الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:
فاللهم اغفر لنا، ولشيخنا، والحاضرين، والسامعين، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله تعالى-:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه الرسالة (رسالة العبودية) هي من أنفس ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ولا أعلم كتابًا في موضوع العبودية أنفع، ولا أوفى، ولا أشمل من هذا الكتاب.
كتَبَ الشيخ عبد الرحمن المعلمي -رحمه لله- صاحب كتاب "التنكيل" كتابًا في العبودية لم يطبع، وهو في ملازم متعددة، وللأسف أنه فُقد بعضها، والموجود منها اطلعت عليه، وقرأت كثيرًا منه، ولكنه لا يقاس بهذا الكتاب على صغر حجمه، ويحسن قراءة هذا الكتاب مرة بعد مرة، وقد عمد بعض أهل العلم إلى عمل مقدمة له يقرب فيها هذا الكتاب؛ لأن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يستطرد، فيخرج من موضوع لآخر كما هو معلوم، فجاء الشيخ عبد الرحمن الباني، وقرب أفكار الكتاب، ويسرها، بحيث تفهم من غير استطراد في مقدمة الكتاب، طبع المكتب الإسلامي.
يقول في هذه الفائدة -وهي بتصرف يسير-: وأصل ضلال مَن ضل هو تقديم قياسه على النص المنزل من عند الله، واختياره الهوى على اتباع أمر الله، وهذا كما فعل إبليس، فكما قال بعض أهل العلم: أول من قاس قياسًا فاسدًا، والقياس فاسد الاعتبار هو القياس المصادم للنص، فالله -تبارك وتعالى- حينما أمر بالسجود لآدم عارض ذلك معارضة عقلية، بقياسه الفاسد، فقال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: 12] والعلماء -رحمهم الله- ردوا على إبليس من أوجه متعددة، وبينوا فساد هذا القياس حتى من جهة النظر، وأن عنصر الطين أفضل من عنصر النار من أكثر من وجه، فإبليس هو أول من قاس قياسًا فاسدًا، وهو أول من عارض النص بالقياس، والعقل.
والقياس الصحيح -كما سبق في قياس التمثيل- قياس الفقهاء -رحمهم الله- هو إلحاق فرع بأصل، في حكم لعلة جامعة بينهما، فالأصل الذي يُلحق به هو أصل ثابت في الشرع، جاء به النقل، فيلحق به ما لم يأتِ به النقل، لكن إذا عُورض النقل بالعقل، والقياس فهذا الذي يقولون له: القياس الذي يكون فاسد الاعتبار، وهي إحدى القوادح التي تقدح في الأقيسة، فساد الاعتبار، وهذا أصل ضلال من ضل من الطوائف والفرق؛ حيث عارضوا النصوص بأقيستهم، وعقولهم، وإلا فلو تمحض الناس لاتباع الوحي لما حصل بينهم هذا الافتراق، والاختلاف الواقع بين الفرق، والطوائف المنتسبة إلى الإسلام؛ فإن الصحابة اجتهدوا، واختلفوا، ولكن اختلافهم لم يكن من قبيل الاختلاف المذموم الذي يوجب التنازع في الدين، والتفرق، والتناحر، وإنما كان اختلافهم من قبيل الاختلاف السائغ الذي لا يحصل به قطع أواصر الألفة، والرابطة الإيمانية، والمحبة.
قال: واختياره الهوى على اتباع أمر الله وليس ثمّة أمر ثالث، فإن من ترك الحق، واتباع الوحي فلا بد أن يكون متبعًا للهوى، وسيأتي ما يوضح ذلك -إن شاء الله- والله -تبارك وتعالى- يقول: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص: 26] فإن الذي يقابل الحق هو الهوى، فكل من اتبع شيئًا -أيًّا كان مسماه- غير الوحي، والحق الذي جاء به الرسول ﷺ فهو متبع للهوى، ولا بد.
فهذه الأسماء التي لربما ينخدع بها كثير من الناس هي في الواقع من جملة الأهواء، هذه الآراء، والمذاهب، والقوالب التي تُقدم للناس تحت مسميات متنوعة إن كانت مخالفة للحق فهي من قبيل الهوى، وهؤلاء الذين يتبعونها مهما تعددت أسماؤهم فإنهم في الواقع يجمعهم اتباع الهوى؛ ولذلك ذكر أهل العلم أن الجامع المشترك بين طوائف أهل البدع، والضلال هو اتباع الهوى، والإعراض عن الوحي، فمن أراد السلامة، والخلاص فعليه أن يكون متبعًا للوحي، ولا يعارض ذلك بعقل، أو قياس.
قال: فالمخالف لما بعث الله به رسله من عبادته، وطاعته، وطاعة رسله لا يكون متبعًا للدين الذي شرعه الله، بل يكون متبعًا لهواه بغير هدى من الله.
هو كما مضى الكلام، فإن ذلك يتْبع ما قبله، وقد ذكره الشيخ -رحمه الله- بعدما سبق، والله -تبارك وتعالى- يقول: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الجاثية: 18] فإنه إن لم يتبع هذه الشريعة التي أوحاها الله إليه؛ فإن البديل هو الهوى، وقال الله : فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص: 50] فإنهم إن لم يستجيبوا للحق، وللوحي، ولما جاء به الرسول ﷺ فلا بد أن يكونوا متبعين لأهواء النفوس.
فهذا أصل ينبغي أن يعتبره المؤمن، وذلك من الاعتصام بالكتاب، والسنة، وهو من أعظم الأسباب التي يتوقى الإنسان فيها مضلات الفتن، والأهواء.
قال: والعبادة، والطاعة، والاستقامة، ولزوم الصراط المستقيم، ونحو ذلك من الأسماء، ومقصودها واحد، ولها أصلان:
أحدهما: ألا يُعْبَدَ إلا الله.
الثاني: أن يُعْبَدَ بما أمر، لا بغير ذلك من الأهواء، والبدع.
هذه الأشياء التي هي العبادة، والطاعة، والاستقامة، ولزوم الصراط المستقيم، ترجع إلى شيء واحد، يعني: حينما نقول: تحقيق العبودية لله حينما نقول: لزوم الصراط المستقيم، حينما نقول: تحقيق الطاعة، نقول: فلان مطيع لله، ولرسوله ﷺ فذلك جميعًا يرجع إلى شيء واحد، فالذي يكون بهذه المثابة هو محقق للعبودية، وهو سالك للصراط المستقيم، وذلك يرجع إلى أمرين اثنين:
الأول: التوحيد، وهو أن لا يعبد إلا الله -تبارك تعالى- فلا يكون في القلب التفات إلى غيره، لا يكون ذلك من قبيل الالتفات إلى معبودات من دون الله كما هو حال أهل الإشراك، ولا يكون فيه أيضًا نوع التفات مما يكون من قبيل الرياء، والسمعة، فإن ذلك يحبط الأعمال.
فمن كان محققًا لهذا الأصل مع الأصل الثاني، وهو: اتباع الرسول ﷺ فيما شَرَّع فإنه يكون باجتماعهما محققًا للعبودية، وسالكًا للصراط المستقيم، ومطيعًا لله ولرسوله ﷺ فإن الطاعة الحقة هي ما كان بهذه المثابة، فإذا وُجد الإخلاص، ولو كان عظيمًا عند الإنسان لكن أعماله لم يكن فيها موافقًا لما جاء به الرسول ﷺ فتلك البدع، فإنها لا تزيده من الله إلا بُعدًا، وإذا كان الإنسان يتعبد الله وفق ما شرع، ولكنه لم يخلص لله في هذه العبادات، فإن هذا لا يزيده من الله إلا بُعدًا، ولا يكون محققًا للعبودية، فمن أراد أن يحققها، وأن يكون سالكًا لطريق النجاة، للصراط المستقيم؛ فعليه أن يجمع بين هذا، وهذا.
ثالثًا: أن يكون محققًا للإيمان، أن يكون على الدين الصحيح، فهذا شرط، ويدل على ذلك قول الله -تبارك وتعالى-: وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ [الكهف: 2] فذكر الإيمان، والعمل الصالح، وأن العمل الصالح في هذه الآية في أول سورة الكهف ينتظم أمرين: الإخلاص، والمتابعة، فالشرط الثالث: هو الإيمان الذي ذكره قبله، وأن قوله في آخرها: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110] فهذا ينتظم الإيمان، والإخلاص، والعملُ الصالح يكون موافقًا فيه لما جاء به الرسول ﷺ.
والله يقول: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة: 112] أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ هذا ينتظم الإيمان، والتوحيد، والإخلاص، وكذلك أيضاً "وهو محسن" لا يكون محسنًا إلا إذا اتبع ما شرعه الله -تبارك وتعالى- فلا نجاة، ولا خلاص إلا بتحقيق هذين، وبهما يكون العبد موحدًا، سالكًا الصراط المستقيم، محققًا للعبودية.
قال: كمال المخلوق في تحقيقه عبوديته لله، وكلما ازداد العبد تحقيقًا للعبودية ازداد كماله، وعلت درجته.
ذكر الشيخ -رحمه الله- في عدد من كتبه، وكما تجدونه في شرح الطحاوية أن الله ذكر أكمل الخلق، وهم الرسل -عليهم الصلاة والسلام- في أشرف المقامات بوصف العبودية: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان: 1] فهذا في مقام التنزيل: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم: 10] في مقام الإيحاء.
وفي مقام الدعوة: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن: 19] في مقام الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1].
فهذه من أجل المقامات، وأعظمها، وإنما ذكر فيها وصف العبودية، فأعلى مقامات العبد هو تحقيق العبودية، وكلما ارتقى العبد في ذلك كلما علت درجته؛ ولهذا كان الكبر لا يصلح للإنسان بحال من الأحوال، إنما يصلح لله -تبارك وتعالى- العبد يصلح له التذلل، والخضوع، والاخبات لربه، وخالقه ولهذا يقول الله -تبارك وتعالى-: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا [مريم: 88]، بماذا رد الله عليهم؟ سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء: 26] فوصفهم بذلك.
وقال عن عيسى ﷺ: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ [الزخرف: 59] فوصفه بالعبودية، وقال عنه: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء: 172].
فهذا هو الكمال، فمن أراد أن يحقق الكمال في نفسه، وأن يرتقي في المراتب العالية عند الله فعليه أن يزداد من تحقيق هذا الوصف في نفسه؛ لأن الناس يتفاوتون فيه غاية التفاوت.
قال: والناس يتفاضلون فيه تفاضلًا عظيمًا، وهو تفاضلهم في حقيقة الإيمان، وهم ينقسمون فيه إلى خاص، وعام؛ ولهذا كانت ربوبية الرب لهم فيها عموم، وخصوص، وضروب.
في قوله: والناس يتفاضلون فيه تفاضلًا عظيمًا هو في الأصل -أعني كتاب العبودية- والناس يتفاضلون في هذا الباب، يعني: باب تحقيق العبودية لله -تبارك وتعالى- يتفاضلون تفاضلًا عظيمًا، يقول: هو تفاضلهم في حقيقة الإيمان؛ لأن الإيمان يزيد، وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.
الإيمان بضع، وسبعون شعبة[1] فكلما حقق العبد من هذه الشعب كلما ازداد عبودية لله -تبارك وتعالى- فتفاضلهم في العبودية هو تفاضلهم في الإيمان.
فيقول: وهم ينقسمون فيه إلى خاص، وعام، يعني: ينقسمون في هذا الباب، وإن شئت أن تقول: ينقسمون في الإيمان، بمعنى أنهم في عبوديتهم لله -تبارك وتعالى- ينقسمون، ولعل هذا أحسن من أن يقال: ينقسمون في الإيمان؛ لما يأتي.
ينقسمون في هذا الباب، يعني: في تحقيق العبودية، أو في العبودية لله -تبارك وتعالى- إلى خاص، وعام، الخاص هم أهل العبودية الخاصة، وهي عبودية الاختيار، فهم أقبلوا على الله وعبدوه بطوعهم، واختيارهم، وإرادتهم، آمنوا بالله تعالى، وأسلموا له، وعملوا بطاعته، فهؤلاء أهل العبودية الخاصة، وهذا الذي تجدونه في كتب التفسير، وفي غيرها حينما يقول الله : وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان: 63] أضافهم إليه قالوا: إن ذلك يفيد الاختصاص، يفيد اختصاصهم أن لهم مزيد اختصاص به، وأن هؤلاء أهل القرب منه عِبَادُ الرَّحْمَنِ [الفرقان: 63]، وأن هذه الإضافة تقتضي التشريف لهؤلاء، هذه العبودية الخاصة.
وأما العبودية العامة: فهي عبودية القهر، فلا يخرج أحد عن ذلك، كل الناس عبيد لله : إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا [مريم: 93-94].
فهؤلاء كلهم عبيده، كل من نراه، أكثر أهل الأرض هو عبد من عبيد الله هذا معنى أنهم ينقسمون فيه إلى خاص، وعام.
قال: ولهذا كانت ربوبية الرب لهم -وفي الأصل: إلهية الرب- فيها عموم، وخصوص، كلمة "ضروب" هذه زائدة، ليست في كتاب "العبودية" فيمكن الاستغناء عنها، لا حاجة إليها، ولو أنها، وجدت في كتاب "العبودية" لفسرت، وبين محملها، لكن لا حاجة إلى ذلك.
يقول: ولهذا -يعني لمّا تفاوتوا في العبودية الى خاص، وعام، وانقسموا- كانت ربوبية الرب لهم فيها عموم، وخصوص، فربوبية الله لأهل العبودية الخاصة، يعني لأوليائه، لأهل الإيمان أن الله -تبارك وتعالى- كما أنه يربيهم بالنعم، ويغذوهم بما يحصل لهم به نماء الأبدان، ويحصل لهم بذلك من الأقوات، والأرزاق، والعافية، وما شابه ذلك، فهذا يحصل لعموم الخلق، إلا أن الله يخصهم، فإن من معاني الرب كما أن من معانيه السيد، والمربي التربية بنوعيها، تربية الأبدان، وتربية القلوب، والأرواح، فالله يربي أولياءه تربية خاصة، ينقلهم من هداية إلى هداية، ويمن عليهم بالتوبة، ويوفقهم لعمل الصالحات، ويهديهم إليها، ويبصرهم بالحق، ويجعلهم من أهل الاستجابة، كل هذا من تربيته لأوليائه، فربوبيته الخاصة لهم أن يفيض عليهم من ألطافه، وكما قال الله : هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الأحزاب: 43] فهذه الصلاة لا تكون للكافرين، وإنما تكون لأهل الإيمان، وصلاته -تبارك وتعالى- على أوليائه هذا يدل على ما يحصل لهم من ألوان الألطاف، والهدايات، وما ينقلهم الله بسببه من طور إلى طور في مراتب العبودية، فيستقيم سيرهم على الصراط المستقيم، هذه الربوبية الخاصة، لمّا انقسموا إلى أهل عبودية خاصة، وعبودية عامة انقسمت ربوبية الله لهم إلى خاصة، وعامة، كلهم عباده تحت قهره، وتصرفه، يرزق من يشاء، ويعطي من يشاء، ويتقلبون بنعمه، وما إلى ذلك إلا أن أولياءه لهم مزيد اختصاص.
إذاً كلمة "ضروب" لا نحتاج إليها، وهذا نقله بتصرف من كلام شيخ الإسلام، وما بعده أيضًا نقله بتصرف، فلو تشيرون إلى مثل هذه الأشياء فقد تحتاجون إليها.
قال: من كان متعلقًا برياسة، أو صورة، ونحو ذلك من أهواء نفسه إنْ حصل له رَضِيَ، وان لم يحصل له سَخِط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له؛ إذ الرق، والعبودية في الحقيقة هو رق القلب، وعبوديته، فما استرق القلبَ، واستعبده فهو عبده.
هذه تابعة لما قبلها، لما ذكر أن الناس يتفاضلون في تحقيق العبودية، وأنهم ينقسمون إلى أهل عبودية عامة، وعبودية خاصة، ذكر بعده الحديث: تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم[2] يعني: كيف تتحول عبودية الإنسان أحياناً، ويسترق لشيء من هذا: الدينار، والدرهم، والخميصة، والخميلة، وهلمّ جرّا.
وذكر أيضًا ما ذكره الله في سورة براءة عن المنافقين: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [التوبة: 58] فكان رضاهم، وسخطهم معلقًا بالعطاء الدنيوي، إذا أُعطي شيئًا من شهواته، وحصلت له بعض نزواته حصل له الانشراح، والسرور، والإقبال، وإذا لم يحصل له شيء من ذلك حصل له الامتعاض، والغضب، والتسخط.
ثم ذكر شيخ الإسلام هذا الكلام الذي سمعتم، وهو في غاية النفاسة، يقول: من كان متعلقًا برياسة، يعني: سواء كان محصلًا لها، يعني كان على رئاسة يتعلق قلبه بها، أو كان طامحًا لها، يُعدّ نفسه ليحصِّل، ليتبوأ رئاسة من الرئاسات، فإنه إن كان محصلاً لها فهو يخشى الفوت، فيجبن عن كثير من المعروف، والخير؛ لئلا يفقد هذه الرئاسة، ويكون قلبه أسيرًا، عبدًا، ذليلًا لمن يظن أن رئاسته لا تقوم إلا به، فيكون فيه من الذل ما الله به عليم، والناس يرون أنه سيد مطاع، وأنه لا يكاد يستطيع أحد أن يدخل عليه، أو أن يكلمه، ولكن إذا نظرت إلى حاله مع من فوقه، وجدته مثل الفرخ، ابتسامة تكاد تشرح الوجه، وعيونه تكاد تخرج من مكانها، وهو في غاية الإصغاء، والإنصات، هذا الذي لا يستطيع أن يكلمه أحد إذا جلس مع من فوقه، رأيته عبدًا ذليلًا، ضعيفًا، صغيرًا، متصاغرًا، حقيرًا، ذليلًا.
تقول: هذا الذي لا يجرؤ أحد على الدخول عليه، ومكالمته، كيف تحول حينما جلس مع من فوقه إلى هذه الحال؟
لأن في قلبه عبودية، ولو لم يكن في قلبه عبودية كان رفع رأسه، وعلى الزين، والحمد لله، يتكلم بما يعرف من الحق، ويتلطف بما يليق، ويتأدب مع من هو أكبر منه، لكن لا يتحول ذلك إلى نوع تذلل، ومهانة، فهذا هو المذموم، الأدب مطلوب، وتعظيم، وتوقير من هو أكبر منه مطلوب، ولكن لا يتحول ذلك إلى ذل، ومهانة، هذا هو الفرق.
ومن كان طامحًا لذلك طامعًا فيه فإن ذلك لربما يقعده عن كثير من الحق، فيداهن في الباطل، ولربما ارتكب صنوفًا من الباطل؛ من أجل أن يتزين بذلك تارة إن كان ذلك يزينه عند من يطمع في تحصيل رئاسة منه، وما أشبه هذا، ويُجَبنه ذلك عن كثير مما يجب، فيكون عبدًا لكل ما يوصله إلى هذه الرئاسة: تعس عبد الدينار، والدرهم[3].
وبعض القلوب خاوية فارغة عن محبة الله، والإقبال عليه، وتعظيمه، وإجلاله، فصارت تملؤها مثل هذه الأمور التي يراها أهل الكمالات الإيمانية من التوافه، والمحقرات، وأنها لو عرضت عليهم لأبوا غاية الإباء من قبولها، بينما تجد أن البعض يبيع دينه فيها، ويبذل الأموال، ولو كانت رئاسة تافهة، ولو لم يكن له منها إلا أن تخرج صورته هنا، وهناك، ولو كانت تافهة ليس فيها نفع، ولا دفع، ولا رفع، ولا قيمة حقيقية اطلاقًا، لا جدوى فيها، ومع ذلك انظر أنواع العبودية التي تُبذل في سبيل تحصيل ذلك.
فالنفوس فيها ضعف، وقد لا يُكتشف هذا الضعف، لا يُعرف، وقد لا يعرفه صاحبه قد يظنه ذكاءً، و دهاءً، ومهارة، وما علم أنها عبودية لغير الله فيسعى بكل ما يستطيع، ويتكلم بكلام قد لا يؤمن هو به أصلًا من أجل أن يحصِّل هذا، ولعلكم رأيتم من هذا أشياء، وأشياء في أمور تافهة قد يستحي العاقل من ذكرها، ويشفق على أصحابها إذا رأى ما هم فيه، والله يعطي من يشاء ما شاء من العقل، والدين، وهذه العبودية، والله المستعان.
لكن أقول: إذا كانت القلوب فارغة مَلأها كل شيء، فهنا انظر ماذا يقول شيخ الإسلام: من كان متعلقًا برئاسة أو صورة[4] يعني ماذا يعني هؤلاء العشاق، الذي يعشق الصور الجميلة، يعني: الذوات الحسنة، صورة امرأة، صورة غلام، فهذا تجده مأسورًا؛ ولذلك تجد هذا في عباراتهم، وكتاباتهم التي يكتبونها على السجية، يكتب عبارات تدل على الحيرة، عبارات تدل على أنه يهيم، عبارات تدل على أنه مأسور، على أنه متوجع، ومتألم، ويرسم ما يدل على هذا، ويقرن اسمه دائمًا باسم محبوبه، ويحب أن يحاكيه في كل شيء، وأن يجتمع معه في أي شيء، المهم أن يكون هناك جامع مشترك، كما قال ذاك الشاعر المسكين الذي يعشق امرأة، ولم يجد رابطًا يربطه معها، فقال:
أليس الليلُ يجمع أم عمرٍو | وإيانا فذاك بنا تدانى |
هناك عامل مشترك يجمعنا أن الليل على الجميع، هناك شيء مشترك بيني، وبينها.
أليس الليل يجمع أم عمرو | وإيانا فذاك لنا تداني |
بلى وترى الهلال كما نراه | ويعلوها النهار إذا علاني[5] |
ما وجد شيئًا، ولذلك تجد الواحد من هؤلاء يحب دائمًا يعطي ما يستطيع، يقترض، يسرق، يحتال حتى يحصِّل المال ليعطي محبوبه شيئًا مما يشاكله به من لباس، من زينة، من خاتم؛ ليُوجِد نوع مشاكلة فيعشقه، ويعشق كل ما يمت إليه بصلة، هذا يوجد عند أصحاب القلوب الفارغة من محبة الله وتعظيمه، ومعرفته، وإجلاله.
والقلوب التي تمتلئ بالعبودية لا يوجد مكان لهذه التوافه فيها، ولو تأمل العبد عظمة الرب، وحقارة العبد لأدرك أنه مضيع.
وقال: ونحو ذلك من أهواء نفسه، يعني: مثل المال، وقد تستعبده زوجة يحبها، وتأسره بحسنها، وجمالها، وكلامها، وقد يكون عبدًا لولده، وقد يكون عبدًا لسيارة، لمركب، قد يكون عبدًا لبهائم، لإبل، قد سخر لها، وقد أخذت بمجامع قلبه، فهذا كله عبودية.
يقول: وهو رقيق له، يقول: إنْ حصل له رضِي، وإن لم يحصل له سخِط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له؛ إذ الرق، والعبودية في الحقيقة هو رق القلب، وعبوديته، وليس رق البدن؛ لأن الإنسان قد يكون مسترقًّا في بدنه -يعني قد يكون مأسورًا عند الكفار- ولكن قلبه طليق من جهة أنه عبد لله دون ما سواه.
يقول: فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له؛ إذ الرق، والعبودية في الحقيقة هو رق القلب، وعبوديته، فما استرق القلبَ، واستعبده فهو عبده.
كل ما استرق قلبَه، وإذا أردت أن تعرف مثل هذا في المال مثلًا، فإن المال الذي يكون باليد، ولو كان كثيرًا إن لم يحرك القلب، فمعنى ذلك أنك قد سلمت من عبودية المال، إن تحرك القلب مع المال، سواء كان المال قليلًا أم كثيرًا، بعض الناس ما عنده إلا مئات، أو عشرات، أو ريالات، لكن القلب يتحرك معها، يذهب، ويجيء، فمعنى ذلك أنها قد أخذت شعبة منه، أن القلب فيه نوع عبودية، فمثل هذا قد يُستزل، قد يحصل له إغراء، قد يحصل له انحراف بسبب المال، وقل مثل ذلك في الأمور الأخرى، فيعرف ذلك من حركة القلب، وإصغاء القلب، وميله.
ولا يخلو الإنسان من شهوات، وقد ركب ذلك في النفوس، ولكن الكلام حينما تأسره هذه الأمور، فيكون تابعًا لها، مقدمًا لأهواء النفوس على طاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ وسيأتي مزيدًا من إيضاح هذا في كلام نفيس لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في هذه الرسالة، كيف يكون التعامل معها؟ مع أنه لا بد للإنسان منها.
قال: العبد لا بد له من رزق، وهو محتاج إلى ذلك، فإذا طلب رزقه من الله؛ صار عبدًا لله فقيرًا إليه، وإذا طلب من مخلوق؛ صار عبدًا لذلك المخلوق، فقيرًا إليه.
شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عندما تكلم على قضية الطمع، ورق القلب، وسؤال الناس، لما ذكر هذه القضية قال: بأن الإنسان لا بد له من رزق، فالله قد ركب هذه الحياة على هذا الأساس، والسماء لا تمطر ذهبًا، وفضة، والله قال عن المرسلين -عليهم الصلاة والسلام-: وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [الفرقان: 20] يكتسبون، فلا بد للإنسان من تحصيل هذه المطلوبات، فما هو العمل؟ هو محتاج إلى هذا.
قال: فإذا طلب رزقه من الله صار عبداً لله، في الأصل فيه زيادة (لله) صار عبدًا لله، فقيرًا إليه، وإذا طلبه من مخلوق؛ صار عبدًا لذلك المخلوق، فقيرًا إليه؛ ولهذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يرى أن من كمال العبودية ألا يسأل الناس شيئًا أبدًا، ويذكر الحديث أن النبي ﷺ: "بايع بعض أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئًا، فكان السوط يسقط من يد أحدهم، ولا يقول لصاحبه: ناولنيه"[6].
بمعنى أنه لا يكون في القلب نوع افتقار إلى المخلوق، لكن هذه مرتبة عالية جدًّا من مراتب العبودية، لا يطالَب بها كل الناس، وليس ذلك من قبيل الواجب عليهم، لكن مهما استطاع الإنسان أن يستغني عن الناس، فذلك أكمل في حقه، كما يذكر شيخ الإسلام: "استغنِ عمن شئت؛ تكن نظيره، واحتج إلى من شئت؛ تكن أسيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره"[7]واليد العليا خير من اليد السفلى[8].
وكان -رحمه الله- يتكلم على طلب الدعاء من الغير، ومن جملة ما ذكر أن فيه نوع افتقار إلى المخلوق، إضافة إلى أمور أخرى ذكرها، فالإنسان لا يفتقر إلى المخلوقين مهما استطاع إلى ذلك سبيلًا، ولكن هناك أمور لا بد منها، والإنسان حينما يكون مزاولًا لأعمال يقوم فيها على غيره كالمدير، مدير العمل، أو العمال، أو المؤسسة، أو الشركة، أو الجهة، فلا بد أن يأمر، وينهى، وكذلك الرجل مع أهله، وأولاده، لا بد أن يأمر، وينهى، وليس هذا هو المقصود، إنما المقصود ما كان ذلك من قبيل ما عنه مندوحة من طلب الناس، ائتني بكذا، اشترِ لي كذا، احمل لي هذا، أعرني هذا، أقرضني هذا، وما شابه ذلك، هذا لا يقال: إنه حرام، ولكن الدرجات العالية أن لا يفتقر الإنسان للناس إذا استطاع، ولا أقل من أن يتقلل من ذلك؛ فلا يكون عالة على غيره، وإلا الناس لا بد لهم من بعضهم، يحتاجون إلى بعضهم، والحياة كما ذكر الله ركبها هذا التركيب من أجل حصول التسخير، فيسخر بعض الناس لبعض، ففاوت بينهم في الأرزاق، والمعايش، وما إلى ذلك.
قال: كلما قوي طمعُ العبد في فضل الله، ورحمته، ورجائه لقضاء حاجته، ودفع ضرورته قويت عبوديته لله، وحريته ممن سواه، وبالعكس.
وبالعكس، يعني: كما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له، فيأسه منه يوجب غنى قلبه عن هذا المخلوق، بمعنى أن العبد اذا عظم رجاؤه في الله كلما قوي طمعُ العبد في فضل الله، ورحمته، ورجائه لقضاء حاجته، قويت عبوديته، وحريته ممن سواه.
والقلب له أحوال عجيبة، يحتاج الإنسان أن يتبصر فيها، ومن نظر في حال نفسه، وحال غيره، ولو كانت بعض الأمور تافهة فيما يراه الإنسان لأول وهلة، إذا علق قلبه بها أشغله ذلك عما هو بصدده إذا كان في القلب نوع ضعف، إذا علق قلبه بمخلوق؛ اشتغل بذلك المخلوق، اشتغل قلبه به؛ ليحصِّل حاجته، وطليبته من هذا المخلوق، وإذا كان قد علق قلبه بالله فإنه يكون أعظم تحقيقًا للعبودية، فينقطع من الناس، وييأس مما في أيديهم، والقلب لا أحسن له من أن ييأس مما لا صلاح له فيه، أو مما لا يحصل إلا بنوع عبودية للمخلوقين؛ فإن القلب إذا رجا المخلوق استعبده هذا الرجاء، وتوجه قلبه إليه؛ فيأسره ذلك، ويشغله عما هو بصدده، وإذا انقطع طمعه، إذا يئس؛ انصرف، ولم يعد يلتفت إلى هذا الأمر.
انظر لهذا في نفسك، وفي أمور قليلة، يسيرة، تافهة، لو أنك أردت أن تشتري شيئًا يسيرًا، لا قيمة له، إكسسوارات للجوال، أو نحو ذلك، لربما يشغلك، لربما يخرج الإنسان من بيته ليشتري مع أنه لا ضرورة لذلك، يمكن أن يؤجل شهرًا، أو أن يؤجل سنة، وتجد الإنسان يبقى في حال من القلق حتى يحصله، هذا أثر الطمع في القلب، فتكون هذه الحاجة من حاجاته الدنيوية قد أخذت بشعبة من قلبه فأقلقته.
حينما تريد أن تضع زينة، أو نحو ذلك في الدار، أو في السيارة، أو نحو ذلك، ولا حاجة لها الآن، فتجد أن هذا لربما يورث قلقًا مستمرًّا، حتى يقوم الإنسان، ولربما في وقت متأخر من الليل، أو نحو ذلك؛ ليحقق هذه الحاجة، هذا نوع أسر للقلب، لكن القلب إذا انصرف؛ انقطع طمعه من هذا الأمر، فإنه لا يلتفت إليه، ويسلو القلب.
حينما يكون للإنسان حاجة من الحاجات، ذُكِّر بشيء قيل له: قدِّم للجهة الفلانية، قدم للدراسة الفلانية، دراسة عليا، قدم للعمل بالمكان الفلاني، كلم فلانًا، أو نحو ذلك، قبل هذا ما كان يفكر في شيء، فلما ذُكِّر بهذا بدأ القلب يشتغل، وبدأ يفكر في جميع الأسباب الموصلة إلى ذلك، وصار ذلك يقلقه، ويستحوذ على تفكيره، ولكن القلب إذا يئس؛ انصرف، وانقطع طمعه، فهذا الأمر يُحتاج إليه في تربيه النفوس، وإصلاحها، واصلاح القلوب.
لا تجعل الحاجة من حاجاتك الدنيوية تأسر قلبك، اجعل ذلك دائمًا خارجًا عنه، فيكون ذلك من قبيل بذل السبب، فيستخير الإنسان، ثم بعد ذلك يبذل السبب، ويدع ما وراء ذلك، يقطع قلبه عن الاشتغال.
وهذا أمر نشاهده حينما يقال لهذا الإنسان: لا، هذه المعلومة خطأ، أصلًا هذا غير وارد، هذا لا يتأتى لمن كان بمثل حالك، رجع القلب أدراجه، وقبل ذلك كان في غاية الاشتغال، فتفطنوا لمثل هذه القضية، فكم من القضايا تأسرنا، ولو كانت تافهة، ولذلك يجد الإنسان أحيانًا أمورًا كثيرة تملأ قلبه، ويجد شغلًا كثيرًا لا حقيقة له في الواقع، ولكنها القلوب حينما تكون مشوشة مشغولة، فيضيع كثير من الجهد، والزمان، ولا يتفرغ القلب لعبودية الله وتحصيل المطالب العالية بسبب هذا التشويش.
إنسان متزوج، فذُكرت له امرأة في غاية المواصفات من الحسن، والجمال، وأنها مستعدة للتزوج به، هو قبل ذلك ما كان عنده أي تفكير، صار لا يعرف يقرأ، ولا يعرف يكتب، ولا يعرف ينام، ولا يعرف يقضي حاجة من حوائجه، ومصالحه، ولا يعرف يصلي، قلبه مشغول؛ لأنه وُجد الطمع.
لكن لو قيل له: هذا الكلام غير صحيح تبين أنه خطأ، ولا حقيقة لذلك، رجع القلب أدراجه، إذا اتضح هذا القدر، فلك أن تسرح الذهن في جميع الأودية التي يحصل بها تفرق القلب في شعابها؛ ولهذا جاء عن حذيفة أنه كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من تفرق القلب" فسئل عن هذا؟ فقال: "أن يكون له في كل وادٍ مال" -والله المستعان-.
الخلاصة: أن الإنسان يعلق قلبه بالله، ويبذل الأسباب، ولا يعلق قلبه، ورجاءه بالمخلوقين.
قال: إعراض القلب عن الطلب من الله، والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية لله، لاسيما من كان يرجو المخلوق، ولا يرجو الخالق، بحيث يكون قلبه معتمدًا إما على رئاسته، وجنوده، وأتباعه، ومماليكه، وإما على أهله، وأصدقائه، وإما على أمواله، وذخائره، وإما على ساداته، وكبرائه، كمالكه، ومُلكه، وشيخه، ومخدومه، وغيرهم ممن هو قد مات، أو يموت، قال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ [الفرقان: 58].
ويقول في كلام يتبع هذا، وهو في غاية النفاسة لا يقل عن هذا، وقد حذفه الشيخ -رحمه الله- لكن يمكن أن أذكره، يقول: "كل من علق قلبه بالمخلوقين أَن ينصروه، أو يرزقوه، أو أن يهدوه، خضع قلبه لهم، وصار فِيهِ من الْعُبُودِيَّة لَهُم بِقدر ذَلِك، وَإِن كَانَ فِي الظَّاهِر أَمِيرا لَهُم، مُدبرًا لأمورهم، متصرفًا بهم، فالعاقل ينظر إِلَى الْحَقَائِق، لَا إِلَى الظَّوَاهِر، فالرجل إِذا تعلق قلبه بِامْرَأَة وَلَو كَانَت مُبَاحَة لَهُ –زوجة يعني، أو أمة- يبْقى قلبه أَسِيرًا لَهَا، تحكم فِيهِ، وتتصرف بِمَا تُرِيدُ، وَهُوَ فِي الظَّاهِر سَيِّدهَا، فَإِنّ أسْر الْقلب أعظم من أسر الْبدن، واستعباد الْقلب أعظم من استعباد الْبدن، فَإِن من استُعبد بدنه، واستُرق وَأسر لَا يُبَالِي إِذا كَانَ قلبه مستريحًا من ذَلِك، بل يُمكنهُ الاحتيال فِي الْخَلَاص"[9].
هذا الكلام الذي ذكره بعده مباشرة، فهو يقول: الرجل حينما يكون عبداً لهذه المرأة، قد أسره حبها، هو سيدها في الظاهر؛ لأنه زوجها، أو مالكها، وهي في الواقع سيدته، وهو عبد رقيق لها، يقول: وهكذا من كان لا يقوم مُلكه إلا بهم من الأعوان، وما إلى ذلك، فإنه في الظاهر ملِك مطاع، وهو في باطن الأمر مسترق لهؤلاء الذين قد وجه قلبه لهم؛ من أجل أن يقيموا ملكه، أو أن يحفظوه من الزوال، أو نحو ذلك، سواء كان هؤلاء من كبرائه، وأهل مملكته، أو كانوا من جنده، ومن الذين لا شأن لهم، فيكون قلبه مسترقًّا لهؤلاء.
فالرق هو رق القلب، وليس رق البدن، والإنسان ينبغي له أن يجعل قلبه مُعبَّدًا مسترقًّا لله وحده دون ما سواه، أما الأمور الدنيوية فيبذل الأسباب، لكن القلب يوجهه إلى الله، لا يتوجه إلى المخلوقين، فإنه إن توجه إلى المخلوق؛ حصل له من أنواع الرق، والآفات ما يعطبه، ويفسده، والله المستعان.
قال: عبودية القلب، وأسره هي التي يترتب عليها الثواب، والعقاب.
يعني: ذلك لا يرجع إلى عبودية، واسترقاق البدن، الإنسان حينما يكون مأسورًا عند الكفار، ولا يستطيع أن يقوم ببعض وظائف العبودية؛ فهو معذور، وحينما يكون الإنسان مملوكًا لا يستطيع حضور الجمعة، ولا يستطيع القيام ببعض الوظائف التي لا يقوم بها المماليك؛ فإنه يكون بذلك معذوراً، فاسترقاق هذا المسلم ببدنه لا يضر إذا كان قائمًا بما يقدر عليه من الواجبات.
يقول شيخ الإسلام هذا الكلام، ويقول: "ولو أُكره على التكلم بالكفر فإن ذلك إذا تكلم به مع أن قلبه مطمئن بالإيمان؛ فإن ذلك لا يضره، أما من استُعبد قلبه، فصار عبداً لغير الله؛ فهذا يضره ذلك، ولو كان في الظاهر هو ملِك الناس"[10] هذا تمام كلام شيخ الإسلام -رحمه الله-.
فالعبودية، والرق هو رق القلب، قد يكون الإنسان عنده مال كثير، ويظن الناس أنه أسعد الناس، والواقع أنه أشقى الناس؛ لأنه عبد لهذا المال، رقيق له، كالحارس قلبه يذهب يمينًا، وشمالًا، وإذا تحدث الناس عن الأزمة العالمية الاقتصادية بدأ قلبه يصيبه أنواع الوجل، والقلق، وانتابته المخاوف، وصار يفكر كيف يكون المخرج، وكيف يتصرف، ولا ينام تلك الليلة، والله المستعان.
قال: والقلب إذا ذاق طعم عبادة الله، والإخلاص له لم يكن شيء قط عنده أحلى من ذلك، ولا أطيب، ولا ألذ، والإنسان لا يترك محبوبًا إلا بمحبوب آخر، يكون أحب إليه منه، أو خوفاً من مكروه، فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح، أو بالخوف من الضرر.
هذه طريقة في المخرج، والعلاج كيف العمل؟ كيف السبيل؟ ذكر جملة من الأمور، منها هذا المعنى، أن من ارتاضت نفسه على طاعة الله، وعبوديته، وذاق طعم الإيمان فإن ذلك لا يعدله شيء.
يقول: الإنسان لا يترك محبوبًا إلا بمحبوب، فهذا الذي تسترقه هذه المرأة الحسناء الزوجة التي أخذت بمجامع قلبه، إذا كان هذا الإنسان ذاق حلاوة الإيمان؛ فإن ذلك لا يعدله حلاوة أبدًا، ولا يمكن أن يعدل ذلك لذة من لذات الدنيا الفانية، وإذا انفتحت بصيرة القلب، وصار يبصر من غير تكدير، فإنه يرى الأمور على حقائقها، فلا يأسره شيء من هذا الحطام، حينما ينظر إلى هذه المرأة التي في غاية الجمال البصيرة تريه أمورًا أخرى تجعله لا يقدم هذه المرأة على شيء من محبوبات الله -تبارك وتعالى- إنما هو شيء يتبلغ به فحسب، متاع الحياة الدنيا، لكن الأمر لا يصل إلى ما هو أكثر من ذلك، لا يصل إلى القلب، نعم هو يحبها بقلبه، لكنه لا يكون عبدًا لها، الإنسان يحب المال وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر: 20] لكن لا يسترقه المال، فلا يترك محبوباً إلا بمحبوب.
والحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح، فعلى الإنسان أن يعالج قلبه، ويرتقي بإيمانه حتى يذوق حلاوة الإيمان، وعندها لا يفكر بشيء وراء ذلك، لا يشتغل قلبه، ولا يتشوش، بعض الناس يقول: حاولت، وما استطعت، أنا معذب، أنا أتعب، أنا مبتلى بحب الصور، وما إلى ذلك، نقول له: لأن هذا القلب فارغ، وبعضهم يتحير معه الناس، يقول: بإنه في بعض الأماكن التي لربما يتعلم فيها، أو نحو ذلك، نقول: انتقلْ إلى مكان آخر، انقلوه، يقولون: نقلناه؛ فتشبث بآخرين، انقلوه إلى مكان ثالث؛ تشبث بآخرين، فهذا يدل على أن القلب فارغ، فحيثما ألقيته؛ فإنه يعلق بهذه الأمور التوافه، والله المستعان.
قال: والقلب خُلق يحب الحق، ويريده، ويطلبه، فلما عرضت له إرادة الشر طلب دفع ذلك، فإنه يفسد القلب كما يفسد الزرع بما ينبت فيه من دَغَل.
يقول: إن القلب -يعني هذا الأمر ينبغي أن يلاحظ- خُلق يحب الحق، يعني هذه الفطرة أصلاً، ويطلبه، لكن هذه الأمور العارضة من إرادة الشر، والميل إليه، وتعبيد القلب لغير الله صار به يدفع الحق؛ لأن هذه الأمور العارضة تفسد القلب، كالدغل الذي يكون في الزرع؛ ولذلك يحتاج الإنسان دائمًا أن يستأصلها من مبدئها، وأولها قبل أن تترعرع، فإذا كثرت فيه، وترعرعت، وغفل عنها أفسدت قلبه، وصار لا ينتفع به بحال من الأحوال، فكثير من الناس يغفلون عن قلوبهم، فتنبت فيه هذه الأمور من الشوائب حتى تتحول إلى أشجار يصعب قطعها، الأمراض هذه التي تعشعش في قلبه، لكن دوام التعاهد للقلب، وملاحظة الإرادات الفاسدة فيه، والخواطر، أولاً بأول هو الطريق، لكنها إذا قويت، وتمكنت؛ صعب قلعها، وضعف الإنسان أمامها؛ ولذلك بعض الناس يقول: حاولت، وما أستطيع، بعض الناس يقول مثلًا: إن امرأته تهينه غاية الإهانة، بل يصل الأمر إلى الضرب، وتعيره، وتذكر أمورًا لا يحسن ذكرها، وهو صابر، فسألته هل هي جميلة جدًّا؟ قال: نعم، قلت: أتستطيع أن تفعل ما أمر الله به من الوعظ؟
قال: وعظتها، ولم ينفع.
قلت: فالهجر.
قال: هذا الذي لا أستطيع.
الهجر في المضاجع؟
قال: هذا الذي لا أستطيع، قلت: فهذا الذي أوردك المهالك، فما تقول؟ قال: لا أصبر عنها، قلت: إذاً اصبر على أذاها، لا يستطيع، مأسور، مغلوب، مقهور، فعرفت هي ذلك؛ ولهذا نحن نقول لمن يريدون الزواج في البداية: من الخطأ أن يُظهر الإنسان كل المشاعر الفياضة التي عنده لأول وهلة، خطأ أن يبدي جفاءً، أو أن يكون غامضًا، بل يبدي مشاعر طيبة، لكن بعض الناس يجعلها مقدَّمة على كل شيء، ولربما قبّل رجلها، ولربما قال لها كلاماً أنها أحب إليه من أبيه، وأمه، والناس أجمعين، فتدرك أنها قد أخذت بمجامع قلبه، فإن لم يكن عندها وازع من الخوف من الله ومراقبته تسلطت عليه، وعرفت أنه قد استُرق لها، فكانت تصرفاتها بمقتضى هذا، السيد مع العبد، وهو لا يستطيع أن يتخلص من هذا، فهذا كله راجع إلى عبودية القلب.
وأنا أرى أن هذه الأمور تحتاج إلى تعليق، وتحتاج إلى هذا التنبيه، وبعض الإخوان يقولون: لماذا نستعجل، ونريد أن نستفيد -والله المستعان- وكتاب العبودية فيه من النفائس ما يصعب مجاوزته.
قال: ومطالب النفوس، وأغراضها نوعان:
منها: ما هو محتاج إليه كما يحتاج إلى طعامه، وشرابه، ومسكنه، ومنكحه، ونحو ذلك، فهذا يطلبه من الله، ويرغب إليه، فيكون المال عنده يستعمله في حوائجه بمنزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه، بل بمنزلة الكنيف الذي يقضي حاجته فيه من غير أن يستعبده، فيكون هلوعًا: إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج:20-21].
ومنها: ما لا يحتاج إليه العبد، فهذا لا ينبغي له أن يُعلَّق قلبه بها، فإذا تعلق قلبه بها؛ كان مستعبدًا لها، وربما صار معتمدًا على غير الله فيها، فلا يبقى معه حقيقة العبادة، ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير الله، وشعبة من التوكل على غير الله.
هذه المعالجات التي ذكرها شيخ الإسلام -رحمه الله- الرابع والستين يذكر أن ذوق حلاوة الإيمان يصرفه عن كل حلاوة، ولذة تزاحم ذلك في قلبه، هذه واحدة.
الثانية: وهي طبيعة القلب أنه يحب الحق، ولكن هذه العوارض كالدغل، إذًا عليه أن يتنبه لهذا، وأن يتعاهد قلبه، ثم بعد ذلك في السادس والستين ذكر مطالب النفوس، الإنسان لا بد له من حاجاته، ومطالبه، وتحصيل شهواته المباحة، وما إلى ذلك، فما العمل؟
يقول: هذا نوعان: نوع يحتاج إليه، يحتاج إليه، مثل السيارة، ومثل أن يكون عنده مال، لا يحتاج معه إلى الآخرين، يعني يستغني عن الآخرين، ولا أقصد التكثر، يحتاج إلى مسكن، يكون عنده بيت، ربما يكون عنده استراحة يستجم بها، أو مزرعة، أو نحو ذلك، فما العمل، هل يكون قلبه مسترَق بها؟
الجواب: لا، أن تكون هذه الأشياء بمنزلة حماره الذي يركبه، والكنيف الذي يجلس عليه لقضاء الحاجة، فهل هذا الكنيف يسترقه؟
لا، فتكون هذه المطالب، والحاجات الدنيوية هي بهذه المنزلة، يتعاطى معها على هذا الأساس، أنه يحقق حاجته، ولكن من غير أن يصل ذلك إلى قلبه، يتبلغ بها، فيكون المال بيده لا في قلبه، وأما ما لا يحتاج إليه، مثل التكثر الزائد، فمثل هذا ينبغي أن يصرف نظره عنه، عنده سيارة، لكنه يريد سيارات، عنده دار، ويريد دورًا، عنده ما يكفيه من حوائجه، ومتاعه، ونحو ذلك، فكلما رأى شيئًا تعلق قلبه به يريد أن يحصِّله، كما قلت: لو كانت أمورًا تافهة إذا فُتح هذا الباب، حقيبة السفر يحصل بها الغرض، لا، كلما رأى شيئًا تعلق قلبه بها، رآها في دعاية، رآها في كتلوج، وتجده لربما يقلق ذلك اليوم حتى يذهب، ويشتريها، مع أنه ليس مسافرًا اليوم، ولا بعد أسبوع، ولا بعد شهر، لكن اليوم تتحقق، هذا القلب حينما يعلق بشيء من هذا الحطام.
فهذه الأمور التي لا يحتاج إليها ينبغي أن يصرف قلبه عنها حتى يستريح؛ ولهذا جاء كلام حذيفة من الاستعاذة، من تفرق القلب، لمّا يكون في كل واد مال؛ يتفرق قلبه، فهو عنده مصنع يريد أن يفتح مصنعًا في نشاط آخر، وثالثًا، ورابعًا، وأن يكون عنده مزرعة، وأن يكون عنده منجرة، وأن يكون عنده محل ألمنيوم، وأن يكون عنده مخبز، إلى آخره، لماذا كل هذا التشعب، وهذا التشتت؟! كل هذا القلق من أجل الرزق؟!
هي لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، وأجلها[11] فهذا مزيد من العذاب، هو إنما يحصّل الإنسان المال ليسعد به، ويستريح، فهؤلاء يضاعفون الشقاء على أنفسهم، فيكون الواحد يجري خلف هذا المال، ويحرسه، وقلبه يتبعه فيبقى كما قال أحد كبار هؤلاء في مقابلة أجريت معه: أنه منذ ثلاثين سنة ما جلس يومًا، واحداً مع أولاده على طعام، فما فائدة هذا المال؟! بينما الفقير كل يوم فطور، وغداء، وعشاء، والعصر يشرب شاهي معهم، والمغرب يتقهوى معهم، وينام بعدما يتعشى، بعد صلاة العشاء بقليل، وتسعد به زوجته، وتأنس به، والحمد لله، وذاك يفتخر من ثلاثين سنة..، وأحدهم سمعته قال: منذ خمس وثلاثين سنة، هذا البحر الذي عندكم، القريب، وهو هنا، هذا البحر ما رأيته، خمس وثلاثين سنة، بينما الآخرون يظنون أن عنده يختات مرابطة في البحر، طول الوقت، وهو في منتجعات، وشاليهات، مذ خمس وثلاثين سنة ما رآه، ما معنى هذا؟
عمل دائم لا ينقطع، مثل هذا لا يعرف الإجازات، وهو في تجارته، لم يجبر على هذا، فالقلب يستريح بالانصراف عما زاد عن حاجته، فلا داعي لمثل هذا، وهذه القضية أكثر من يحتاج إليها النساء،؛ لأن المرأة تهوى هذه الأشياء كثيرًا، تحب أن تشتري دائمًا حتى ما لا حاجة لها به، تستمتع بهذا الشراء، وقلبها يتعلق بهذه الأمور التي تراها، أو تسمع عنها، أو تراها على الآخرين من لباس، أو ترى معهم من التحف، أو الأواني، أو غير ذلك، فتسأل عن هذا كثيراً، وتتطلبه، وتبحث عنه، وتبقى مشغولة دائمًا، فيكون ذلك مثل الذي يتتبع أمواج البحر، لا نهاية لها، لا نهاية للجديد، والغريب على الإنسان، وإنما لا أحسن من أن يسلو الإنسان، ويكتفي بحاجته، ولا يشعب، ويشتت قلبه.
فشيخ الإسلام يقول عن هؤلاء الذين يُعبِّدون قلوبهم لغير الله -مما ذَكر-: وهذا من أحق الناس بقوله ﷺ: تعس عبد الدينار -ذكره بعد هذا الكلام- من أحق الناس بقوله ﷺ: تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم [12] .
وقال: وحقيقة الجهاد: الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان، والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر، والفسوق، والعصيان.
يعني: هذا معنى الجهاد بمفهومه العام، وهو جهاد النفس على طاعة الله للاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان، والعمل الصالح، ودفع ما يبغضه الله من الكفر، والفسوق، والعصيان، وأعلاه، ورأسه قتال الكفار، فإنه لا يصل إلى ذلك إلا من خرج عن أن يكون قلبه مسترقًا لشهواته، ونزواته.
شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يذكر قبل هذا الكلام أن الله جعل لأهل محبته علامتين:
الأولى: اتباع الرسول.
والثانية: الجهاد في سبيل الله.
قال: وذلك لأن الجهاد حقيقة الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان[13] ، يعني: أنهم أهل اتباع، وأهل مجاهدة؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يتحقق له الاتباع، والسير على الصراط المستقيم إلا بدوام المجاهدة، فإنه إن لم يجاهد نفسه؛ أقعدته عن كل مطلوب من المطالب العالية، فيكون في حال من الضعف، وتتلاشى عنده معاني العبودية، ويضعف عن القيام بوظائفها، الاسترسال مع النفوس أمر يورث هذا كما هو مشاهد، فيحتاج الإنسان إلى دوام المجاهدة، ولكن ينبغي أن نتفطن لأمر، وهو أن هذه المجاهدات الكثيرة كما يقال: كثرة المجاهدات، والمزاولات تورث الملكات، إذا جاهد الإنسان يمكن أن ترتاض النفس على مرتبة، فيكون ذلك بالنسبة إليها سجية، فلا يجد مشقة؛ لأن النفس قد ارتاضت في العبادة، والطاعة فيما يتصل بمرتبته التي وصل إليها، فإذا أراد أن يرتقي يحتاج إلى مزيد من المجاهدة، حتى ترتاض النفس، فإذا ارتاضت؛ فإنها لا تجد مشقة في ذلك، فيحتاج إلى مزيد من المجاهدة؛ ليرتقي فوقها، وهكذا، هذا سر من أسرار النفوس، ولذلك إذا انحدر الإنسان، وضعف عن مرتبته التي هو عليها بسبب مرض، أو بسبب سفر، أو بسبب انشغال، أو عوارض؛ فإنه يصعب عليه الرجوع إلا بمجاهدات ما كان يجاهدها قبل ذلك حينما كانت نفسه مرتاضة، الإنسان الذي يقول: أنا متعود أقوم الليل، ثم شُغل، أو مرض، أو نحو ذلك، يقول: أنا معتاد أني أقرأ في اليوم مائة وخمسين صفحة، معتاد على هذا، ثم شُغل، صار ما يقرأ، مضى عليه شهور؛ يصعب عليه أن يقرأ مطوية.
الذي قد اعتاد على الكتابة، والتأليف، وارتاضت نفسه على هذا، يقوم من فراشه يكتب، يجد شيئًا يحمله من الفراش، فينهض، ويكتب، البخاري كان يقوم مرات من فراشه، إذا انشغل عن هذا بأمر آخر، لو أراد أن يجلس، ويروض نفسه ليكتب نصف صفحة ما يستطيع، يشعر بأتعاب، وثقل، ويقوم لأدنى العوارض، يبحث عن شيء ينشغل به، كل مدة يسيرة يقوم، من اتصل؟ من عند الباب؟ من الذي دخل؟ صوت من هذا؟ ماذا عند فلان؟ وما كان يفعل هذا من قبل، لكن يبحث عن أي شيء، يذهب يشرب، وهو لا يريد الشرب أصلاً، فهذا أمر مشاهد، يحتاج الإنسان إلى معرفته من نفسه، وحاله.
وقل مثل ذلك في الصلاة، والعبادات، الذي لا يصلي إذا أردته أن يصلي الصلوات الخمس في المسجد، قال: هذا شيء صعب، فيستثقل ذلك، والذي لا يعرف صلاة الفجر في المسجد، ولا يصلي إلا بعد طلوع الشمس إذا أراد أن يصلي الفجر في المسجد هذا يحتاج إلى مجاهدة عظيمة، واستعداد، ووضع أربع ساعات في قدور متداخلة، ويوصي آخرين ليوقظوه، ومع ذلك لا يستيقظ، لكن الذي اعتاد يرى أن هذا أمر طبيعي، لا يحتاج إلى هذا كله، وقل مثل ذلك في الأعمال التي نعملها، حتى في الأشياء العادية، الإنسان منا حينما يكون في الإجازة ينام إلى الظهر لربما، ولا يستيقظ إلا لصلاة الظهر، لكن في مثل هذه الأيام الناس يصلون الفجر لربما لا ينامون، أو ينامون قليلاً ثم يذهبون إلى أعمالهم، ومدارسهم، وفي غاية النشاط، والحيوية ما الذي تغير؟ لماذا يوم الخميس يكسل، ويضعف؟! ولربما لو رأى أحدًا يخرج في الساعة الثامنة، والنصف، أو التاسعة يرى أن هذا قد جاء بما لم يأتِ به الأوائل، لماذا؟
حينما تحْضر درساً في الأسبوع يومًا واحدًا لربما تشعر أنك حققت إنجازًا كبيرًا، ولربما لو وضع في الدورة ثلاثة دروس في اليوم يشعر أن هذا شيء كثير، طيب أنت في المدرسة، والجامعة تدرس خمسة دروس في اليوم، هي النفس حينما يكون الجدول، جدول المحاضرات في الجامعة عند الأستاذ، ثلاث محاضرات في الأسبوع، ويعطى في بعض الفصول الدراسية ست، أو سبع محاضرات، يرى أن هذا شيء لا طاقة له به، بينما المعلم في التعليم العام يدرس أربعًا وعشرين، ولربما أكثر، ويرى أن الوضع طبيعي، لكن هذا لو أعطيته أربعًا وعشرين قتلته، يموت، لا يستطيع أن يعيش، كيف أدرس أربعًا وعشرين؟ هي النفس.
فهذا يحتاج إلى فقه في التعامل معها، والنظر في أحوالها، وتقلباتها، والمجاهدات، فكلما روضتها على مرتبة، فإياك أن تنزل منها، بل جاهد على التي بعدها حتى تصل، وهذا هو الطريق، وبهذا تحصل الكمالات، ولا يمكن أن تحصل الكمالات من الأمور الجمعية، نعم هذه يستفيد منها الإنسان، أمور جمعية مثل هذا الدرس، وغيره، مثل المحاضن التربوية يحصل فيها كمالات عامة، لكن التميز في سلم العبودية، أو في العلم، أو غير ذلك، هذا يحتاج إلى مجاهدات دائمة، مستمرة حتى يصل الإنسان، والله المستعان.
قال: وكلما قويت المحبة في القلب، طلب فعل المحبوبات، فإذا كانت المحبة تامة، استلزمت إرادة جازمة في حصول المحبوبات، فإذا كان العبد قادراً عليها؛ حصّلها، وإن كان عاجزاً عنها؛ ففعل ما يقدر عليه من ذلك كان له كأجر الفاعل.
وكما سبق بأن هذه الأشياء التي يعجز عنها، وهو يرغبها، ويطلبها، ويتمناها أنه يحصّل أجر من عملها، ولكن في الكمال ذاك أكمل، والنبي ﷺ يقول: من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه[14] فالإنسان قد يحصّل أمورًا لم يعملها، وهكذا أيضاً في قوله ﷺ: إن أقوامًا بالمدينة خلفنا، ما سلكنا شعبًا، ولا، واديًا إلا، وهم معنا فيه، حبسهم العذر[15] إلى آخره، وهكذا في آية براءة: تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ [التوبة:92].
هؤلاء نفى عنهم أن يكون عليهم سبيل، فالقلب كلما قويت فيه المحبة كلما أقبل على الطاعة، وكانت رغبته فيما عجز عنه أعظم من غيره، يعني: هو يقبل على ما يستطيع، والأمور التي لا يستطيعها تجد أن القلب يتوق إليها، هذا إذا قويت محبة الله في القلب، فتكون همته في الخير؛ ولهذا يذكر الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي -رحمه الله- في بعض كتبه أن الإنسان دائمًا ينوى الطاعة، والخير، فإن حصل له ذلك، وأعين عليه؛ فهو إلى خير، وفي طاعة، ومعروف، وإن عجز عنه؛ كان لهُ نية الخير، فلا ينقطع أبدًا من ذلك.
قال: إذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد، كان دليلاً على ضعف محبة الله ورسوله ﷺ في قلبه.
ولهذا يقول بعده: بأن المحبوبات غالبًا لا تنال إلا باحتمال المكروهات، يحتاج إلى صبر، الصعود إلى القمة يحتاج إلى صبر، وما كل الناس يصبر على ذلك، فإذا أراد الإنسان أن يرتقي عليه أن يضحي، وعليه أن يصبر، أن يضحي بكثير من فضول اللذات، والمباحات حتى يصل، ويبلغ إلى مطلوبه.
فهو يتكلم عن هذا المعنى، وهو يريد بالجهاد -كما يذكر قبل هذه الجملة- بذل الوسع، يعني المعنى السابق، الجهاد بمعناه العام، بذل الوسع، وهو كل ما يملك من قدرة في حصول محبوب الحق، ودفع ما يكرهه الحق.
يقول: فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان دليلا على.. يعني هذه الجملة لو أنها أضيفت، والجملة التي بعدها كان ذلك أوضح في الكلام، الجملة التي قبل ما ذكره هنا يقول: "والجهاد هو بذل الوسع" ثم يفسر الوسع فيقول: "هو كل ما يملك من القدرة في حصول محبوب الحق، ودفع ما يكرهه الحق، فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان دليلاً على ضعف محبة الله، ورسوله في قلبه، ومعلوم أن المحبوبات لا تنال غالبًا إلا باحتمال المكروهات"[16].
قال: كلما ازداد القلب حبًّا لله، ازداد له عبودية وحرية عما سواه، وكلما ازداد له عبودية؛،ازداد له حبًّا، وحرية عما سواه.
هذا مضى الكلام عليه في ثنايا الكلام السابق، فحرية القلب هي في عبوديته لربه، وإلا يكون مأسوراً، مسترقاً، وقوله: وحرية عما سواه في الموضعين هذه زيادة من الشيخ -رحمه الله- على كلام شيخ الإسلام -رحم الله الجميع-.
قال: القلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا يسر، ولا يلتذ، ولا يطلب، ولا يسكن، ولا يطمئن إلا بعبادة ربه، وحبه، والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن، ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه من حيث هو معبوده، ومحبوبه، ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح، والسرور، واللذة، والنعمة، والسكون، والطمأنينة، وهذا لا يحصل إلا بإعانة الله له، لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله، فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] فهو مفتقر إليه من حيث هو المطلوب، المحبوب، المعبود، ومن حيث هو المستعان به، المتوكل عليه، فهو إلهه، لا إله غيره، وهو ربه، لا رب له سواه، ولا تتم عبوديته إلا بهذين.
هذا أصل نافع، يحتاج العبد إلى معرفته، وحاصل ذلك أن القلب فيه فقر ذاتي، لا يمكن أن تُسد حاجته إلا بأن يوجه إلى ربه، وخالقه، فيستغني به عما سواه، هذا هو الطريق، وإذا وجه إلى غيره زاده ذلك وحشة، وضعفًا، وعلة، ومرضًا.
فالذين يجدون وحشة في قلوبهم، الذين يجدون ألمًا يعصر نفوسهم، الذين يجدون ضيقًا في صدورهم، هذه هي العلة، القلب فيه فقر ذاتي لربه، وخالقه.
"إن في القلب، وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله" كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله-: "وفيه، وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته، وصدق معاملته، وفيه فقر لا يذهبه إلا صدق اللجأ إليه، ولو أعطي الدنيا، وما فيها لم تسد هذه الحاجة أبداً"[17].
فتجد الإنسان مطالبه حاصلة، ماذا يريد؟ يريد عملًا؟ يعمل، يريد زوجة؟ تزوج، يريد سيارة؟ عنده سيارة، طلب سيارة من نوع آخر يتمناه، حصل له، ومع ذلك الضيق يلاحقه، ذهب يتنزه هنا، ذهب يتنزه هناك، ذهب يستجم، ذهب إلى بلد آخر، ويجد هذه الوحشة تلاحقه، والضيق يلازمه، هو ينقل ضيقه معه بأسبابه، ولكن الطريق أن هذا الفقر الذاتي ينبغي أن يعالج، وذلك بتوجيه القلب إلى ربه، وفاطره، وخالقة بكليته، فتكون رغبته إلى الله وحده، وتكون عبوديته لله وحده، فيكون مقبلاً عليه بأنواع العبادات المتصلة باللسان، والقلب، والجوارح، وكلما كان أكثر تحقيقًا لهذه المطالب؛ فإنه يكون أكثر اتساعًا، وانشراحًا؛ ولذلك تجد الله يقول: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ [الزمر: 22] فسماه شرحًا، ويقول: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ [الرعد: 28] قال: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1] ويقول: يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام: 125] نسأل الله العافية.
فهؤلاء الذين يجدون الضيق، والوحشة، والكآبة، والحزن، وما إلى ذلك، ولا يدرون سببه، لأن هذه الأمور العارضة تارة تكون بسببٍ مدرَك، من فقد من يحب، أو نحو ذلك، أو ما يحب، وتارة يكون ذلك بسبب غير مدرك، ما هو السبب؟ هو تلاشي قوى القلب، وضعف تحقيق العبودية فيه، فيجد هذه الوحشة، ويجد هذا الضيق، فهذا القلب مجبول، مفطور على هذا الفقر الذاتي الذي لا يمكن أن يُملأ بشيء آخر، ما يُملأ بعطاء دنيوي، ما يملأ بأطيب الأكلات، ما يملأ بأطيب المنتجعات، وأحسن المناظر، ممكن يحصل له شيء من اللذة العارضة، المؤقتة، لكنه يرجع إلى حاله الأولى، فكلما أردت مزيدًا من الانشراح، والسعادة، واللذة، والسرور؛ فعليك بمزيد من الإقبال على الله، وتوجيه القلب إليه، فيكون عامرًا بحبه، وذكره، ورجائه، والخوف منه، وما إلى ذلك من التوكل عليه، والاستعانة به.
والله سبحانه هو رب العالمين، وكل ما سواه فهو مربوب، مفطور، فقير، محتاج، معبَّد، مقهور، وهو الواحد القهار الخالق البارئ المصور، وهو وإن كان خلق ما خلقه بأسباب، فهو خالق السبب، والمقدر له، وهذا مفتقر إليه كافتقار هذا، وليس في المخلوقات سبب مستقل بفعل، ولا دفع ضر، بل كل ما هو سبب فهو محتاج إلى سبب آخر يعاونه، وإلى ما يدفع عنه الضرر الذي يعارضه، ويمانعه، وهو سبحانه وحده الغني عما سواه، ليس له شريك يعاونه، ولا ضد يناوئه، ويعارضه.
هنا يقرر أصلا كبيرًا؛ من أجل ملء هذا الفقر الذاتي الذي في القلب، يقول: الله هو الرب وحده، وكل ما سواه مربوب، مقهور، إذًا وجه قلبك إليه، لا تعلق قلبك بالأسباب، لا تعلق قلبك بالمخلوقين، بالناس، يقول: هذه الأسباب منها أسباب صحيحة، قد جعلها الله سببًا لغيره، ولكن السبب لا يستقل وحده بتحقيق، وتحصيل المطلوب؛ لأنه قد يُفقد الشرط، وقد يوجد المانع، فالمطر إذا نزل، هل معنى ذلك أن الأرض تُخرج زينتها، وزهرتها، وتنبت من كل زوج بهيج؟
أبداً، فنحن نشاهد المطر ينزل، والأرض لا تنبت، إذاً المطر سبب لكن هل هو سبب مستقل؟ الله جعله سبباً، فلا بد من أسباب أخرى تعاونه، واندفاع الموانع، وتحقيق الشروط، نقول: هذا الماء، المطر ينزل في وقت معين، في الوَسْم مثلاً، فيخرج منه ألوان الربيع، والنبات، وما إلى ذلك، فهذا سبب عاونه سبب آخر، ولا بد من اندفاع الموانع، فالزرع قد يحصل له برد شديد، فتكون الأرض قد انقبضت، ولم تخرج شيئًا يذكر، أو يخرج، فيذبل، ويسود، ويتلاشى، فلا بد من اندفاع الموانع، وقد لا يريد الله أن يكون هذا السبب فاعلاً مؤثرًا بإذن الله -تبارك وتعالى- ولا شيء يؤثر إلا بإرادة الله، وإذنه.
إذاً الإنسان لا يعلق قلبه بالأسباب، الإنسان حينما يتزوج يكون ذلك سببًا لتحصيل الولد، لكن هل الزواج، والمعاشرة هي سبب مستقل لذلك؟
لا، لا بد من أسباب أخرى تعاونه، ووجود الشروط، وانتفاء الموانع، وقل مثل ذلك في المكاسب، يخرج الإنسان، يغدو، يطلب الرزق، فهذا سبب، لكن هل معنى ذلك أنه يحصّل المال؟
الجواب: لا، فقد يخرج، ولا يرجع بشيء، حينما يلقي ما بيده في البحر من أجل أن يصطاد، ونحو ذلك، هذا سبب، لكن هل معنى ذلك أنه يرجع بشيء اسألوا الصيادين، وهم أهل حذق، ومعرفة، ومهارة، يقول: نخرج في الصباح الباكر، ونرجع في المساء في بعض الأيام لا نرجع بشيء، وفي بعضها نخرج في وقت يسير، ونرجع بشيء كثير، فالسبب وحده لا يستقل.
إذاً الأمور كلها بيد الله فلا تعلق بالأسباب، هذا الفقر الذي يوجد في القلب لا يُملأ بالالتفات إلى الأسباب، والمخلوقين، فيعذب القلب، وإنما إلى الله وحده.
قال: اتباع الشريعة، والقيام بالجهاد من أعظم الفروق بين أهل محبة الله وأوليائه الذين يحبهم، ويحبونه، وبين من يدعي محبة الله، ناظرًا إلى عموم ربوبيته، أو متبعًا لبعض البدع المخالفة لشريعته.
يعني: لا بد من المجاهدة، والاتباع، وأما أن الإنسان يدعي محبة الله ناظرًا إلى عموم ربوبيته، من غير تحقيق العبودية له؛ فإن هذا لا يكون قائمًا بما يجب، وليس من أهل الولاية، فالذين ينظرون إلى الربوبية فقط، تصيبهم الأمور التي قدرها الله عليهم، وهم ينظرون إلى هذا المعنى فحسب، ويقولون: إن الله هو الخالق، الرازق، المحيي، المميت، المدبر، يعرفون هذه الأمور، ويقرون بها، وإذا أصابتهم المصائب، والآلام، وما إلى ذلك قالوا: هذا من عند الله -تبارك وتعالى- قدره علينا، نظروا إلى الربوبية، تعبدوا الله باسمه الرب، ولكنهم ما تعبدوه باسمه الإله، فلم يحققوا العبودية له، لم يتقربوا إليه بالطاعات وفق ما شرع، بل نظروا إلى ربوبيته فحسب، والنظر إلى الربوبية فقط لا يحصل به تحقيق العبودية؛ ولهذا يقولون: توحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلهية، ولكنّ الكثيرين يقفون عنده فقط، فينظرون إلى تدبير الله في الخلق، والكون، وما يحصل من الأقدار، فيذعنون لهذا، ويقرون به، ولكنهم لا يرتقون إلى ما وراء ذلك من عبادته، والتقرب إليه، أولئك الذين لربما يدعون المحبة، وأنهم يعبدون الله ناظرين إلى ربوبيته فحسب.
قال: إذا كان العبد مخلصًا لله، اجتباه ربه فأحيا قلبه، واجتذبه إليه، فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء، والفحشاء، بخلاف القلب الذي لم يخلص لله، فإنّ فيه طلبًا، وإرادة، وحبًّا مطلقًا، فيهوى ما يسنح له، ويتشبث بما يهواه، كالغصن أيّ نسيمٍ مر بعِطْفه أماله.
في الكتاب الذي نقل منه (كتاب العبودية): أيّ نسيمٍ مر به عَطَفه، وأماله، وله بقية كلام نفيس في هذا المعنى بعده مباشرة، يقول: "فتارة تجذبه الصور المحرمة، وغير المحرمة" الصور المحرمة يعني الصور التي لا يحل له النظر إليهن مثلًا، وغير المحرمة كالزوجة، والأمة، فيبقى أسيرًا عبدًا لمن لو اتخذه هو عبدًا له؛ لكان ذلك عيبًا، ونقصًا، وذمًّا "وتارة يجتذبه الشرف، والرئاسة، فترضيه الكلمة، وتغضبه الكلمة، ويستعبده من يثني عليه، ولو بالباطل، ويعادي من يذمه، ولو بالحق، وتارة، يستعبده الدرهم، والدينار" كلام في غاية النفاسة.
وهنا يقول في أوله: إذا كان العبد مخلصاً له اجتباه ربه فأحيا قلبه، واجتذبه إليه فيصرف عنه من أضداد ذلك، انظروا في قول الله في خبر يوسف ﷺ: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ [يوسف: 24] مع قوة الدواعي من كل جهة، يعني الشباب، والغربة، والإنسان إذا كان في بلد غريب فيها، لا يبالي يتخفف من كثير من المرواءت، وهذا معروف إلى اليوم عند العامة، ويتمثلون بأمثال في هذا لا تخفى عليكم.
وكذلك أيضًا ما يقال للمسافر: أستودع الله دينك، وأمانتك[18] لأنه في السفر قد يتخفف، ويترخص في أمور ما يترخص فيها في البلد، فيُخشى على دينه، وأمانته.
وهذه زوجة العزيز، وفي غاية الجمال وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ [يوسف: 23] وسيكون له حماية، فاجتمعت الأمور التي تقوي هذا الباطل، والمنكر، قال: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24] وفي القراءة الأخرى المتواترة: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا (الْمُخْلِصِينَ) وكلاهما حق، إخلاصه كان سبباً لنجاته: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا لاحظ هنا العبادة الخاصة التي تكلمنا عليها في أول هذا المجلس الْمُخْلَصِينَ فإن الله يخلّص أهل العبودية الخاصة في مثل هذه المقامات، فإذا رأى العبد نفسه يخفق حينما تتحرك الشهوات فمعنى ذلك أن العبودية فيها نقص، وضعف، فكيف بالذي يُغلب دائماً، ولا يستطيع الفكاك، والخلاص؟! بعضهم يشتكي يقول: ما أستطيع، كلما لاحت له شهوة؛ سقط، فهذا معناه أن عبوديته قد نقص منها شيء كثير، فأهل العبودية الخاصة يخلّصهم الله : إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا (الْمُخْلِصِينَ) الإخلاص سبب للنجاة، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ -والله تعالى أعلم-.
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان، برقم (35).
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله، برقم (2886).
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله، برقم (2886).
- انظر: العبودية، لابن تيمية (8).
- انظر: الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي، للنهرواني (456).
- أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس، برقم (1043).
- انظر: مجموع الفتاوى (1/39).
- أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، بَابُ تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]، برقم (2750)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وأن اليد العليا هي المنفقة وأن السفلى هي الآخذة، برقم (1034).
- انظر: العبودية، لابن تيمية (87، 88).
- انظر: المصدر السابق (88).
- أخرجه ابن الأثير. انظر: جامع الأصول في أحاديث الرسول، (20/117)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب، والترهيب، برقم، (1702).
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله، برقم (2886).
- انظر: العبودية، لابن تيمية (94).
- أخرجه مسلم، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، برقم (2674).
- أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الجهاد، باب من حبسه العذر عن الجهاد، برقم (2765) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (3815).
- انظر: العبودية، لابن تيمية (96).
- انظر: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن القيم (3/156).
- أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب في الدعاء عند الوداع، برقم (2600)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (2435).