- الحقيقة الشرعية لألفاظ الشارع
- دلالة لفظ الإيمان على الأعمال في الحقيقة الشرعية
- طريقة أهل البدع في الاعتماد على العقل واللغة دون الكتاب والسنة
- الأمر عند الإطلاق والاقتران
- عبارات السلف عن الإيمان
- لفظ الإيمان عند الإطلاق
- الإيمان الباطن لا يزول بمجرد الذنوب أو الابتداع
- الناس متفاوتون في الإيمان
- وجوه زيادة الإيمان
- العمل بمقتضى العلم أكمل من العدول عن الخطأ
- المؤمن الذي الذي يلحقه مدح وذم
- تفسير الألفاظ الشرعية على ثلاثة أنواع
- الدين الاستسلام المطلق وبقية الأركان الخمس ثم ما وراء ذلك من الواجبات
- من الإيمان ما يؤمن به بعض الناس دون غيرهم
- فضل الله على من يشاء من عباده بتهيئة الأسباب
- اجتماع الإيمان والنفاق في النفس الإنسانية
- مواطن أصول الدين وقواعد الإيمان التي اتفق عليها المنتمون للإسلام
- النزاع بين أهل الحق وأهل البدعة ليس كالنزاع بين أهل الحق فيما بينهم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فاللهم اغفر لشيخنا، ولنا، وللحاضرين.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله: "الظلم المطلق يتناول الكفر، ولا يختص بالكفر" يعني: أنه يدخل فيه الظلم الأصغر والظلم الأكبر، كما قال الله -تبارك وتعالى-: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 22، 23]، فهذا في الكفار، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254]، وقال: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13]، فالظلم يقال للشرك، وللكفر، فظلم أصغر وظلم أكبر كما هو معلوم.
وقال: "وكلٌّ بحسبه كلفظ الذنب" فالكفر ذنب، والكبيرة ذنب، والصغيرة ذنب، والخطيئة كما قال الله : بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 81]، والخطيئة التي تحيط بصاحبها فتورده النار، ويكون من أهل الخلود فيها إنما هي الكفر -الشرك- بالله -تبارك وتعالى- وهكذا المعصية أيضًا، فإن هذا يتناول الكفر والفسوق والعصيان، كل ذلك داخل فيه، والسياق يبين ذلك، وقد جاء في الصحيحين عن ابن مسعود : "قلت يا رسول الله، أي: الذنب أعظم؟ -فهو يسأل عن الذنب- قال: أن تجعل لله ندًّا وهو خلقكفهذا هو الكفر والشرك، فسماه ذنبًا، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك فأطلقه هنا على كبيرة من كبائر الذنوب، إلى آخر الحديث.
الصلاح إذا أُطلق يدخل فيه كل ما يمكن أن يدخل تحت هذه الحقيقة الشرعية؛ فالإيمان والدعوة إلى الإيمان صلاح، والدعوة إلى إقامة الشعائر الدينية صلاح، وفعل ذلك صلاح، والدعوة إلى مكارم الأخلاق صلاح، والتحلي بها صلاح، وهكذا.
فيدخل في ذلك شعب الإيمان التي أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، فأعظم الصلاح والإصلاح التوحيد والدعوة إلى التوحيد، ونبذ الشرك، وعبادة غير الله وتقدست أسماؤه، وهكذا الفساد، فرأس الفساد هو الشرك والكفر بالله ، ويدخل ويتفرع من شجرة الفساد -شجرة الشرك-: الكبائر والصغائر، والإفساد يدخل فيه الدعوة إلى الشرك، ويدخل فيه أيضًا الدعوة إلى الكبائر والمعاصي ومساوئ الأخلاق، والتبذل، وما إلى ذلك مما يسخطه الله -تبارك وتعالى- وهذا أمر ظاهر.
وهكذا المصلح والمفسد، فالمنافقون كانوا إذا قيل لهم: لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ [البقرة: 11، 12]، فالمنافقون يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، فهذا من الفساد والإفساد.
ومن أعمال المنافقين: التعويق والتثبيط عن اتباع رسول الله ﷺ وطاعته، والجهاد معه، والإنفاق في سبيل الله وما إلى ذلك مما قصه الله -تبارك وتعالى- في كتابه، ومن أعمال المنافقين وإفسادهم: الأراجيف، لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [التوبة: 47]، فهم يفسدون في داخل الصف، فهذا كله من الإفساد.
فالفساد والإفساد يشمل ذلك، وقد يكون هذا المفسد من الكفار، وقد يكون من المنافقين، وقد يكون من عصاة المؤمنين، قد يكون مسلمًا، ولكنه يدعو إلى الفواحش والفجور؛ لغلبة شهوة، أو نحو ذلك، يطلب مالاً بهذا، أو أنه يميل إليه بطبعه، أو لغير ذلك مما يطلبه.
وموسى ﷺ قال له القبطي -على أحد القولين-: إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ [القصص: 19]، باعتبار أن قتل النفوس لا يكون من قبيل الإصلاح، ولا الدعوة إلى الصلاح، وهكذا في قول موسى ﷺ لأخيه: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ [الأعراف: 142]، فيدخل في ذلك إصلاح ذات البين، وتأليف القلوب، وجمع الناس على ما أمكن من الحق، وحمل الناس على طاعة الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل هذا داخل في الإصلاح، وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف: 142].
ومثل هذه الأشياء، وما يذكره الشيخ في هذا المقام وقبله كل هذا داخل تحت ما يعرف بالحقيقة الشرعية في الكتاب والسنة، ولو أنه جُمع لربما خرج جامعه من ذلك بمصنف فيه كثير من هذه المعاني، وتجد هذا منثورًا في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتابه (الإيمان) وفي غيره من مؤلفاته، وكذلك الحافظ ابن القيم -رحمه الله- ذكر أشياء مثل هذا في (بدائع الفوائد) وفي غيره، ونبه على أهمية ضبط مثل هذه الأشياء؛ من أجل أن لا تُحمَّل ألفاظ الشارع ما لا تحتمل، فيُدخَل فيها ما ليس منها، أو أن يُخرَج منها ما كان داخلاً فيها، مثل الآن الخمر والربا وما إلى ذلك، فمثل هذه الأشياء حينما يُوسَّع المعنى فقد يُدخَل فيها أشياء ليست منها، وحينما يُضيَّق فقد يُخرَج منها أشياء هي داخلة فيها فتُعطَى أسماءً وألقابًا لأشياء أخرى، فضبط ذلك في غاية الأهمية من أجل أن لا يقول الإنسان على الله بلا علم، ومن أجل أن يعرف حقائق الأشياء، وينزل ألفاظ الشارع على معانيها اللائقة بها، فهذا ما يعرف بالحقيقة الشرعية، والشيخ عبد الرحمن ابن سعدي -رحمه الله- في كتابه (القواعد الحسان) القواعد التي ذكرها تحته أنواع:
منها ما يصلح أن يقال له الحقيقة الشرعية في القرآن، فالبر في القرآن إذا أطلق ما المراد به؟ التقوى إذا أطلقت ما المراد بها؟ القنوت ما المراد به؟
فكل هذا يقال له الحقيقة الشرعية، وممكن أن يقال: الحقيقة الشرعية في الكتاب والسنة، أو في ألفاظ الشارع، هذا عنوان بحث قيم، ومهم، وفي غاية الفائدة، لو جُمع هذا من كلام أهل العلم، أو من كلام شيخ الإسلام وابن القيم فقط لوجدت من ذلك مادة كثيرة.
شيخ الإسلام ابن تيميه -رحمه الله- في كتابه هذا (الإيمان الكبير) يتكلم على حقيقة الإيمان ويرد على المرجئة، فخرج هذا الكلام هذا المخرج، وذكره في مقام الرد على المرجئة الذين يقولون بالمجاز في هذه القضية، وجعلوا الإيمان، أو لفظ الإيمان حقيقة في مجرد التصديق، وأنه يتناول الأعمال مجازاً؛ ولهذا يقولون دائماً: الإيمان هو التصديق، فشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يرد على هؤلاء يقول: لا بد عند تفسير ألفاظ الشارع؛ ألفاظ القرآن، أو ألفاظ السنة من أن يُعرف ما يدل على مراد الله -تبارك وتعالى- وعلى مراد رسوله ﷺ من الألفاظ، الألفاظ التي يستعملها الشارع لا بد أن يُعرف مراده بذلك وهو عرف الشارع في هذا وهي التي يقال لها الحقيقة الشرعية، واللفظ محمول على المعنى الشرعي، فإن لم يوجد فالعرفي، يعني عرف المخاطبين -أعني ألفاظ الشارع- فإن لم يوجد فاللغوي، ولكن بعض أهل البدع يحملون ألفاظ الشارع مباشرة على ما تدل عليه في لغة العرب دون نظر إلى معهود الشارع، فيقع الخطأ والانحراف، فإذا جئنا إلى قضية كبرى كقضية الإيمان هذه الآن، وأردنا أن نفسرها بمجرد ما يريده العربي إذا تكلم بلغته حينما يطلق مثل هذه اللفظة فإن ذلك وحده لا يكفي، مع أن شيخ الإسلام يرد على القائلين بأن الإيمان في اللغة هو التصديق، ويذكر نحو سبعة فروق بين الإيمان والتصديق في اللغة، ولا أريد أن أطول بذكرها، يمكن أن يراجع أصل الكتاب (كتاب الإيمان الكبير) وهو في غاية الأهمية، لكن هنا في الكلام على الإيمان شرعاً هل هو التصديق؟
شيخ الإسلام يقول: حتى في اللغة ليس هو التصديق، وإنما هو تصديق خاص، تصديق انقيادي، يقول: أقرب ما يفسر به الإقرار والإذعان، انقياد القلب، وليس مجرد التصديق، فأبو طالب كان مصدقاً لكنه لم يُقر، ولم يذعن قلبه، ولم يحصل له الانقياد، وقصيدته التي ذكرها الحافظ بن كثير -رحمه الله- في (البداية والنهاية) والقصيدة طويلة جيدة تدل على هذا صراحة:
ولقد علمتُ بأنّ دينَ محمدٍ | من خيرِ أديانِ البريةِ دينا[1]. |
ثم يعتذر عن عدم اتباعه بأنه يخشى المسبة والمذمة من قومه.
فشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: هؤلاء الذين يقولون: إن الإيمان هو التصديق حقيقة في اللغة، وإن دلالته على الأعمال مجاز، يقول: إن هذا الكلام غير صحيح، وإن الشارع إذا أطلق الإيمان فإنه يقصد به الحقيقة الشرعية، الإيمان الذي ينتظم تصديق القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح، وإن نصوص الكتاب والسنة متضافرة في الدلالة على هذا المعنى، هذا كلام الشيخ -رحمه الله، ويقول: إن دلالته على ذلك ليست دون دلالة لفظ الصلاة والزكاة والصيام والحج في دلالته على الصلاة الشرعية، والصيام الشرعي، يعني الآن الصلاة في اللغة هي الدعاء، لكن الشارع إذا استعملها فإنه يراد بها الصلاة المعروفة ذات الأقوال والأفعال المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم بنية العبادة المعروفة، وكذلك الصيام حينما يقال: إن أصله الإمساك على المشهور في لغة العرب، فإن المراد به في الشرع إمساك خاص عن المفطرات بنية من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
وكذلك أيضاً ما يتصل بالحج فإنه في اللغة القصد، ولكنه في الشرع قصد خاص لبيت الله الحرام لأداء النسك في وقت مخصوص.
فهذه الأشياء يقول شيخ الإسلام: سواء قيل: إن الشارع نقله، هنا قال: أو أراد الحكم دون الاسم، أو أراد الاسم وتصرف فيه تصرف أهل العرف، أو خاطب بالاسم مقيداً، هو يقول في المطبوعتين: "زاد"، والتصحيح من مجموع الفتاوى، في النسخ الخطية لهذا الكتاب "أراد" وفي الأصل أصل الكتاب (كتاب الإيمان) أو "زاد"، ما معنى هذا الكلام؟
يقول شيخ الإسلام: بصرف النظر، هو يشير إلى بحث معروف عند أهل العلم في مثل هذه الحقائق الشرعية هل الشارع استعملها فيما أطلقه العربُ وأرادوه في كلامهم واستعمالهم؟ أو أن الشارع نقلها، وأطلقها على أشياء الشارع استعملها فيها وإن كانت تطلق في اللغة على معنى آخر؟، أو أن الشارع أبقى على المعنى الذي عرفته العرب وأطلقت هذه الألفاظ عليه وزاد عليه إمّا قيودًا، وإما بعض الزيادات والتفاصيل؟، هذه مسألة معروفه عند أهل العلم وهم مختلفون فيها، وشيخ الإسلام يبحثها في هذا الكتاب وفي غيره من كتبه، انظروا الآن يقول: سواء قيل -يعني بصرف النظر: إن الشارع نقله مما أطلقته عليه العرب، يعني الآن نقول مثلاً: الصيام هو الإمساك، الحج هو القصد، الإيمان هو تصديق خاص مثلاً فيه معنى الأمن، والإقرار والإذعان، نقول: إن الشارع نقله مما أطلقته عليه العرب وأطلقه على معنى خاص به نَقَله، هذا الأول قال: "أو زاد الحكم دون الاسم" بمعنى أن الاسم كان معروفاً، هناك أشياء يقال لها: مبتكرات الشارع بمعني أمور لم تعهدها العرب في الاستعمال جاء بها الشارع اختلفوا في بعض الأشياء، يعني مثلاً حينما يقال: عبادة من العبادات ما تعرف العرب هذا الإطلاق فجاءت الشريعة وأطلقته مثل الزكاة، الاعتكاف، سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ [سورة الحج:25] عمر نذر أن يعتكف ليلة أو يوماً في الجاهلية، فكانوا يعرفون الاعتكاف، الصلاة كانوا يعرفونها كانت تعرفها الأمم السابقة، التيمم مثلاً بمعناه الشرعي، الجهاد كان معروفًا لدى الأمم، الحج كانوا يحجون، أنا قصدت هذا، أهل العلم لما نظروا إلى هذه الأشياء تجاذبوها فإذا ذكر بعضهم مثالا أو مثالين أو نحو ذلك أجابوا عنه بمثل ما تسمعون، فتبقى القضية مترددة كما طرحها شيخ الإسلام هنا سواء قلنا كذا، أو قلنا كذا، أو قلنا كذا، ليس ذلك بمهم الآن، هل كانت معهودة في أصلها لدى العرب بهذا الاستعمال فالشارع نقله واستعمله في شيء يخصه؟، أو أن الشارع أبقى على الاسم وزاد الحكم؟
فنقول مثلاً: الصيام هو إمساك عن المفطرات، الحج هو قصد بيت الله الحرام إلى آخره؟، أو يقال بأن الشارع استعمله فيما كانوا يستعملونه به لكنه زاد بعض القيود، بعض الزيادات، الصلاة هي الدعاء، فبعضهم يقول: الدعاء موجود فيها، والنبي ﷺ ذكر لنا قول الله -تبارك وتعالى- في الحديث القدسي: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي[2]، وفسر هذا بالدعاء، في سورة الفاتحة ثناء، ودعاء وأطلق على جميع ذلك الصلاة، لاحظتم: فبعض أهل العلم يقول: الدعاء أصل أصيل فيها وإذا أطلق على العبادة إذا سميت بجزء منها فذلك يدل على أنه أصل وركن فيها، ويمثلون على هذا بأمثلة، يعني الله يقول: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [سورة الإسراء:78] يعني القراءة في صلاة الفجر، دل على أن القراءة فيها ركن، وأنه يقصد بذلك التطويل وَقُرْآنَ الْفَجْرِ وهكذا حينما يطلق على الصلاة بأنها سجود مثلاً، أو نحو ذلك فهذا له أمثلة كثيرة.
فهنا سواء قيل بأن الشارع استعملها فيما كانوا يستعملونها به لكنه زاد بعض القيود، أو أن الشارع جاء بهذا الاستعمال وانفرد به، أو أن الشارع استعمل الاسم وزاد الحكم، يقول: "بصرف النظر"، الإيمان استعمله الشارع بما ينتظم تصديق القلب وإقرار القلب، بالإضافة إلى تصديق اللسان بالإضافة إلى العمل، عمل القلب واللسان والجوارح، فعمل القلب يعني القدر الزائد على التصديق الذي هو الخوف والرجاء والمحبة والتوكل -الأعمال القلبية، وعمل اللسان يعني القدر الزائد على النطق بالشهادتين، وهو الذكر وقراءة القرآن، هذا يقال له: عمل اللسان، وعمل الجوارح من صلاة وحج إلى غير ذلك، وأهل البدع من المرجئة ومن شابههم جاءوا وقالوا: هو يطلق في اللغة على التصديق وإطلاقه على الأعمال توسُّع في الإطلاق، أنه مجاز وإلا فهي غير داخلة في حقيقته، يعنى يقولون: لما أراد الشارع الأعمال وأدخلها في الإيمان هذا ليس من حقيقة الإيمان، وإنما هو قدر زائد عليه، فحقيقة الإيمان تحصل بمجرد التصديق، إذن لو انتفى العمل جميعاً فإن الإنسان لا يخرج من مسمى الإيمان بهذا الاعتبار، وشيخ الإسلام يقول: هذا الكلام غير صحيح فلا بد من معرفة طريقة الشارع في استعمال هذه الألفاظ، وأنه أطلقها وأراد الأعمال، إضافة إلى أن شيخ الإسلام أصلاً ينفي موضوع المجاز، لكن على فرض إثبات المجاز يقول: ينبغي أن نحمل ذلك على عرف الشارع، وإلا فهو يقول في الأصل بأنه لا يوجد مجاز، وأن الكلام أنما يحمل على المعنى المتبادر له، وهذه هي الحقيقة بحسب السياق، والسباق، واللحاق، ومعهود المتكلم، وعندئذ فذلك حقيقة شرعية وليس بمجاز، -أعني دخول الأعمال، يقول: "أو خاطب بالاسم مقيداً لا مطلقاً"، اتضحت الحالات الثلاث.
هذه الفائدة ذكرها شيخ الإسلام -رحمه الله- تابعة للتي قبلها، والشيخ عبد الرحمن -رحمه الله- تصرف في العبارة بعض التصرف، لكن لم يخرج عن مراد شيخ الإسلام -رحم الله الجميع-.
فشيخ الإسلام يقول: إن أهل البدع لا يعولون على نصوص الكتاب والسنة، وإنما جلّ الاعتماد عندهم على كتب الأدب واللغة، وإن شئت أن تزيد المنطق؛ فإن ذلك مما يعولون عليه كثيرًا؛ ولذلك تجد إلى اليوم أهل البدع من المعتزلة، والكثير من المتكلمين، وتجد هذا أيضًا فيمن تلقف عقيدة المعتزلة كالزيدية في معاهدهم، ومدارسهم، واشتغالهم يعتمدون على هذه الأشياء، ولربما تجد عندهم من العلماء من هو مبرز في هذه الجوانب من العلم، تجدهم أهل تضلع أحيانًا في علوم الأدب واللغة والنحو والمنطق، فإذا زادوا فأصول الفقه؛ لأن أصول الفقه كما قيل: علم سرقه أهل الكلام من أهل السنة من بعد الشافعي -رحمه الله- وما ردوه بعد ذلك؛ ولذلك تجد طريقة التأليف في أصول الفقه في الغالب بعد الشافعي -رحمه الله- دخلها من العلوم الكلامية، وعبارات أهل المنطق، مما يعول عليه أهل التأويل للنصوص، وقد اعتبر ابن القيم -رحمه الله- المجاز حمارًا للتأويل، فالتأويل يصل إلى النصوص عن طريق المجاز ودعوى المجاز.
فأهل البدع يهتمون -غالبًا- بهذه العلوم، ولا يعولون على نصوص الكتاب والسنة؛ لجهلهم بها، وكان جهلهم بهذه المنزلة؛ لأنهم هونوا من أمرها منذ البداية، والشيطان كان لهم بالمرصاد، فجاء إلى ما جاء عن النبي ﷺ وقال لهم: إن غالب ذلك أخبار آحاد، ومن ثَمّ فإنها تفيد الظن، والعقائد تحتاج إلى قطع ويقين، ثم قال لهم: إن ما تواتر من المنقول كالقرآن؛ فإنه قطعي ثبوت، ولكنه محتمل في دلالته، وأورد الرازي القوادح يسمونها العشرة التي ترد على النص من احتمال النسخ، والتقييد، والتخصيص وما إلى ذلك، قالوا: إذن هو من ناحية الدلالة غير قطعي، إذن المعول على العقل -نسأل الله العافية- وتركوا الوحي، واشتغلوا بالعقل، فعقول الناس متفاوتة ومختلفة، فوقع بينهم الاختلاف، فصارت الطائفة الواحدة طوائف، وصار بعضهم يكفر بعضًا، وكثرت الفرق، وكثر الجدال في الدين، ثم بعد ذلك جاء من يطعن في هذا الدليل من أصله -أعني العقل- ويقول لهم: العقل لا يمكن أن يعول عليه لتفاوت العقول، ولا أدل على ذلك من اختلافكم، فالمعول على الحس فقط، فما لا يدركه الحس لا يلتفت إليه، فوقعوا في ضلالات، فجاء من يعترض على الحس، ويقول: حتى الحس يخطئ، ويتصور الأشياء على غير حقيقتها، ويرى النجم من بعيد صغيراً، والشجرة بهيئة الرجل، والرجل بهيئة الشجرة من بعيد، والعصا في الماء منكسرة، وجاءوا بأمور -نسأل الله العافية- من الضلال والإلحاد.
والله بعث رسله -عليهم الصلاة والسلام- بالبينات والهدى، فمن أعرض عن ذلك ضل، والأمور التي تتوقف عليها النجاة في الآخرة قد بينها الشارع بيانًا شافيًا، لا يدع في الحق لبسًا، ثم إن مسألة القطعية في الدلالة هي لا تؤخذ كما يظنه كثير من أهل الكلام، وكما يقررونه في كتبهم في أصول الفقه مما يعرِّفون به دلالة النص، يقولون: ما دل على معنى بحيث لا يحتمل غيره، هذا الكلام نوع من النص يقولون: وهو نادر، والواقع أنه كما قال شيخ الإسلام وابن القيم وغير هؤلاء، قالوا: تضافر النصوص في تقرير معنى من المعاني يجعل ذلك من قبيل النص، فالنص نوعان.
ولهم جهالات كثيرة في النقل والوحي، ومعوَّلهم على مثل هذه الأمور؛ ولذلك تجد كتبهم -في الغالب- هي اشتغال، وحواشيهم في قضايا إعرابات، وقضايا بلاغية، وجوانب، انظر مثلا تفسير الزمخشري وما شابه، والحواشي التي على بعض الكتب -ولا حاجة للتسمية- مما يدرسونه في معاهدهم، ويتداولونه ولا يتخرج الواحد عندهم إلا بعد دراسته، مما إذا قرأه من استنار قلبه بنصوص الوحي يجد وحشة وضيقًا، حتى إنه لا يستطيع أن يتم كتابًا من هذه الكتب المظلمة، لا تجد فيها قال الله، وقال رسوله، أو لربما يحتجون بأحاديث ضعيفة، أو موضوعه، أو نحو ذلك.
يقول: "يتأولون القرآن برأيهم وفهمهم، بلا آثار عن النبي ﷺ وأصحابه، قال أحمد: أكثر ما يخطئ الناس فيه من جهة التأويل والقياس"، هذا قاله الإمام أحمد قبل هذا المقطع، لكن الشيخ عبد الرحمن -رحمه الله- أخره إلى هذا الموضع.
والمبتدع لا يستطيع أن يكابر، وأن يرد مباشرة، يقول: أنا لا أؤمن بهذه الآية، أنا أرد الآية، أنا أكذب بهذه الآية، لا يستطيع، لكن تُحرَّف باسم التأويل، وهذا قديمًا فعله المعتزلة، وأهل الكلام، واليوم يفعله أولئك الذين يريدون أن يقرءوا النص قراءة جديدة، ولكن أولئك كان لهم علم عميق باللغة والمنطق، وأهل جدل، أما الذين يريدون أن يشتغلوا هذا الاشتغال اليوم فكثير منهم من يسمي نفسه بالمثقفين لا علم ولا عمل -نسأل الله العافية- من أجهل الناس ما درس العلم الشرعي أصلاً، ويريد أن يتسلط على النصوص، وأن يحرفها، وأن يحملها على دلالات ما أرادها الشارع أصلاً، بفهمه هو، يقول: لسنا ملزمين بفهم السلف .
صحيح؛ لأن الدليل لا يمكن أن يدل إلا على الحق، بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كان يقول: لا يستدلون بدليل إلا قلبته عليهم، وجعلته دليلاً على بطلان قولهم.
عبادة الله تنتظم كل ما يتقرب به إليه من ألوان الطاعات، كذلك طاعة الله إذا أُمر بها، وهذا ظاهر، "والتقوى والبر والهدى" لكن قد تقرن بعض هذه الأشياء، فيكون لكل منها معنى يناسبه أحيانًا.
هو يقول بأن عبادة الله تنتظم محابّه، وأن البر ينتظم جميع الأعمال الصالحة، وأن التقوى تنتظم ذلك جميعًا يقول: "وكذلك الإيمان" الإيمان ينتظم، قول اللسان، وقول القلب، وعمل اللسان، والقلب والجوارح، لكن السلف يعبرون عنه بعبارات متنوعة.
يقول: "تعبير السلف عن الإيمان أنه قول وعمل"، قول وعمل كما فسرت الآن، أو قول وعمل ونية، باعتبار أن القول يتناول الاعتقاد، وقول اللسان، قول القلب، وقول اللسان، أما العمل فقالوا: قد لا يفهم منه النية، عمل الجوارح والقلب واللسان، القول قول القلب واللسان، والعمل عمل القلب واللسان والجوارح، قالوا: قد لا تفهم النية، لكن الذين اقتصروا على أنه قول وعمل قالوا: النية عمل القلب؛ لهذا قال في الأخير: "مع شمول كل تعبير منها لحقيقة الإيمان" يعني بعضهم يرى أن هذا يكفي مثلما يقال مثلاً: القرآن هو كلام الله المنزل على محمد ﷺ المعجز، بعضهم يقول: المعجز بأقصر سورة منه، وبعضهم يقول: بواسطة جبريل ﷺ، وبعضهم يزيد غير مخلوق، مع أن بعض هذا الكلام قد يغني عن بعض.
وهؤلاء الذين زادوا النية يقولون: لأن القول والعمل بلا نية يعتبر رياء أو نفاقًا، لكن الوقع أن النية داخلة في عمل القلب، يقول: "أو قول وعمل ونية" وزيادة أخرى رابعة وهي اتباع السنة؛ لأن القول والعمل والنية إن لم يكن على سنة فإن ذلك لا يكون محبوبًا لله فلا بد فيه من الاتباع، والواقع أنه إذا قيل: إن الإيمان قول وعمل فالمقصود به العمل الموافق، العمل المشروع، ومِن هنا قال: "مع شمول كل تعبير منها".
يعني: أعلى ما يدخل فيه البر والتقوى هو الإقرار والإذعان، والإنقياد القلبي، ويدخل في ذلك سائر الأعمال، والنطق بالشهادتين، وقراءة القرآن، والأعمال الصالحة بأنواعها، كل هذا داخل فيه.
البدع تتفاوت، ولكن هذا الإنسان الذي لا يكون منافقًا في الباطن، ولكنه وقع في بدعة ولو دعا إليها؛ فإنه لا يكون كافرًا في الباطن، فينظر في البدعة هذه هل هي مكفرة أو غير مكفرة؟ وهل تحققت الشروط وانتفت الموانع؟ لكن شيخ الإسلام يتكلم عن أصل القضية، بمعنى أن لا يتسرع فيها متسرع، ويقول: إن من وقع في بدعة؛ فإنه يكون كافرًا باعتبار أنه صار مشرعًا من دون الله أو غير ذلك مما يبرر به قوله.
هذا تابع للكلام الذي قبله، وبينه وبين ما قبله مثال ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فقال بعده هذه الكلام، وهو أنه ذكر الخوارج، لما قال بأن من ابتدع بدعة، ولو دعا الناس إليها؛ فإنه لا يكون كافرًا مالم يكن منافقًا، يعني كافرًا في الباطن، فذكر الخوارج، وأن الصحابة ما حكموا بكفرهم مع أنهم أصحاب بدعة غليظة؛ لأنهم ما كانوا منافقين في الباطن، بل كانوا يؤمنون بالله ورسوله ﷺ ولكنهم انحرفوا وضلوا، وضللوا أصحاب النبي ﷺ وارتكبوا ما ارتكبوا، فيقول: إن الصحابة ما كفروهم، ولما سئل عنهم علي قال: "من الكفر فروا".
يقول: "وكذلك سائر الثنتيْن والسبعين فرقة"، يعني: النبي ﷺ لما ذكر أن الامة تفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، قال: كلها في النار إلا واحدة، فقوله: كلها في النار هل المقصود به الخلود في النار؟
الجواب: لا، وإنما المقصود أنهم من أهل الوعيد، وأنهم متوعدون بالنار، لكن لا يعني هذا أنهم يخلدون فيها؛ ولهذا فإن أهل العلم حينما يتكلمون عن بعض الفرق يقولون: ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة، يعني: لما يتكلمون عن طوائف الباطنية مثل النصيرية وفرق الباطنية، يقولون: هؤلاء ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة أصلاً باعتبار أنه متفق على كفرهم، حينما نتحدث مثلا عن الدروز يقال: هؤلاء ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة أصلاً، فهؤلاء ليسوا من المسلمين، ما دخلوا في الإسلام أصلًا، هم على دين آخر وملة أخرى، لكن حينما تتحدث عن الثنتين والسبعين فرقة التي ترجع إلى أربع فرق كبار، فمثل هؤلاء لا يقال إنهم من قبيل المنافقين بالباطن بخلاف أولئك -أعني الباطنية-أولئك ليسوا على دين -نسأل الله العافية- هم ملاحدة، أرادوا الطعن في الإسلام.
لكن باقي الطوائف، يقول: إن قول النبي ﷺ: كلها في النار ليس المقصود به الحكم بكفر هؤلاء، أو ما يقتضي ذلك من كونهم يخلدون في النار، يقول: لا يُقصد به هذا باتفاق أهل السنة، قال: ما حكموا على جميع الثنتين والسبعين فرقة يعني غير الفرقة الثالثة والسبعين -غير أهل السنة- ما حكموا على غير الواحدة بالخلود بالنار.
يقول: "وكذلك سائر الثنتين والسبعين فرقة من كان منهم منافقًا فهو كافر في الباطن"، ثم يقول: "ومن لم يكن منافقاً بل مؤمنًا بالله ورسوله في الباطن لم يكن كافرًا بالباطن، وإن أخطأ في التأويل كائناً ما كان خطؤه".
فشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- له كلام يقرره في عدد من كتبه أن من اتقى الله ما استطاع من هذه الأمة -يعني من المسلمين، اتقى الله ما استطاع، وبذل وسعه في طلب الحق، اجتهد وبذل ما يستطيع ولكنه أخطأه، أخطأ فيه فإنّ خطأه مغفور؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها سواء كان في المسائل العلمية، أو المسائل العملية، المسائل العلمية يعني مثل قضايا الاعتقاد، سواء كان في المسائل العلمية أو العملية، هذا كلام شيخ الإسلام الذي يقرره في عدد من كتبه، من اتقى الله ما استطاع في طلب الحق فعجز، هذا غاية ما وصل إليه، ويمثل لهذا بأمثلة: إنسان دعاه على الإسلام بعض الجهمية مثل المعتزلة ونحوهم فأسلم عن طريقهم أو أسلم عن طريق بعض الرافضة، وما عرف من الإسلام إلا هذا، إنسان نشأ ببادية بعيدة، نشأ على رأس جبل، نشأ في غابة، ما عرف كثيرًا من حقائق الإسلام، بذل وسعه، لم يقصر، ماذا يفعل؟
فهنا يقول: "وإن أخطأ في التأويل كائناً ما كان خطؤه"، هذا غاية ما عنده من الفهم، "وقد يكون في بعضهم شعبة من شعب النفاق، ولا يكون فيه النفاق الذي يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار"، كما أن الإنسان قد يكون فيه شعبة من الكفر، شعبة من الجاهلية، قد يكون فيه شعبة من النفاق، "ومن قال: إن الثنتين والسبعين فرقة كل واحد منهم يكفر كفراً ينقل عن الملة فقد خالف الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة ، بل وإجماع الأئمة الأربعة وغير الأربعة، فليس فيهم مَن كفّر كل واحدة من الثنتين والسبعين فرقة،وإنما يُكفِّر بعضهم بعضاً ببعض المقالات"، يعني يقولون مثلاً: إن من ينكر سورة يوسف مثلاً من الخوارج؛ فإنه يكفر كفراً مخرجًا من الملة؛ لأنه أنكر سورة من القرآن.
وهكذا سائر الفرق، يعني: الذي يقول بأن القرآن محرف زيد فيه ونقص منه، من يقول: بأن جبريل أخطأ، كانت الرسالة لعلي، وذهبت إلى النبي ﷺ فهذا يكفر كفراً ينقله من الملة، من كان من هؤلاء يعبد قبرًا أو حجرًا أو يدعو غير الله أو نحو ذلك فهذا من الشرك الأكبر، لكن هذا قد يوجد عند بعضهم، ولا يعني ذلك أنه يوجد عند جميعهم على اختلاف أقطارهم، وعلى مدى القرون والعصور بإطلاق، لكن نقول: المقالة الفلانية كفر، المذهب الفلاني كفر، لكن هل كل من دخل تحته يكفر بالضرورة بعينه؟ هذا يحتاج إلى تحقق الشروط وانتفاء الموانع.
يقول: "وإنما يكفر بعضهم"، يعني بعض أهل العلم، بعض أهل السنة، بعض العلماء، بعضًا يعني بعض هذه الفرق "ببعض المقالات"، الذي يقول: القرآن مخلوق فهو كافر، الذي يتهم عائشة -رضي الله عنها- بما برأها الله به يكون مكذبًا بالقرآن، ويكون كافراً، وهكذا، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- تكلم عن هذه المسألة في كتب أخرى له غير هذا الكتاب أيضًا مثل (منهاج السنة النبوية)، وكذلك في (الرد على البكري) ذكر نفس الكلام، وفي (مجموعة الرسائل والمسائل)، وتكلم على هذه المسألة الشاطبي في (الموافقات)، وذكر مثل هذه بأن قول النبي ﷺ عن الثنتين والسبعين فرقة كلها في النار ليس المقصود أنهم يخلدون في النار وأنهم كفار، هذا كلام الشاطبي، وشيخ الإسلام نقل عليه الإجماع.
الإيمان ينتظم ما في القلب، وما يصدر من اللسان، وما يقوم بالجوارح -أعمال الجوارح- فالناس يتفاضلون في هذه الأشياء الثلاثة تفاضلًا كبيرًا، وسيأتي ما يوضح ذلك بعد قليل بكلام فيه تفصيل دقيق في هذا التفاضل.
قال -رحمه الله: وزيادة الإيمان من وجوه:
أحدها: الإجمال والتفصيل فيما أمروا به.
الثاني: الإجمال والتفصيل فيما وقع منهم.
هناك قال: إنهم يتفاوتون، أن أهل الإيمان يتفاضلون في هذه الأمور المتعلقة بالقلب واللسان والجوارح، أن حقيقة الإيمان يتفاضل فيها الناس، فهنا ما هي الأشياء التي يحصل فيها هذا التفاضل؟
ذكر ثمانية أمور، وشيخ الإسلام ذكر تسعة؛ لأن الشيخ عبد الرحمن -رحمه الله- دمج اثنين في واحد، كما سيأتي.
"فالأول: الإجمال والتفصيل فيما أمروا به"، يعني مثلاً من عرف التفاصيل مما ورد في الكتاب والسنة ومعاني ذلك لزمه من الإيمان المفصل ما لا يلزم غيره، الآن هذا الإنسان درس أسماء الله الحسنى، وعرف هذه الأسماء ودلالاتها ومعانيها، وما يدخل تحت كل اسم من المعاني، وعرف مَن ذكره الله، أو ذكره رسوله ﷺ من الملائكة، أو الرسل، أو الكتب إلى آخره فهو يؤمن بهذه الأشياء، فهذا آمن بأشياء مفصله لربما آمن غيره بها أو ببعضها على سبيل الإجمال، هذا إنسان عامي لو قلت له: سمِّ لنا رسلا غير النبي ﷺ، ربما لا يعرف لكن يقول: أنا أؤمن بمن أرسلهم الله ، سم لنا كتبًا أخرى غير القرآن.
ربما لا يعرف، لكن يقول: أنا أؤمن بكتب الله ، عدد لنا أسماء الله الحسنى، ومعانيها قد لا يعرف، فذاك الذي عرف هذه التفاصيل صار عنده إيمان مبني على هذه التفصيلات، وهذا مما يفاضل به أهل العلم غيرهم، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [سورة المجادلة:11]، فيَفْضلون بأمور هذا واحد منها، أنهم عرفوا من تفصيلات الدين، وحقائق الشريعة، وأسماء الله وصفاته وما يليق به ما لا يعرفه غيرهم؛ ولهذا قال : إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [سورة فاطر:28]، بخلاف من يعرف معرفه إجمالية.
"الثاني: الإجمال والتفصيل فيما وقع منهم".الآن ذاك في المعرفة، فآمن بهذه الأشياء على سبيل التفصيل، هنا فيما وقع منهم عرفَ تفاصيل الشريعة، وعمل بمقتضى ذلك، عمل بهذه التفصيلات سواء بقلبه، أم بلسانه، أم بجوارحه، تجده بالقلب: قلبه عامر عارف بالأمور، والأعمال القلبية، أو معاني الأسماء الحسنى وما إلى ذلك، فعنده من الخوف والمحبة والرجاء والتوكل وأمور كثيرة جدًّا ويتعبد الله في كل مقام بما يناسبه من أسمائه، وفيما يتصل باللسان ألوان الأذكار التي يرددها في أحوال شتى، وعنده من أعمال الجوارح أيضاً تفصيلات لا يعرفها كثير من العامة، فهذا أكمل، بل هو أكمل ممن عرف بهذه الأشياء وفرط من الناحية العملية مع اعترافه بالتقصير، وهذا الذي فرط أكمل من ذاك الذي عرف ولم يرفع بذلك رأساً، ولم يلتفت إليه، ولم يكترث به، فالناس يتفاضلون ويتفاوتون، فالعمل إيمان، عمل القلب واللسان والجوارح، المعرفة التفصيلية: يؤمن بهذه الأشياء، فإذا عمل فهذا إيمان، يتعلم؛ ليعمل.
وهذا ظاهر، يتفاضلون في تصديقهم، فمن الناس من يكون قد وصل إلى مرتبة علم اليقين، وأهل اليقين يتفاوتون، يعني إبراهيم ﷺ حينما قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [سورة لبقرة:260]، أراد أن يرتقي من مرتبة كمال إلى كمال أعلى منه، الكمال الذي كان عليه علم اليقين فأراد أن يرتقي إلى مرتبة عين اليقين، يرى أحياء الموتى، وهناك مرتبة فوق هذه هي حق اليقين، فنحن أخبرنا الشارع عن الجنة فآمنا بذلك يقيناً فهذا يقين علم اليقين، فإذا رأينا الجنة فهذا عين اليقين، فإذا دخلناها فهذا حق اليقين، هذه مراتب في الكمال، هذه مراتب في اليقين الناس يتفاوتون فيها، ولهذا قال النبي ﷺ: ليس الخبر كالمعاينة[1]، موسى ﷺ حينما أخبره الله أن قومه عبدوا العجل لم يلقِ الألواح، فحينما جاء ورآهم يعبدون العجل وعاينهم ألقى الألواح، فالناس يتفاوتون في هذا العلم والتصديق؛ ولهذا قالوا: إن أبا بكر لم يسبقهم بكثرة العمل، وإنما بشيء وقر في قلبه.
الآن اشترك جماعة من الناس في الإقرار والإيمان والتصديق بأن الله -تبارك وتعالى- رزاق، وأنه قويٌ متين، وأنه عزيز وأنه على كل شيء قدير، وأنه رحمن رحيم، فأورث لهذا التوكلَ عليه ومحبته والثقة به، ورجاء ما عنده وما إلى ذلك، ولم يورث ذلك للآخر مثل هذه الأمور، فتفاضلوا فيها، فهنا يقول: التصديق المستلزم لعمل القلب أكمل من التصديق الذي لا يستلزم، فهذا الإنسان الذي حصل له من محبة الله وخوفه ورجائه والتوكل عليه ما لم يحصل لغيره هو أكمل منه، ولذلك كلنا يعلم أن الله على كل شيء قدير، وأنه هو الرزاق، وأنه هو عزيز، وأنه قوي، لكن إذا جاء الجد و وقع بالإنسان الشدة فلربما يظهر منه من الأقوال، أو الأفعال، أو الأحوال ما يدل على ضعف التحقق من هذه الأمور، هذه الأعمال القلبية؛ ولهذا قلت مراراً: إن من أنفع ما يكون للعبد أن يُعنَى بالأعمال القلبية، ومعاني الأسماء الحسنى، فهذا الذي تحصل به عمارة القلب، هذه هي التربية الحقيقية، تربية الإيمان في النفوس، يمتلئ القلب، هذا هو التوحيد، ليس فقط دراسة نظرية يحفظها ويرددها وإذا جاء الجد صار توكله على المخلوقين أعظم من توكله على الله، وصار خوفه من المخلوقين أعظم من خوفه من الله، وهذا موجود، وقد تجد الإنسان لربما درس حتى بلغ أعلى المرتب في الشهادات، متخصص في العقيدة ولكنه أبعد الناس من الناحية العملية عن تحقيق التوحيد، فلا بد أن يكون التوحيد عامراً في قلب الإنسان ليس قضايا يحفظها ويرددها بلسانه، ولذلك قد تجد عند بعض العوام من اليقين والتوكل والثقة والتوحيد وما إلى ذلك ما لا يوجد عند بعض المتعلمين، والله المستعان.
هو دمج بين الخامس والسادس، شيخ الإسلام ذكر كل واحد على حدة، وهذا واضح، الأول: ما يتصل بأعمال القلوب، والثاني: أعمال الجوارح، الناس يتفاضلون في أعمال القلوب، يتفاضلون في محبتهم لله، يتفاضلون في خوفهم منه، يتفاضلون في صبرهم، يتفاضلون في شكرهم إلى غير ذلك، كما يتفاضلون في أعمال الجوارح، هذا بالكاد يصلي الفريضة، ولا يأتي إلا متأخراً، وهذا يصلي الفريضة ويحافظ على السنن الرواتب، وذاك يكثر من النوافل، هذا لا يصوم إلا رمضان، وهذا يصوم ألوان التطوعات، هذا لا يعرف الأذكار، ولا قراءة القرآن إلا في رمضان، وذاك يعمر أوقاته بهذه الأعمال، والناس يتفاوتون، والإيمان قول وعمل فيتفاضلون، هذا إيمان، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143] صلاتكم إلى بيت المقدس.
ولذلك الغفلة تحصل للمؤمن ولذلك يحتاج دائماً إلى أن يجلو قلبه، وأن يصقله، فالقلب كالمرآة بل أشد تأثراً المرآة كما أنه يقع عليها ما يقع من العوالق، فتتكدر الصورة المنطبعة عليها فكذلك القلب بل هو أشد تأثراً، فيحتاج إلى صقل، وهناك أمور تصقل القلب مثل ذكر الله ، حضور مجالس الذكر، تذكر الآخرة، زيارة المقابر، إلى غير ذلك من الأمور، مع دوام المعاهدة، والمحاسبة والمراقبة، وترك المعاصي، وترك الفضول من المباحات، أمور النظر والكلام والخلطة، والنوم والكلام والأكل والشرب وما إلى ذلك، هذه دواعي الغفلة، فإذا اجتمعت على العبد حصلت له الغفلة، وهو مؤمن لكن صاحب غفلة فعندئذ يتسلط عليه الشيطان، هي هكذا باختصار.
يعني الآن لربما بعض العامة أو من كان ناقص العلم ينكر بعض الأشياء من الدين، وإذا ذكرت له قال: ما سمعنا بهذا، هذا دين جديد أتيتم به، هو لا يعرف إلا ما سمعه من كبار السن في قريته، أو نحو ذلك، أشياء محدودة من الدين فإذا جيء له بأشياء عن النبي ﷺ مما يتصل بصفة الصلاة مثلاً، أو العبادات، أو الحج لربما ينكرها، ويقول: ما عرفنا هذا، ما سمعنا بهذا، هذا شيء جديد أتيتم به، فذاك أكمل، هذا قد يعذر؛ لجهله فيحتاج إلى أن يُعلَّم، لكن من عرف هذه الحقائق يكون أكمل ممن لم يعرفها، أو أنكرها.
هذه تابعة للتي قبلها يعني هذه مراتب، بعضهم يعلم ذلك ابتداء، وبعضهم لا يعرف لكن إذا علم عمل وأقر، فهذا أكمل من ذاك الذي إذا علم قال: لا، ما خبرناه، هذا جهل، وإصرار على الجهل، تقول للإنسان مثلاً: إن الجهر بالدعاء أو الجهر بالقراءة قبل صلاة الجمعة والناس يسمعون ويشوش عليهم قراءتهم، وإن هذا لا يشرع، وجاء في الحديث: الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة[2]، ما هو الرد؟
يقول: تريدني أن أقرأ مثل الذي يقرأ قصة؟، هذا رد، هذا الجواب الآن عن هذا الحديث، لكن الذي يقرأ قصة بعضهم يجهر، وبعضهم يسر، الآن هذه الحجة، هذا مبلغه من العلم، فهذا يُعلَّم ولا يتعلم، وغيره أكمل منه، يعني الذي يتعلم ويقبل أكمل من هذا، وإذا أردت أن تستطرد في التفصيلات والمراتب في الناس في سائر الأعمال ستجد هذا ظاهراً، والإنسان لا ينظر دائماً إلى من دونه؛ لأنه سيجد، فالدرجات لا تنتهي، وإنما ينظر دائماً إلى الأكمل.
هذه ملخصة بتصرف من فصول طويلة، ليست من فصل واحد، بل من فصول، فشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: الإيمان المطلق ليس مطلق الإيمان، الإيمان المطلق بمعنى الإيمان الكامل، ويبقى الكمال مراتب، "الإيمان المطلق الممدوح الذي إيمانه يمنعه من دخول النار"، ومن هم هؤلاء؟ الله لما ذكر الطوائف الثلاث لهذه الأمة قال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [سورة فاطر:32]، الذين هم هذه الأمة بعد أن كان الكتاب ينزل على بني إسرائيل: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [سورة فاطر:32]، إلى أن قال: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا [سورة فاطر:33] هذه الواو راجعة إلى الطوائف الثلاث، ولهذا قال بعض أهل العلم: حق لهذه الواو أن تكتب بماء العينين؛ لأنها شملت الطوائف الثلاث: الظالم، قالوا: بدأ به؛ لئلا يقنط، ثم المقتصد الذي يفعل الواجبات ويترك المحرمات، الذي يسأل النبي ﷺ: دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار؟ فيذكر له النبي ﷺ شرائع الإسلام المفروضة، الصلوات الخمس، وأركان الإسلام، ثم الرجل يقسم أنه لا يزيد على ذلك ولا ينقص منه، فيقول النبي ﷺ: أفلح إن صدق[3]، فمثل هذا الذي فعل الواجبات وترك المحرمات، ولم يزد، ولم ينقص، بمعنى أنه ما فعل المحرمات، فعل الواجبات وترك المحرمات، ما فعل المحرمات، وما ترك شيئاً من الواجبات، هل يدخل النار؟
الجواب: لا، هذا يدخل الجنة، لكن لا يكون من أصحاب المراتب العالية في الجنة، فتلك للسابقين في الخيرات، وهؤلاء هم الذين فعلوا الواجبات وتركوا المحرمات وزادوا على ذلك فعل المستحبات، وترك المشتبهات، وعند بعض أهل العلم ما قد تنقص به مراتبهم من التوسع في المباح، فهؤلاء على مراتب -الذين هم أهل السبق إلى الخيرات، فهؤلاء مع المقتصدين يدخلون الجنة ولا يدخلون النار، فيبقى الذي ظلم نفسه إما بترك شيء من الواجبات، أو فعل شيء من المحرمات، فهؤلاء هم الذين يعذبون في النار، هم الذين تحت المشيئة قد يعذبون وقد يغفر لهم بسبب أو بآخر، فهذا هو صاحب الإيمان المطلق الممدوح الذي إيمانه يمنعه من دخول النار، وغيره يكون معه من مطلق الإيمان وليس الإيمان المطلق، يعني عنده من الإيمان ما تحصل به النجاة، لا يخلد في النار، ولكنه قد نقص من إيمانه الواجب ما يكون معه من أهل الوعيد، يعني تحت المشيئة.
هذه الألفاظ الموجودة في القرآن أو السنة إذا عُرف تفسيرها بما جاء به النبي ﷺ لم يُحتج في ذلك إلى الاستدلال والأقوال؛ لأن ألفاظ الشارع محمولة على المعاني الشرعية، يكفينا بيان الشارع، الأسماء ثلاثة أنواع: ما يعرف حده بالشرع، وهذا هو الحقيقة الشرعية، ونوع يعرف حده باللغة، وهذا هو الحقيقة اللغوية، يعني لم يرِد عن الشارع استعمال خاص به، وإنما استعمله فيما يستعمله به أهل اللغة مثل الشمس والقمر، ونوع يعرف حده بالعرف كلفظ القبض، والمعروف كقوله: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [سورة النساء:19]، يعني ما أحال الله الناس فيه إلى العرف، أو كان ذلك معروفاً عندهم، يعني لم يرِد عن الشارع تحديد لمعنى ذلك فما نرجع فيه إلى المعنى اللغوي؛ لأن المخاطبين لهم عرف فيه، فمثل هذا قد يرجع فيه إلى عرفهم دون غيرهم، وقد يرجع فيه إلى العرف مطلقاً؛ لأن ذلك يتحقق به مقصود الشارع، الآن مثل لفظ القبض هل للشارع معنى خاص في القبض في عملية البيع، نقول: قبض المبيع من الشروط، هل للشارع معنى خاص في القبض؟
لا، هل نرجع في ذلك إلى اللغة؟ ننظر إلى كلمة قبض أو ننظر إلى العرف؟ ننظر إلى العرف هل يختص هذا المثال بعرف المخاطبين بعهد النبي ﷺ؟
الجواب: لا، وإنما ننظر إلى مقصود الشارع، ففي مثل هذه القضايا المتعلقة في المعاملات فإن القبض يختلف من زمن لآخر، من بيئة لأخرى، يعني من مكان لآخر، فاليوم جدت مسائل قد يصدق على بعضها أنه من قبيل القبض، وأن القبض متحقق فيه، لم تكن موجودة في زمن الصحابة ، بل ولا قبل خمسين سنة، وكذلك حينما يقال مثلاً: صاعاً من طعام[4]في صدقة الفطر، هل نرجع إلى اللغة ونقول: كل ما يطعم حتى الماء، وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [سورة البقرة:249] فالماء يقال له: طعام بهذا الاعتبار في اللغة، أو نرجع إلى عرف المخاطبين فقط، فننظر ما هو الطعام عندهم ونقول: لا تجزئ زكاة الفطر إلا من ذاك، أو نقول: إن مقصود الشارع يتحقق بالنظر إلى العرف مطلقاً بحسب الزمان والمكان؟
فهناك أشياء يقيد بها الفهم بعرف المخاطبين زمن النبي ﷺ، وهناك أشياء ترجع إلى مطلق العرف، بمعنى أنه ليس فيها عرف خاص.
قال: والمعروف في قوله : وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [سورة لنساء:19]، ما هي المعاشرة بالمعروف؟ الإنفاق -حينما يقال- بالمعروف، السكنى بالمعروف للزوجة هذا يختلف من زمن إلى آخر، في زمن النبي ﷺ يمكن أن تسكن معه في غرفة واحدة من حجر لها سقف من جريد، لكن اليوم لو جاء واحد وأراد أن يسكن زوجته في غرفة من حجر لها سقف من جريد هل يمكن أن يقبل هذا منه؟
لا، فهذا قد يكون بالمعروف في هذا الوقت لكن الآن لا، وهكذا النفقة قبل خمسين سنة يمكن أن لو أنه أعطاها ريالاً واحداً في الشهر كفاها أليس كذلك؟ لكن الآن لو قال: النفقة بالريال؛ لأن جدي كان يعطي جدتي ريالاً واحداً في الشهر لا يُقبل منه.
هذا الكلام ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- جواباً على سؤال عن سر اقتصار النبي ﷺ على هذه الخمس مع أن الإسلام أوسع من ذلك، فيدخل فيه سائر شرائع الإسلام، يقول: حينما اقتصر على الشهادتين، وبقية الخمس أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، أن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، تصوم رمضان، تحج البيت[5]، لماذا هذه ولم يذكر الأشياء الأخرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، ومع أن الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق[6]، فلماذا ذكر هذه الخمس؟
فهذا الكلام هو جواب على هذا السؤال، وهو يجيب عن هذا يقول: إن النبي ﷺ حينما اقتصر على الشهادتين، وبقية الخمس مع أنه يوجد واجبات كثيرة، هذه الزيادة من أول "حين" إلى "أنه" يعني هذا الكلام الذي هو "حين اقتصر على الشهادتين وبقية الخمس مع أنه يوجد واجبات كثيرة أنه"، هذا من زيادة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي؛ لأن الكلام قد لا يتضح لك بما اجتزأه لك من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، لا يتضح المراد؛ لأن ابن تيمية يجيب على ذاك السؤال يقول: والتحقيق أن النبي ﷺ ذكر الدين الذي هو استسلام العبد لربه مطلقاً، هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، يقول: الذي يجب لله عبادة محضة على الأعيان، فيجب على من كان قادراً عليه ليعبد الله بها مخلصاً له الدين، وهذه هي الخمس، وما عدا ذلك فإنه يجب بأسباب لمصالح، فلا يعم وجوبها جميع الناس، مثل الجهاد لا يجب على الجميع، الأمر بالمعروف لا يجب على الجميع، يتفاوت الناس في معرفة المعروف، والمنكر يتفاوتون في القدرة عليه: يغير بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه[7]، هذا كلام شيخ الإسلام في نفس الموضع وهو يمثل بهذه الأمثلة هو شرح لكلامه: ما عدا ذلك فإنه يجب بأسباب لمصالح، فلا يعم وجوبها جميع الناس، مثل التعليم هو من الدين، لا يجب على جميع الناس، النفقة على الزوجات، على الأولاد، من الناس من لا يكون عنده زوجة، لا يكون عنده أولاد، وقُل مثل ذلك في الصدقة، قد لا يكون عنده مال يتصدق به، فذكر النبي ﷺ هذه الأمور الخمسة؛ لأنها واجبة على الأعيان.
يقول: "قد يكون من الإيمان ما يؤمر به بعض الناس ويذم على تركه، ولا يذم عليه بعض الناس ممن لا يقدر عليه"، هذا عاجز فلا يطالب بما يطالب به القادر، إنسان أعطاه الله مالاً فبخل به، وآخر لم يعطَ من المال، إنسان يستطيع أن يأمر بالمعروف عنده جاه، وعنده علم ومعرفة بحقائق الشرع، ويستطيع أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقبل ذلك منه ومع ذلك قعد عنه، وآخر ليس عنده من ذلك شيء، أو يعرف ولكنه عاجز عن إنكار هذا المنكر، فهو غير مطالب به؛ لعجزه.
قال: "ويفضِّل اللهُ ذاك بهذا الإيمان"، يعني الزائد وتعرفون حديث: ذهب أهل الدثور بالأجور[8]لماذا؟
لأنهم يتصدقون ومع ذلك يقومون بالأعمال البدنية الأخرى من صيام، فالفقراء شكوا للنبي ﷺ ذلك مع أنهم في حال من العجز عن القيام بهذه الأعمال، ليس عندهم مال، وكان آخر جواب النبي ﷺ لما علمهم التسبيح والتهليل إلى آخره، وعمل به الأغنياء لما سمعوا بذلك قال: ذاك فضل الله يؤتيه من يشاء، فأهل الإيمان يتفاضلون، والنساء لمّا قلنَ للنبي ﷺ: نرى الجهاد أفضل الأعمال أفلا نجاهد؟، قال الله : وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ [سورة النساء:32]، فالله -تبارك وتعالى- فضل الرجال بوظائف وأعمال لا توجد عند النساء، وقال عن النساء: ناقصات عقل ودين[9]، ففسر نقصان الدين بأنها تبقى شطر دهرها لا تصلى مع أنها معذورة، وقد تكون أحرص من كثير من الرجال على الصلاة، وعلى عبادة الله، ولكنها عاجزة، فكان حال الرجل الذي يقوم بهذه الأعمال أكمل من حالها مع أنها معذورة، لكن لا يلحقها بسبب ذلك اللوم، هذا الفرق، لكن الرجل أكمل منها.
قال: "ويفضِّل اللهُ ذاك بهذا الإيمان وإن لم يكن المفضول قد تَرَك واجباً، وكذلك في الأعمال الظاهرة"، في الأعمال الظاهرة مثل: إن في المدينة رجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا شاركوكم في الأجر[10]، وبين النبي ﷺ أنه حبسهم العذر، لكن هذا الإنسان الذي ذهب مع النبي ﷺ وجاهد بنفسه أكمل حالاً من أولئك الذين قعدوا لعذر، فلا يلحقهم الذم، ولا ينتقصون بسبب ذلك، ولكن من كان قادراً فهو أكمل، وهكذا في قوله: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [سورة النساء:95] مع أن أولئك ربما قعدوا لعذر.
وقال: "وقد يُعطَى الإنسان مثل أجر العامل إذا كان يؤمن بها ويريدها جهده، ولكن بدنه عاجز"، مثل النبي ﷺ لما ذكر الأربعة: الرجل الذي أعطاه الله العلم والمال فهو ينفق في سبيل الله، إلى آخره، فهذا أعلى المراتب، الثاني: علم بلا مال فيقول: لو كان عندي مثل مال فلان لفعلت كما فعل، فهم في الأجر سواء، والثالث: الذي -نسأل الله العافية- عنده مال وليس عنده علم فهو ينفق في معصية الله ، والرابع: الذي لا علم ولا مال، يقول: لو كان عندي مثل مال فلان لفعلت فعله، فهما في الوزر سواء[11].
كما فضل الله بين الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، فالأنبياء يتفاضلون ويتفاوتون، وقل مثل ذلك أيضاً في الأمم، فهذه الأمة أفضل الأمم، وهكذا التفاضل في الأشخاص، يقول: "فضل الله يؤتيه من يشاء بالأسباب التي تفضل الله بها عليهم وخصهم بها، وهكذا سائر من يفضله الله فإنه يفضله بالأسباب التي يستحق بها التفصيل بالجزاء، كما يخص أحد الشخصين بقوة ينال بها العلم، وبقوة ينال بها اليقين والصبر والتوكل والإخلاص، وغير ذلك مما يفضل الله به"، وقد يعان الإنسان على العبادة والطاعة، وقد يعطيه الله من القُدر والإمكانات والملكات والحفظ ما يكون به عالماً، ولا يعطي للآخر، فيحصل للأول تفضيل.
هذا كله ظاهر، فأسباب المغفرة وأسباب العذاب معروفة، وكذلك يرزق من يشاء بغير حساب، قد عرف أنه يخص من يشاء بأسباب الرزق سواء كانت هذه الأمور التي يرزق بها هي من قبيل الأمور الدينية، أو كانت من قبيل الأمور المادية التي يحصل بها الكسب، فالأمور الدينية ما يذكره أهل العلم من تقوى الله أن ذلك يكون سبباً للرزق، وكذلك أيضاً ذكروا الصلاة وغير هذا من الأمور، والأمور الكسبية الأخرى العملية ذكروا الزواج، والأولاد، وذكروا أشياء مما يتصل بالمكاسب من تحصيلها.
وهذا واضح لا يحتاج إلى شرح، ومضى الكلام على نحوه في ثنايا شرح بعض القضايا السابقة وهو ملخص من كلام طويل لشيخ الإسلام -رحمه الله، بحسب ما غلب عليه الخير أو الشر.
قضية الخفة هي قضية نسبية، فلو أن أحداً ما أقر بنبوة محمد ﷺ مثلاً، أو لم يؤمن بالله ما هو مثل اختلافهم في مسائل الوعد والوعيد، حينما يقول بأن صاحب الكبيرة مخلد في النار، وهو -القائل أعني- مؤمن بالله وبرسوله ﷺ لكنه يقول: إن صاحب الكبيرة مخلد في النار بناء على فهم أو تأويل وانحراف في فهم النصوص، أخذ بعض النصوص وغفل عن بعض، هل هذا مثل من أنكر وحدانية الله وعبد غيره؟ هل هذا مثل من أنكر رسالة محمد ﷺ؟، فتنازُعهم بعد هذا في بعض أحكام الوعيد، أو بعض معاني بعض الأسماء مثل هل يقال: إن مرتكب الكبيرة كافر، أو يقال: إنه فاسق ملي كما يقول المعتزلة مثلاً، أو يقال: إنه عاصٍ مؤمن ناقص الإيمان؟
هو ذكر هذا الكلام بعد أن قرر كثرة النزاع في مسمى الإيمان، يعني حينما يقول المرجئ مثلاً بأن الإيمان هو التصديق، وواقع هذا المرجئ يقول: هو التصديق والإقرار القلبي، وربما يقول: مع النطق بالشهادتين لكن العمل غير داخل فيه مع أنه يعمل، هو يصلى ويعبد الله إلى آخره، هل هذا يكون كافراً؟
هل يخرج من الملة بسبب هذا؟
الجواب: لا، لكنه صاحب بدعة ليس له في الإسلام لسان صدق، ولا قبول، فشيخ الإسلام ذكر هذه الفائدة بعدما تكلم على كثرة النزاع في مسمى الإيمان والإسلام، وبعدما ذكر هذا من وجوب الرد إلى الله ورسوله في مسألة الإسلام والإيمان وغير ذلك، وذكر أن أهل السنة -هنا كما ترون في آخر كلامه- يتنازعون في أمور دقيقة تخفى على أكثر الناس، لا يتوقف عليها النجاة، والله المستعان.
يتنازعون في مسائل دقيقة مثل: هل رأى النبي ﷺ ربه أو لم يرَ ربه؟ هذه مسائل دقيقة تخفى على أكثر الناس، هل الله يُرى في المنام أو لا يُرى في المنام؟
هل الموتى يسمعون أو لا يسمعون؟
اختلفوا في مثل هذه الأشياء، لكنها مسائل دقيقة تخفى على أكثر الناس، ولا يترتب عليها التضليل، ولا التبديع.
- أخرجه أحمد في المسند، برقم (1842)، وقال محققوه: "حديث صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5373).
- أخرجه أبو داود، أبواب قيام الليل، باب في رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل، برقم (1333)، والترمذي، أبواب فضائل القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ماله من الأجر، برقم (2919)، والنسائي، كتاب الزكاة، باب المسر بالصدقة، برقم (2561)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1204)، وفي صحيح الجامع، برقم (3105).
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإسلام، برقم (46)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام، برقم (11).
- أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب صدقة الفطر صاع من طعام، برقم (1506)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير، برقم (985).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب قول النبي ﷺ بني الإسلام على خمس، برقم (16).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان، برقم (35).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان، برقم (49).
- أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، برقم (843)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم (595).
- أخرجه البخاري، كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم، برقم (304)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات، وبيان إطلاق لفظ الكفر على غير الكفر بالله، ككفر النعمة والحقوق، برقم (79).
- أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب نزول النبي ﷺ الحِجر، برقم (4423)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر، برقم (1911).
- أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء: مثل الدنيا مثل أربعة نفر، برقم (2325)، وابن ماجه، أبواب الزهد، باب النية، برقم (4228)، وأحمد في المسند، برقم (18024)، وقال محققوه: "حديث حسن"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3024).