الله -تبارك وتعالى- في هذا الكون الفسيح فإننا نجد قضايا يعجز الإنسان أن يعبر عنها.
ومن مظاهر حكمة الله -- في التوازن في هذا الخلق البديع العجيب: أن أهل الفلك يقولون: لو كانت الأرض في حجم الشمس مع احتفاظها بكثافتها لتضاعفت جاذبيتها للأجسام التي عليها خمسة عشر ضعفاً، ولنقص ارتفاع الغلاف الجوي إلى أربعة أميال، ولأصبح تبخر الماء مستحيلاً، ولارتفع الضغط الجوي إلى ما يزيد على مائة وخمسين غراماً على السنتيمتر المربع الواحد، ولوصل وزن الحيوان الذي يزن حالياً رطلاً واحداً إلى مائة وخمسين رطلاً، ولتضاءل حجم الإنسان حتى صار في حجم السنجاب، صغير، بهذا الحجم، ولتعذرت الحياة، وتعطل العقل، الإنسان بهذا الحجم، فماذا عسى أن يكون له من العقل؟
وهكذا لو أن هذه الأرض ابتعدت عن الشمس لنقصت كمية الحرارة على الأرض، وعندئذ يحصل خلل في حركة هذه الأفلاك، وفي مدد سيرها، فيطول فصل الشتاء، وتتجمد الكائنات الحية على سطح الأرض، فقط لو اختل التوازن -الأبعاد-، وهكذا لو اقتربت الأرض من الشمس لارتفعت الحرارة، وتضاعفت، واختلت الفصول، وصارت الحياة على وجه الأرض مستحيلة.
وانظروا إلى هذا الغلاف الجوي الذي يحيط بالأرض، يمتد إلى ارتفاع خمسمائة ميل، وهو بهذا المقدار، والحجم الذي قدره الله -تبارك وتعالى- يبتلع ملايين الشهب، فتضمحل قبل أن تصل إلى الأرض، ولو كان أقل من ذلك لوصلت هذه الشهب إلى الأرض، وأحرقتها.
وهكذا جعل الله هذا الغلاف بهذا المقدار -بهذا الحجم- سبباً لحفظ درجة حرارة الأرض في الحدود الملائمة للحياة، ويحمل بخار الماء من المحيطات إلى مسافات بعيدة داخل القارات، يصير مطراً يحيي الله به الأرض بعد موتها.
وجعله الله موضعاً لحفظ الأكسجين الذي لا يمكن أن تكون حياة الإنسان، والنبات إلا به، وجعل الله هذا الأكسجين مقدراً بنسبة محدودة، واحد وعشرون بالمائة من الهواء.
يقولون: لو زادت هذه النسبة إلى أربعين بالمائة لاحترقت كل المواد القابلة للاحتراق، ولما استطاع الإنسان أن يطفئ حريقاً.
ولو قلت هذه النسبة إلى عشرة بالمائة لانتهت الحياة، يموت الناس، ولذلك تجد الإنسان إذا ارتفع إلى أماكن شاهقة تقل نسبة الأكسجين، فيحصل له شيء من ضيق النفس.
وانظر إلى الماء، وما جعل الله فيه من الخواص، فهو مادة الحياة، وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ الأنبياء:30، وجعل الله له درجة ذوبان مرتفعة، ويكون سائلاً لمدة طويلة، وله درجة حرارة، له حرارة تصعيد بالغة في الارتفاع، وهو يساعد على بقاء درجة الحرارة فوق سطح الأرض عند معدل ثابت كما يقول المختصون بذلك، ولولا أن الله هيأه، وجعله سبباً لذلك لما كانت الأرض صالحة للحياة.
وإذا نظرت في تصميم هذا الماء، وتركيبه، وطبيعته التي أودعها الله فيه، حيث جعل هذا الماء فيه خاصية: هو المادة الوحيدة -كما يقولون- المعروفة التي تقل كثافتها عندما تتجمد، الأشياء الأخرى إذا تجمدت زادت كثافتها، الماء تقل كثافته ولهذا يطفو إلى الأعلى.
المتوقع المظنون بادئ الرأي: أن الماء إذا تجمد فإنه يثقل، فينزل، لكن الله جعل فيه هذه الخاصية؛ من أجل أن يطفو، فيكون في الأعلى، فإذا وقع الجليد في الأماكن الباردة فإن هذه الطبقة تكون في الأعلى في البحار.
وكما تشاهدون في بعض البلاد، الناس يتزلجون عليها، ولربما نقروا فيها، وصاروا يصطادون السمك من تحتها، يمشون على البحر.
لو كان من طبيعته أنه يزداد في وزنه إذا تجمد لنزل الثلج، والجليد إلى قعر البحار، ثم بعد ذلك قضى على الحياة، حياة النبات، والحيوان، ولم يستطيع الحيوان أن يعيش في داخله، لكن جعله في الأعلى كالقشرة، يطفو، وتحته عالم من الحيوانات السارحة التي تنتقل، وتتصرف، وتتكاثر، وتتوالد، هذا من حكمة الله -تبارك وتعالى-.
وهكذا لو نظر الإنسان إلى التربة يجد أنها بيئة ثابتة لحياة كثير من الكائنات، فهي تحتوي على العناصر التي يمتصها النبات، ثم تتحول إلى ألوان من الثمار ذات الطعوم المختلفة، تضع الحبة فتخرج لك شجرة ذات ثمر، من أين تأخذ مثل هذا الغذاء؟
من أين تأخذ هذا النمو، وهي حبة؟
جعل الله في هذه التربة هذه الخواص.
وهكذا أودع فيها ألوان المعادن، وجعلها قريبة في متناول الإنسان، لا يحتاج أن يصل إلى ما تحت القشرة الأرضية، إنما يحفر شيئاً يسيراً في المناجم، أو في الجبال، ثم يستخرج ألوان المعادن التي يتخذ منها حليته، وآلته، ويحصل منها ألوان المصنوعات، والمنافع من المراكب، والأثاث، والمساكن، كل ذلك مشتق في أصله من التربة، كما نشاهد.
هذا البناء من أين جاء؟
في أصله الأحجار، الحديد، المعادن التي تزينه، أصل ذلك مشتق من الأرض، هذه المعادن مأخوذة من الأرض، مما أودع الله فيها، وبهذا تقوم الحضارة المادية، ويحصل العمران، وتأتلف المصالح، والمنافع لبني الإنسان، ويجد فيها أسباب القوة، وجعلها ممهدة مفروشة للإنسان، وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ الذاريات:48.
لو كانت قشرة الأرض أسمك مما هي عليه بمقدار بضعة أقدام، يقولون: لامتص ثاني أكسيد الكربون الأكسجين، ولما بقيت الحياة.
الشمس لو أعطت نصف الإشعاع الموجود حالياً لتجمدنا، ولو زادت النصف لاحترقنا.
القمر لو ابتعد عنا عشرين ألف ميل بدلاً من البعد الحالي لحصل المد في البحار، وغمرت اليابسة.
لو زاد الليل على ما هو عليه الآن عشر مرات، يقولون: لأحرقت شمس الصيف الحارة كل النباتات في النهار، وفي الليل يتجمد كل ما على وجه الأرض.
ولو جعل الله الماء لا يتبخر لربما انعدم المطر، واستحالت الحياة، وصارت الأرض قاحلة.
ولو كانت مياه المحيطات عذبة لتعفنت، لكن الله جعلها ملحاً، وذلك يبعد العفن عنها.
وهكذا محور الأرض جعل الله فيه ميلاً، فلو أنه اختل؛ يقولون: لتجمدت قطرات المياه المتبخرة من المحيطات، والبحار، ونزلت في مكانين محدودين في الشمال، والجنوب.
يقولون: لو كانت الأرض مثل عطارد لا يستقبل الشمس إلا من جهة واحدة فقط لصار النهار على جزء من الأرض سرمداً، والجزء الآخر يصير الليل عليه سرمداً، والحياة لا يمكن أن تكون بمثل هذا، وإنما يقلب الله الليل، والنهار في حركة دائبة يطلبه حثيثاً بانتظام، ودقة لا يسبق هذا هذا، ولا هذا هذا.
وهكذا لو أن الله لم يجعل قانون الجاذبية يقولون: لم تلتقِ الذرات، ولم تتكون المجرات، وانهارت العمارة في هذا الكون.
تصور لو ما في جاذبية، كيف يمشي الإنسان؟
وكيف يتحرك؟
وإذا ألقيت الأشياء، كيف تقع إلى الأسفل؟
يقولون: لو كانت الأرض صغيرة بحجم القمر مثلاً لعجزت عن احتفاظها بالغلافين الهوائي، والمائي، وصارت درجة الحرارة بالغة حتى الموت.
أما الحيوان في خلقه، وتدبير الله له فشأنه عجب، ذكر أهل العلم أشياء من هذا، الحافظ ابن القيم ذكر جملاً من ذلك([1])، وسأذكر بعضه في الكلام على أسماء الله (العليم)، و(الخبير)، و(اللطيف)، وسأتحدث عن أشياء عجيبة من هذا في الكلام على اسم الله (الهادي)، لكن هنا أذكر بعض ما يناسب المقام.
السمك هو من أكثر الحيوان نسلاً، وذلك -والله تعالى أعلم- أنه مادة للغذاء لحيوانات البحر -على كثرتها، وتنوعها-، وهو مادة لغذاء الإنسان، وهو مادة أيضاً لبعض الحيوان الذي يعيش في البر، حتى السباع إذا جاعت جاءت إلى البحر، ورصدت على سيفه حتى تصطاد ما تظفر به من حيوانات البحر.
انظر إلى هذا الجراد، الدويبة الضعيفة، سلطه الله على فرعون، وقومه، فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَالأعراف:133، إذا جاء فإنه يسد الأفق، ويحجب الشمس، وإذا نزل في مكان فإن الناس أضعف من أن يدفعوه على ضعفه.
دويبة صغيرة لا تستطيع أن تدفع عن نفسها شيئاً، يعجز الإنسان بما أوتي من قوة، تعجز الجيوش الجرارة عن دفع هذه الدواب، فإذا نزلت في ليلة، في أرض انقشعت عنها وهي جرداء، حتى النخيل يصبح الناس ويجدون مزارعهم ونخيلهم عُسباً بلا جريد، عسيب، في ليلة واحدة تأكل بلا توقف، وتملأ ما على وجه الأرض، وتصبح النباتات مكسوة بالجراد، يرسله الله على من يشاء من عباده؛ ليُري العباد ضعفهم بأضعف خلقه.
وهكذا إذا نظرت إلى الحشرات مثلاً فهي تتكاثر بصورة عجيبة، ولكن الله وضع لها ضوابط لا تستطيع أن تتجاوزها، فتقف عند حد، ثم تموت، لم يجعل لهذه الحشرات رئة، ومن ثم لم تكن قابلة للنمو أكثر من القدر الذي حدده الله لها، إنما جعل لها أنابيب تتنفس عن طريقها، فإذا نمت هذه الحشرات لم تستطع تلك الأنابيب أن تتمدد أكثر، وتتسع، ومن ثم فإنها تقف عند حد، ثم تموت.
لو كانت تتسع، وكانت لها رئة، فصارت هذه الحشرات تنمو لصارت البعوضة كالنسر، وصارت الجعلان بقدر الأفيال، ولما استطاع الإنسان أن يعيش على وجه الأرض.
وهكذا أيضاً انظر إلى هذا التوازن في هذا الخلق، في أستراليا قبل سنين زُرع نوع من الصبار، كسياج وقائي، فصار هذا الصبار ينتشر بطريقة سريعة، عجيبة حتى غطى مساحة تقرب من مساحة إنجلترا، وزاحم الناس، وأتلف مزارعهم، ولم يجد الناس وسيلة إلى صد هذا الجيش الكاسح من النبات، فهو يغزوهم، ويمتد على أراضيهم بصمت، فطاف علماء الحشرات في العالم، يبحثون عن حشرة تقاومه، فوجدوا حشرة لا تعيش إلا على الصبار، لا يريدون أن يأتوا بحشرة تتكاثر، فتأكل باقي النباتات، فيجتمع الصبار مع الحشرات، لا، وجدوا حشرة تقاوم الصبار فقط تأكل الصبار، تتغذي عليه، فأتوا بها، وهي سريعة الانتشار أيضاً، فتغلبت عليه، فلما بقيت منه بقية محدودة تلاشت، وتراجعت هذه الحشرة، فلم يبقَ منها إلا القليل، حكمة الله في هذه المخلوقات.
وانظروا إلى هذا المثال العجيب أيضاً: في بعض الجهات الجنوبية الغربية من الولايات المتحدة كان يعيش نوع من الأيِّل، يقال له: أيِّل البعم، يتغذى على نوع من الورد البري، وكان في تلك الناحية أسد الجبل الذي يتغذى على هذا الأيِّل، فكانت نسبة هذه الأسود متناسبة مع نسبة هذا الأيل، فتدخل الإنسان، قاموا بقتل كثير من تلك الأسود، فتكاثر ذلك النوع من الأيل جدًّا، ثم لم يجد ما يأكله من تلك الورود، أفناها، وأكلها، ثم بعد ذلك تحول إلى بعض الأشجار الصغيرة حتى أفناها، ثم بعد ذلك مات بكميات كبيرة حتف أنفه من الجوع.
في السابق ما كان يموت، كانت تأكله تلك الأسود، فكانت المعادلة متناسبة، ولكن لما اختلت حصل هذا الموت الجماعي لهذا النوع من الحيوان.
وهكذا انظر إلى حال هذه الحيوانات، الحيوانات المفترسة: تجد الفم تتشكل فيه الأنياب، والأرجل قد زودت بعضلات قوية، ومخالب حادة؛ من أجل الهجوم، وهي مستعدة للجري، وأما المعدة ففيها أحماض، ومواد هاضمة للحوم، لا توجد في الكرش مثلاً الذي يكون للحيوان الذي يتغذى على النبات.
الحيوانات التي تأكل في المرعى صممت بما يتناسب مع حالها، الفم واسع نسبيًّا، ليس فيها أنياب كالسباع، إنما أسنان للقطع؛ لأنها تأكل النباتات، والحشائش، فتنزل إلى جهاز الهضم، تنزل إلى الكرش، مستودع؛ من أجل أن لا يبقى، هذه الحشائش تحتاج إلى وقت لتتخمر، ويفرز عليها بعض المواد؛ من أجل أن يسهل هضمها، والحيوان يحتاج إلى وقت في هذه العملية، فيتعطل عن المرعى، لكن الله قد هيأه، يذهب، ويلتهم من هذه النباتات، ثم ما الذي يحصل؟
هذا الكرش هو عبارة عن مخزن، فإذا رجع إلى موضعه بعد الرعي صار يجتر ما أكله في النهار، فيلوكه ثانيةً حتى يصير مهيأً صالحاً للهضم.
انظر كيف أن الله قد جعلها بهذه المثابة، تخرج إلى المرعى تسرح، وتأكل أكبر قدر تستطيعه، ثم تتفرغ له في المساء، فتعيده ثانية، فهذا كله من حكمة الله -تبارك وتعالى.
يقولون: لأن الأعشاب من النباتات عسرة الهضم؛ لأنها تحتوي على ألياف، وتحتاج إلى مضغ شديد، وهذا سيتطلب وقتاً طويلاً، تفوت مصلحة الراعي، يمضي النهار، وهي لم تأكل شيئاً يذكر.
وانظر إلى أرجلها، أرجل هذه الحيوانات التي تكون مهيأة للجري، تجد قوائمها دقيقة، كالغزال مثلاً، والتي قد هيئت للحمل تجد لها حوافر قوية، وقوائم قوية في غاية الصلابة.
البقر، الجاموس قوائمها قصيرة، غليظة، لها أظلاف في غاية الصلابة، مشقوقة؛ لتساعدها على السير في الأراضي الزراعية، تجر المحراث، ونحو ذلك، بينما تجد الجمل؛ لأنه يسير في الرمال، لم تُجعل له هذه الحوافر؛ لئلا تغوص أقدامه، فيصعب عليه الحركة، والمشي، وإنما جعل له الخف، وجعلت تحته وساده لينة من الجلد، واللحم، فلا يغوص في الرمال، وجعلت لهذه الأطراف أربطة قوية، مشدودة من جلد خشن تحميه من الحصى، والرمال عندما يبرك.
انظر إلى الطيور التي تتغذي على اللحوم، الصقور، والنسور إلى آخره تجد لها مخالب حادة، منحنية تساعد على القبض على الفريسة، أما التي تتغذى على الحبوب كالدجاج مثلاً والحمام فأقدامها لها أظافر مدببة تصلح للنبش في الأرض، لا لصيد الفرائس.
الطيور التي تحتاج إلى البحث في الماء عن غذائها جعلت لها أغشية بين الأصابع من أجل أن تطفو كالجدافات، وهذا لا يكون لغيرها مما لا يعيش، أو لا يزاول عمله في الماء.
وهكذا تجد الحيوانات الثديية لها حاسة شم قوية جدًّا؛ لأنها تعرف غذاءها، وطعامها، وشربها عن طريق حاسة الشم، أما البصر فلا يوازي الشم، وجرب هذا، والذين يعرفون الصيد، يصيدون الظباء، ونحو ذلك، هم يدركون أن الظبي يدرك أن أحداً من الناس عند الماء الموجود هناك من بعيد، ولو كان مختبئاً، يدرك هذا، ولذلك يضللونه بوضع آثار من الإنسان مما يلبسه غترة مثلاً، أو نحو ذلك في نواحٍ أخرى للتضليل؛ لأنها تجد الرائحة، وهكذا الحيوانات المفترسة تتبع حاسة الشم حتى تقع على فريستها.
والجمال إذا كانت في حال من العطش، لو أنك أتيت بكأس الماء هذا من بعيد، بينك وبينها أربعة كيلو مترات، أو نحو ذلك تراها من بعيد أمثال الذر، لو معك كأس من الماء لجاءت إليك تعدو في غاية الإسراع؛ لأنها وجدت الماء، الله هيأها، وركبها، وعلمها، فهو الحكيم -.
أحدهم يمشي على حافة جبل، جبل فيه حافة منحوتة على فرس، ثم بعد ذلك وصل إلى مكان مسدود، والمكان ضيق جدًّا، وتحته هوة سحيقة، ولا يستطيع أن يميل بالفرس ليرجع، ولا يستطيع الفرس أن يرجع إلى الوراء، فتحير ماذا يصنع؟
فهداه الله إلى مخرج، فترك للفرس لجامه ليتصرف بنفسه، يقول: فجمع قوائمه في نقطة واحدة -هذا واقع، حصل-، ثم بعد ذلك بدأ يلتف والقوائم لم تنتقل، يلتف، حتى استطاع أن يستدير، ورجع من نفسه.
والناس الذين كانوا يسافرون على الجمال إذا أدركهم العطش الشديد، أو الجوع، أو تاهوا في الصحراء، وخافوا الهلكة، أو فني ما معهم من الطعام، كانوا يربطون أنفسهم على الجمال، ثم يتركونها، فترد بهم أحياء، أو أموات، هي تذهب، وترد، ولو بعد حين بحسب بعد المسافة، إذا ترك لها المجال عرفت أين تتجه، لكن الذي لربما يربكها هو الإنسان، يحملها على السير في طريق قد لا يكون هو الصحيح.
انظروا إلى ما ذكره بعض أهل العلم في الحشرات، حشرات تتكاثر جدًّا، وتظهر في أواخر الربيع من كل عام، فقس البيض الذي كان من السابق، أو من شَرنقة كانت تضمها في الشتاء، مثل القش عليها، أو النسيج، فتخرج، تكون كثيرة، وفي الوقت نفسه تكون صغار الطيور قد خرجت من بيضها، واحتاجت إلى الغذاء، فيقوم أبواها بجمع الحشرات لها؛ لتتغذى عليها، فيحصل التوازن، تكثر الحشرات في هذا الوقت الذي يحتاج فيه صغار الطيور إلى الغذاء، فتتغذى على الحشرات، فهذا خلق الله --، وحكمته البديعة في هذا الخلق.
أثر الإيمان بهذا الاسم على المؤمن:
إن المؤمن يتعبد لربه بهذه الأسماء الكريمة، ويدعوه استجابة لقوله -تبارك وتعالى-: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَاالأعراف:180.
وهذا الدعاء: دعاء مسألة، ودعاء عبادة.
دعاء المسألة: كما جاء في حديث سعد قال: جاء أعرابي إلى رسول الله ﷺ، فقال: علمني كلاماً أقوله، قال: (قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، سبحان الله رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم)، قال: فهؤلاء لربي، فما لي؟ قال: (قل: اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وارزقني)([2]).
أما دعاء العبادة: فيدخل تحته تفاصيل كثيرة، عبادة القلب، واللسان، والجوارح، ولو أردنا أن نقسم هذا بحسب متعلقات الحكمة: إذا شهد العبد حكمة الرب -- في الخلق، والصنع فإن ذلك يثمر محبته، وإجلاله، وتعظيمه، هذه الأشياء، والأمثلة التي ذكرناها قبل قليل ما الذي يحصل بالنسبة إلينا إذا عرفنا هذه الأشياء؟
هذا الخلق، بعد الشمس، وبعد القمر، وحجم الشمس، والهواء، والأكسجين إلى آخره، هذا التوازن العجيب، هذه الأرض التي هيأها الله لمصالح الإنسان؟، يثمر محبة الله، تعظيم الله وإجلاله، وأن يستعمل الإنسان هذه النعم، سواء كان ذلك في بدنه، أو كان فيما حوله بما أعده الله له، فلا يتخذ ذلك سبيلاً إلى الإفساد في الأرض، ومعصية الله -- والله يقول: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِالروم:41.
وهذا الفساد يشمل الذنوب، والمعاصي، ويشمل ما يحصل من النقص، والتلف، والتغيرات التي تضر بعافية الإنسان، والحيوان بسبب ما كسبت أيدي الناس، بسب تصرفاتهم، ومزاولاتهم الخاطئة، وبسبب ذنوبهم أيضاً.
وهكذا إذا شهد العبد آثار هذه الحكمة في التشريع، والأمر، والنهي الديني، هذه الشريعة التي جاءت لحفظ مصالح الإنسان المتنوعة، الضروريات: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، شرع الله له ما يحفظ هذه المصالح من جانب الوجود بإقامة أركانها، ودعائمها، ومن جانب العدم بحفظها من كل ما يعتورها، ويؤثر عليها بنقص، أو تلف.
وانظروا إلى الحدود جميعاً، كلها جاءت لحفظ الضروريات من جانب العدم، يعتدي على الدين، (من بدل دينه فاقتلوه)([3])، حد المرتد.
والذي يعتدي على النفوس: القصاص، والذي يعتدي على العقول: حد المسكر، وقل مثل ذلك فيمن يعتدي على المال بالسرقة، تقطع يده.
ثم يلي ذلك الحاجيات، وهي سياج على الضروريات، وهي ما لو عدم للحق الناس الحرج، وأما الضروريات فلو عدمت لصارت حياة الناس في تهارج.
ثم التحسينيات، وهي ما يقيم للناس مروءاتهم، وكرامتهم، ويحفظ ماء وجوههم، ويحملهم على الأليق، والأرفع، والأشرف، والأحسن، والأجمل، على مكارم الأخلاق، وعلى أحسن الأحوال.
انظر ما يتصل بالأعراض مثلاً، الذي يواقع الفجور يقام عليه الحد، الذي يتهم المحصنات في أعراضهن مثلاً، أو المحصنين يقام علية الحد، تبقى الأعراض مصونة، وجعل تصريف هذه الغرائز التي أودعها في الإنسان لبقاء النسل بطريق مشروع، بالنكاح، وجعل هذا النكاح بطريقة تحفظ للمرأة ماء وجهها، وكرامتها بحيث لا تبدو أنها متطلعة للرجال، فيلي ذلك نيابة عنها وليها، وتبقى في حفظ، وصيانة بعيداً عما يخدش.
وتعطى المهر، كما يكون ذلك في مقابل ما استحل من بضعها، وينفق عليها لزوماً، وقبل ذلك ينفق عليها وليها من أب، أو أخ، أو نحو ذلك، فلا تضيع.
وإذا طلقها فإنه يعطيها متعة؛ جبرا ًلخاطرها، بحسب ما هو فيه من حال غنى، أو فقر، وأمَرَ بالمعاشرة بالمعروف، إلى آخر ذلك.
إذا نظرت إلى جانب واحد فإنك تستغرق أوقاتاً في توصيف هذه الأمور، إذا نظر إليها الإنسان، واعتبر فإنه يحب الله، ويعظمه، ويعظم شرعه، ولا يعترض على شيء من ذلك، وإن خفيت عليه حكمته فليسلم؛ لأنه يطمئن أن الله حكيم بما شرع.
وجعل قوامة المرأة للرجل، وهذا الرجل هو الذي يصونها، ويحوطها، ويحفظها، ويكلؤها، ويرعاها، ويحميها، فالذي أمر بهذا حكيم؛ لأن ذلك يصونها؛ ولأن هذا هو الطريق للحفظ، والصيانة، والعفاف.
ونهاها أن تسافر من غير محرم، ونهاها عن الخلوة، ونهاها عن الاختلاط بالرجال، كل هذا من أجل حفظ المرأة، وصيانة المرأة، فالشارع حكيم، لا أحد يعترض، أو يقول لماذا؟
لماذا الرجل يتزوج أربعًا، والمرأة لا تتزوج أربعة؟
سؤال بارد؛ لأن الشارع حكيم.
وهكذا لماذا لا تكون القوامة للمرأة على الرجل؟
من أجل ألا يحصل خراب العمران، والبوار، والدمار على جنس البشرية، وهكذا فالله حكيم، وإذا خفيت على الإنسان الحكمة فإنه يذعن، ويسلم، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْالأحزاب:36، فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثم لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًاالنساء:65.
ولهذا تجد كثيراً من الأحكام تختم بهذا الاسم الكريم، وغالباً ما يكون مقروناً مع العلم، يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءًالنساء:11، إلى أن قال: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا النساء:11، لما قال: المرأة لها نصف الميراث عن علم، وحكمة لماذا؟
نقول -مما يبدو لنا من هذا العلم، وهذه الحكمة-: المرأة هي آخذة دائماً، والرجل يدفع دائماً، الرجل هو الذي يدفع المهر، والمرأة تأخذ المهر، الرجل هو الذي يجب عليه النفقة، المرأة هي التي تتلقى النفقة، ولو كانت غنية يجب عليه أن ينفق عليها، لو كان راتبه خمسة آلاف، وهي تملك خمسة مليارات يجب عليه أن ينفق عليها.
وهكذا إذا مات ورثته، فهي آخذة دائماً، تجمع، وليس عليها مسئوليات كالرجل، الرجل يحتاج أن يجمع من أجل أن يتزوج، يدفع المهر، ويحتاج من أجل النفقة، ويراعي، ويحاسب، فهو يبذل، والمرأة تأخذ، فهل من العدل أن يسوى بين هذا، وهذا؟
أبداً،إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا النساء:11، و24، والأحزاب:1، والإنسان:30، وهكذا في قوله: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ النساء:24، في المحرمات من النساء لما ذكر المحصنات، حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ النساء:23 إلى آخره، ثم قال: وَالْمُحْصَنَاتُالنساء:24؛ يعني: مما حرم عليكم ذوات الأزواج، إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ، إلى أن قال: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًاالنساء:24.
وهكذا في القتل الخطأ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا، إلى أن قال: وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًاالنساء:92.
وهكذا في الشقاق بين الزوجين، وسوء العلاقة، والطلاق، وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا النساء:130.
ما تضيع المرأة إذا طلقت، الرزق بيد الله، بيده خزائن السموات، والأرض، يرزق الحيتان في وسط البحر، يعلم مكانها، ويرزقها، وهكذا قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ التحريم:2، تختم هذه الآيات بهذه الأسماء لمعنى.
فشرعه -تبارك وتعالى- مبني على الحكمة، فيجب أن يقابل بالرضا، والتسليم الكامل؛ ولهذا يذكر الحافظ ابن القيم هذا المعنى، ويشرحه، ويبين: "أن مبنى العبودية، والإيمان بالله، وكتبه، ورسله على التسليم، وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر، والنواهي، والشرائع"([4]).
كل شيء يريد أن يعرف لماذا؟
سوء أدب مع الله -.
كل قضية يريد أن يعرف لماذا؟
فأين التسليم، وأين الثقة بالله -؟
لهذا يذكر ابن القيم -رحمه الله-: "أن الله -سبحانه- لم يحكِ عن أمة نبي صدقت نبيها، وآمنت بما جاء به أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به"([5]).
كلما قال لهم شيئًا قالوا: ما السبب؟ نريد أن نعرف الحكمة!.
هذا إنما يوجه السؤال فيه لمن لا يوثق به، تخشى أنه مخطئ، أنه غلطان، أن القرار في غير محله، أنه حصل سهو، أنه حصلت حسابات غير صحيحة، أما الله -تبارك وتعالى- فهو عليم حكيم، ولو فعلت الأمة ذلك صارت تنقب في كل قضية، تقف، ما الحكمة في هذا؟ لماذا؟
لم تكن مؤمنة، وإنما أذعنوا، وسلموا، فما عرف من الحكمة أخذ، وما لم يعرف فلا يتوقف الإنسان في الاستسلام، والانقياد، بل ينقاد، ويرضى، ويسلم، ولا يتوقف ذلك على معرفته تفاصيل الحكم في كل الأشياء.
كانت تلك الأمم من أهل الإيمان الذين قص الله قصصهم هم في غاية الاستجابة، والتسليم، والرضا، والإذعان، وينقل من الإنجيل: "يا بني إسرائيل لا تقولوا: لم أمر ربنا؟، ولكن قولوا: بم أمر ربنا؟
لا تقل لماذا؟
قل: بماذا أمر؟، من أجل أن نعمل، ونمتثل، ونطبق، وهذه الأمة هي أكمل الأمم عقولاً، ومعارف، ولم تسأل نبيها ﷺ عن تفاصيل الحكم.
والصحابة لم يسألوا في كل قضية، ويقولوا: لماذا يا رسول الله هذا؟
وإنما استسلموا، وآمنوا، وانقادوا، وأوجب لهم ذلك تعظيم الله --، التعظيم اللائق، وهذا لا يمكن إلا بتعظيم أمره، وشرعه، فعلى قدر تعظيم العبد لله -- يكون تعظيمه لتشريعه، ودينه، وأمره، ونهيه، وإذا ضعف تعظيم الله ضعف تعظيم الأمر.
حينما يصدر الأمر من أعلى سلطة يكون له من المهابة، والمنزلة ما لا يكون حينما يصدر من سلطة لا يعتبرها من وُجه ذلك إليه.
وقد ذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- أن أول مراتب تعظيم الأمر: التصديق به، ثم العزم الجازم على امتثاله، ثم المسارعة إليه، والمبادرة به، ثم بذل الجهد، والنصح في الإتيان به على أكمل الوجوه، ثم فعله لكونه مأموراً به، فالذي يتوقف من أجل أن يعرف الحكمة لا يكون معظماً على الحقيقة، إن ظهرت له امتثل، وإن خفيت عليه عطله، يقول: فهذا من عدم عظمته في صدره، بل يسلم لأمر الله، وحكمته، ممتثلاً ما أمره به، ظهرت الحكمة، أو لم تظهر([6]).
ومما يورثه شهود آثار الحكمة في الأقدار: الرضا بالقضاء، والتسليم، والإذعان لما يجريه الله على الإنسان من الأقدار، ولو كانت مؤلمة، ولا يعترض، ولا يقول: لماذا يا رب؟، ولا يصدر منه ما ينبئ عن سوء ظن بربه، لماذا كان فقيراً؟
أو لماذا ابتلاه بهذا المرض؟
أو لماذا ابتلى أولاده بكذا؟
الله حكيم عليم، فيورثه ذلك فوق الرضا شكراً، إضافة إلى الصبر، فالإنسان لا يعلم العواقب، وقد يكره شيئاً وهو عين الخير له، وقد يحب شيئاً وهو عين الشر له.
فإذا كان الإنسان يعترف أن نظره قصير، وأن علمه محدود، وأنه لا يعلم إلا شيئاً قليلاً، يسيراً مما حوله، والله علمه محيط بكل شيء، ولا يقضي قضاء إلا كان خيراً للمؤمن فإنه يرضى؛ لأن الله اختار له ذلك عن علم به، وعن حكمة، يضع الأمور في مواضعها، ويوقعها في مواقعها.
تصور لو أنك كنت في مكان في الأرض -مثال في الأشياء المحسوسة-، وهبت رياح، هب غبار، تظن أن الكون بهذه الطريقة، بينما لو أحد يسير بطائرة من أعلى ربما يجد أن هذا الغبار وهذه العواصف هي فقط في محيط قليل قصير وهو الذي أنت فيه.
الإنسان أحياناً يصادف مكاناً، في طريق، في سيارات، على أقدامه، زحام، لا يستطيع أن يتحرك، ولربما يكون المخرج من الزحام قريباً جدًّا، وأن الزحام فقط في المكان الذي هو فيه، وهو لا يعلم، يظن أن هذا هو نهاية المطاف
الإنسان أحياناً يصادف مكاناً، في طريق، في سيارات، على أقدامه، زحام، لا يستطيع أن يتحرك، ولربما يكون المخرج من الزحام قريباً جدًّا، وأن الزحام فقط في المكان الذي هو فيه، وهو لا يعلم، يظن أن هذا هو نهاية المطاف
، وأن الدنيا أغلقت في عينه، لكن من ينظر من أعلى يجد أنه يغرق -كما يقال- في فقاعة، أو في فنجان.
إنسان يعيش في مكان، هذا المكان فيه جبال، وفيه، وفيه، يظن أن كل ما حوله هكذا، لكن الذي ينظر من أعلى، أو يمر بطائرة من مكان مرتفع جدًّا، أو ينظر إلى الكرة الأرضية عن طريق جوجل مثلاً يرى هذه النقطة -التي لا تظهر في الخريطة- التي يعيش فيها، بينما ما حولها أشياء تختلف، هنا سهول، وهنا بحار، وهو لا يعرف إلا هذه البيئة التي نشأ فيها، وفتح عينيه على هذه التضاريس.
الإنسان نظره محدود، فكيف بما هو فوق ذلك مما يجريه الله من الأقدار، ويحصل للإنسان؟، لا نعرف مصالحنا، والله -تبارك وتعالى- أعلم منا، فحتى تستريح، ونستريح تذكر هذا المعنى: كل ما ساقه إليك ما ساقه إلا وهو يعلم، اختاره لك، وهو حكيم في هذا الاختيار، ولهذا كما قلت لكم في مناسبة سابقة: إن أولئك الذين لربما يتبرمون من حالهم، أو من مصيبة وقعت بهم، أو أظلمت الدنيا في أعينهم، وجِّه لهم بالعادة سؤالاً يسيراً، قصيراً: هل تظن أن اختيارك خير من اختيار الله لك؟.
كلهم يجيب: لا، حاشا، وكلا.
إذن لماذا لم ترضَ، والله قد اختار لك هذا؟
ارض به.
الله -تبارك وتعالى- عليم، حكيم، وبهذا أيضاً يستريح الإنسان من كثير من المشكلات، الحسد، والغل، والشحناء، وإلى آخره.
هذا غني، وهذا فقير، هذا يحسد هذا، هذا أعطاه الله عقلاً، وهذا لم يعطه عقلاً، هذا أعطاه علماً، وهذا لم يعطه علماً، فهذا يحسد هذا أحياناً، فهذا لو علم أن الله هو الذي قدر هذه الأمور، وقلب الخلق فيها؛ ليبتليهم بما أعطاهم، ولا يحاسبهم بأكثر مما أعطاهم فإنه يرضى، ويسلم، ويستريح قلبه من هذه الخواطر، والأمور التي تعتلج فيه، لماذا أنا أعيش في حرمان؟
لماذا أنا لا أستطيع أن أدخر شيئاً أجد منه ما يكفي لسكنى دار، أو بنائها، أو نحو ذلك، وآخرون لربما بمكالمة واحدة تأتيهم الملايين؟.
نقول: الله عليم، حكيم، يعلم مكانك، وقدر لك ما قدره عن علم تام، وحكمة تامة، فهل عندك اختيار أفضل من اختيار الله لك؟.
الجواب: لا.
إذن ما عليك إلا أن ترضى، وتسلم، ولا تنظر إلى زيد، وعمرو لماذا هم أفضل مني؟!
وفلان يعيش في قصر، وأنا أعيش في شقة؟!
وفلان معافى؟!
وفلان زوجته أفضل من زوجتي؟!
دعك من فلان، وعلان، اشتغل بما أنت بصدده من عبادة الله والله يبتليك؛ ليرى عبودية الرضا، وأنت مشغول عنها بزيد، وعمرو، فهذه غفلة، وخروج عن المقصود، لكننا في كثير من الأحيان لا نفكر بطريقة صحيحة، نفكر لكن في الطريق غير الصحيح.
يشغل الإنسان تفكيره في أمور تعود عليه بالألم، والحسرات، لكن لو وجه تفكيره إلى ما ينفعه، حتى في الأشياء العادية أحياناً يكون التفكير في المشكلة بطريقة سلبية، هذا خروج عن الموضوع.
التفكير بالمشكلات لحلها هذا جيد، لكن بعض الناس لا، يفكر؛ ليجتر المشكلة مثلما ذكرت لكم عن البهيمة التي تجتر الطعام من أجل أن تهضمه، فهذا يجتر الآلام، والمصائب، والمشكلات؛ ليعود على نفسه بالكآبة، فيكتئب، وكلما سلا، ونسي بدأ يعاود التفكير؛ ليستعيد شريط الذكريات المؤلمة، فتتنغص عليه حياته، فيتكدر عيشه، وتنقلب راحته، ولذته، وسروره إلى آلام، وأحزان، وهذا خطأ، والله المستعان.
والحياة قصيرة جدًّا، يحتاج الإنسان أن يعرف فيها أن ما ليس بيده، ولا يملك مدافعته من الأقدار أن الذي يصرفه عليم، حكيم، وأن هذا التشريع قد وضعه أعلم العالمين، وأحكم الحكماء، فما عليك إلا أن تعمل به، وتترك الأقدار التي لا تستطيع أن تدافعها، تترك ذلك، وتسلم وترضى، ويرى الله -- منك السرور بمعرفته، والإقبال على طاعته.
هذا، والله -تعالى- أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.