الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فاللهم اغفر لشيخنا ولنا وللحاضرين،
قال المؤلف -رحمه الله-: من رد الشيخ على تأسيس الرازي.
قال -رحمه الله-: ألم يكن في آثار الأنبياء والمرسلين ما يُستغنى به في أعظم المطالب، وأشرف المعارف عما يُروى عن معلم المبدِّلة الصابئين، الذين انتقلوا عن الحنيفية الثابتة بالعقل والدين؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد ذكرت في نهاية الدرس الماضي كلاماً على هذا الكتاب الذي هو: "بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية" الذي هو نقض لتأسيس الرازي، وأن هذا الكتاب رد عليه، وكذا تحدثت عن الكتاب وسبب تأليفه، هذا الذي ذكره هنا نقله الشيخ عبد الرحمن -رحمه الله- بشيء من التصرف والاختصار.
يقول: "ألم يكن في آثار الأنبياء والمرسلين ما يُستغنى به في أعظم المطالب، وأشرف المعارف عما يُروى عن معلم المبدِّلة الصابئين، الذين انتقلوا عن الحنيفية الثابتة بالعقل والدين"، هذا الكلام يرد به شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- على الرازي لمّا نقل في كتابه المشار إليه عن أرَسْطو الذي يقال له: أرِسطا طاليس في كتابه في الإلهيات -كتاب أرسطو في الإلهيات- أرسطو يقول بأن من أراد أن يشرع في المعارف الإلهية..، ونحن عرفنا أن علوم الفلاسفة تنقسم، فهم من علومهم الإلهيات، ومن علومهم الرياضيات، وما يحتفّ بذلك ويلحق به كالهندسة، وما يسمى بالطبيعيات، وكذلك أيضاً من علومهم الطب، وأن كلامهم في الطبيعيات فيه غلط كثير، وفيه كثير جيد صحيح، فعلومهم متفاوتة، ولكنهم أضل الناس في الإلهيات، والسبب في ذلك أن الإلهيات هي مما يتصل بالغيب، ومثل هذا إنما يعرف عن طريق الوحي في الجملة، هناك أشياء تدركها العقول مما يتصل بالإلهيات، ولكن العمدة في هذا الباب على الوحي؛ إذ إن التفاصيل في هذا الباب مدارها على الوحي، وإنْ أدرك العقل أشياء مما يتصل بهذا الباب، ولكن ذلك لا يفي بالمطلوب.
هو يرد على أرسطو فيما نقله عنه الرازي، من أن من أراد أن يشرع في المعارف الإلهية فليستحدث لنفسه فطرة أخرى، -نسأل الله العافية-.
فالرازي ينقل هذا الكلام على سبيل الإقرار والتسليم له، فشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يرد على هؤلاء ويقول: كيف يستطيع الإنسان أن يستحدث فطرة أخرى؟ بل أسهل من هذا لو أراد الإنسان أن ينتقل من طباعه إلى طباع أخرى متكلفة فإنه عما قريب يرجع إلى طبعه الأول، فمزاولة الطباع أمر صعب في النفوس، فكيف بالفطر التي فطر الله الناس عليها، كيف ينسلخ الإنسان من فطرته ثم بعد ذلك ينظر في باب الإلهيات؟.
وأرسطو حينما يقول مثل هذا الكلام، وكذا الرازي حينما تابعه إنما يقصد بذلك أن النظر في الإلهيات يختلف عن معهوده في النظر في الأمور التي هي متشخصة يراها أمامه، ما عهده في بيئته، وما شاهده بعينيه، وما إلى ذلك، فعالم الإلهيات عالم آخر.
يقول: فإن فطرته والنظر بفطرته التي عهد فيها الأمور المحسوسة هذه لا تصلح للنظر في الإلهيات، فإن ذلك سيؤثر عليه، نحن نقول: لا هذا، ولا هذا، نقول: لا يقيس الخالق على المخلوق باعتبار ما شاهد من المحسوس، وإنما الفطرة إذا حصل معها نور الوحي اجتمع نور الفطرة ونور الوحي فذلك كنور العين مع ضوء الشمس، والله قد فطر العباد، كل مولود يولد على الفطرة[1].
فطرهم على الإقرار بالمعبود وما إلى ذلك مما هو معلوم، فلا يمكن أن ينسلخ الإنسان من هذه الفطرة، ولكن يقال: هذه الفطرة هي المحل القابل، فإذا وجد معها نور الوحي حصل بذلك من ألوان الهدايات ما لا يقادر قدره، فهذا الوجه الذي يذكره شيخ الإسلام هنا يرد فيه على كلام أرسطو، وكلام الرازي الذي نقله عنه هو الوجه الثامن في هذا الرد.
أرَسْطو يقال له: أرِسطا، أو أرسطا طاليس، وبعض المعاصرين بعض الناس في العلوم الطبيعية يسمونه أرِسْطو، والمعروف عند أهل العلم أرَسْطو، والقاعدة عند أهل العلم: "أعجمي فالعب به".
يقصدون بذلك كما يقول أبو قتيبة -رحمه الله- والشاطبي وأمثال هؤلاء: إن العرب لا تتقيد في نطق الأسماء الأعجمية أسماء الأشخاص، أو الأمكنة، أو غير ذلك، لا تتقيد بها على طريقة الأعاجم، ولا تحاكيهم في ألفاظهم بحروفها فضلاً عن اللكنة الأعجمية، يلوي لسانه بالعجمة، فهذا ليس بطريق معهود للعرب، وإنما يتصرفون بالأسماء الأعجمية بحسب فطرتهم اللغوية فتنسجم معها، أنا ذكرت هذا لأني رأيت البعض يبتسم عندما أقول: أرَسْطو فيظن أنه خطأ بناء على ما سمع من معلمه في المدرسة، "أعجمي فالعب به".
فلا حاجة لأن نلوي ألسنتنا حينما نتحدث اللغات الأعجمية؛ لنحاكي الأعاجم بذلك، وهكذا في النطق بالأسماء، حينما تقول مثلاً: الإنترنت ما يحتاج أن تأتي بها بطريقة، أو تقول: التويتر انطق بها بحسب ما يتناسب مع الفطرة اللغوية عند العرب، إذا ما أمكن الترجمة في هذا.
وقل مثل ذلك في أشياء كثيرة مما يتعطاها الناس من الألفاظ والمصطلحات الأعجمية، هذه فائدة في النطق بالألفاظ الأعجمية من الأعلام وغيرها.
فالشاهد أن شيخ الإسلام يرد على الرازي: "ألم يكن في آثار الأنبياء والمرسلين ما يُستغنى به في أعظم المطالب، وأشرف المعارف عما يُروى عن معلم المبدِّلة الصابئين"، من هو المعلم المبدِّل؟
أرسطو يسمونه المعلم الأول، إذا رأيت المعلم الأول فهو أرسطو عندهم، وهو شيخ أو أستاذ الطريقة المعروفة بطريقة المشّائين من الفلاسفة، قيل لهم ذلك لأنه يمشي ويمشي حوله التلاميذ ويلقنهم مثل هذه السفسطة والفلسفة، سُميت بطريقة المشّائين، طريقة أرسطو، وله مدرسته المعروفة، وأفلاطون له مدرسته المعروفة.
فيقول شيخ الإسلام: "معلم المبدِّلة الصابئين الذين انتقلوا عن الحنيفية الثابتة بالعقل والدين"[2].
بمعنى أن هؤلاء بدلوا دين الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- والصابئة يقال: إزاء الطوائف منهم من كانوا على الحنيفية وعلى الفطرة وعلى التوحيد، وهم الذين قال الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [الحج: 17]، ماذا قال عنهم؟
إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الحج: 17]، هذا في الحكم، فليس فيه تزكية لأحد منهم، ولا حكم بنجاة، ذكر معهم المجوس، وذكر المشركين، فذكر الطوائف، هذا في سياق ذكر الطوائف، لكن في الآية الأخرى التي ذكر فيها الصابئة: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 62]، فحكم لهم بقوله: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [البقرة:62]، هنا في الثواب، فهذا غير المقام الأول الذي ذكر فيه المجوس والمشركين، فهناك في الحكم بين الطوائف، وهنا في الجزاء، فدل ذلك على أن هذه الفئة الصابئة المذكورة في هذه الآية على التوحيد، ولكن حينما يقال: الصابئة فإن ذلك لا يعني بالضرورة دائماً في كل مقام أن المراد من كان على التوحيد؛ لأن الصابئة تطلق على هذه الفئة، وتطلق أيضاً على قوم بدلوا دين الأنبياء، وخرجوا عنه، كما يشير شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- إلى أرسطو ومن معه أنهم خرجوا عن الدين الصحيح إلى هذه الضلالات والفلسفات.
وبعض أهل العلم يذكرون وتجدون في كتب الأديان والملل والنحل كما في كتاب الشهرستاني وغيره أن من النصارى طائفة يقال لها: الصابئة، واليوم يوجد في العراق طائفة أيضاً يقال لها: الصابئة، وهم مشركون.
والذين أتى عليهم إبراهيم ﷺ يعظمون الكواكب، ويعبدونها من دون الله ، وناظرهم المناظرة المعروفة: رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام:76]، هؤلاء من الصابئة، وكانوا يعبدون الكواكب، وهذا هو المشهور أن الصابئة قوم يعبدون الكواكب لكنه ليس دائماً.
فالمقصود أن شيخ الإسلام يقول: ألم يكن فيما جاء به النبي ﷺ وما جاء به الأنبياء ما يغني عن كلام هؤلاء الصابئة، المبدلة، الذين بدلوا دين الأنبياء، وانتقلوا إلى هذه الضلالات والفلسفات، ما بقي علينا أن نعرف المطالب الكبرى التي تتحصل بها النجاة إلا أن نأخذ مثل هذا الضلال، فإن فاقد الشيء لا يعطيه، هذا معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية يرد به على الرازي، قد يقال ويستغرب: كيف الرازي يقول مثل هذا الكلام؟ وكيف ينقل مثل هذا الباطل؟ وأنه يُحْدث لنفسه فطرة جديدة حتى يصح نظره في الإلهيات؟
ناقلٌ عن هؤلاء، ثم أيضاً هو من أبطل الباطل، بينما الرسل -عليهم الصلاة والسلام- مباشرة كانوا يقولون: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 65]، فيترك هذا جميعاً ويكون الرازي بهذه المثابة، وشيخ الإسلام كان قد رد على من رد على الفتوى الحموية، ثم رأى أن هؤلاء إنما هم مجرد نقلة، ينقلون عن غيرهم، فرأى أن الرأس الذي يرجعون إليه، وأن كبير هؤلاء، والمعظم فيهم والمقدم هو الرازي فأراد -رحمه الله- أن يكسره كعادته، فألف هذا الكتاب العظيم، وهو: "بيان تلبيس الجهمية".
يعني: أن هؤلاء عندهم علوم متنوعة، وذكر علومهم، هذا في الوجه الرابع في الرد على كلمة الرازي فيما نقل عن أرسطو، الكلام السابق هو الوجه الثامن، وهذا هو الوجه الرابع، فهو لما ذكر علومهم الرياضية وعلومهم من الطب، وما إلى ذلك، قال: هذه علوم فيها أشياء كثيرة صحيحة، وفيها أيضاً أشياء غير صحيحة، ولكنهم أضل الناس في الإلهيات.
ثم يقول: كيف يؤخذ منهم مثل هذا في باب هم أضل الناس فيه؟ يعني ليس ذلك بأسوأ ما عندهم من علوم فحسب، بل هم أضل الناس في هذا الباب، ثم يؤخذ كلام هؤلاء مع ما فيه من الاضطراب والتناقض والصعوبة، فهو كما يقول شيخ الإسلام: "كلحم جمل غث على جبل وعر"[3].
فمثل هذا الكلام صعب المنال، وهو أيضاً قليل النوال، ليس فيه كبير فائدة، وإذا قرأ فيه الإنسان، ونظر فيه وجده في غاية التعقيد والصعوبة، ويحتاج إلى دراسة المصطلحات حتى يفهم، كأنهم يتحدثون بلغة أخرى، ثم إذا نظرت إلى ما تحته من المعاني وجدتها ضحلة في غاية الضعف، مع ما فيها من الباطل الكثير، فكيف يتجشم مثل هذا مع ما فيه من الوعورة، ثم ما فيه من الباطل، ويترك ما جاء عن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وفيه اليسر، وموافقة الفطر، إضافة إلى البراهين الساطعة، والحقائق الثابتة: لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت: 42]، ولكنّ الكثيرين يزهد فيما كان ميسوراً مبذولاً لكل أحد، يشترك فيه سائر الأفراد: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 17]، وإن كانوا يتفاضلون في غوصهم وما حصلوه وضبطوه من علوم الوحي، لكنه ميسور لكل أحد، فيتجشم بعض الناس الطريق الوعر؛ لينفرد ويتميز، وهذا ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مواضع، وسيأتي في كلامه -رحمه الله- أنه قد يتجشم أيضاً في الرد على بعضهم بهذه المسالك الصعبة؛ لأن من الناس من لا يقبل إلا هذا الطريق في المناظرة، يعني: لا يريد أن تناقشه مناقشة واضحة وسهلة في قضايا بينة، يريد أن تدخل معه في مثل هذه المضائق والأساليب الصعبة حتى يقبل، واعتبِرْ هذا بحال كل من كان فيه مسحة من شذوذ، وأراد التميز بغير العلم الصحيح، والعمل الصالح تجد أن هذه اللوثة لربما تقوده إلى مثل هذه الأمور، فيعبر بالعبارات التي يُظن أن تحتها أشياء، ومن يناقشه إنما يقيس مناظرته وعلمه وعقله ومعرفته بحسب ما يورد عليه من مثل هذه الألفاظ، والطرائق في الجدل، وما إلى ذلك، فيعتقد أن هذا عنده علم، أما هذا فليس عنده شيء؛ ولهذا يعتبرون الأدلة من الكتاب والسنة من العلوم العامة، والله المستعان.
وهذا هو الوجه السادس من الرد على قول الرازي نقلاً عن أرسطو بأن عليه أن يستحدث فطرة جديدة، فطرة أخرى، يقول: "مع إقرارهم أن نقل الطباع من رديء الأطماع شديد الامتناع"[4]، يعني: الفلاسفة يقرون بهذا أن نقل الطباع أمر شديد الامتناع، تنقل طباع إنسان من حال إلى طباع أخرى أن هذا أمر صعب جدًّا، هذا كلام الفلاسفة وهم يُعنون بجوانب السلوك، والتهذيب، والتربية، ويقولون مثل هذا الكلام، فكيف بنقل الناس من الفطرة التي فطرهم الله عليها، أن نحدث لهم فطرة أخرى؟ ثم ما حال هؤلاء الناس إذا انسلخوا من فطرتهم ونظروا بعيداً عن الفطرة وهي نور طبْعي طبعهم الله عليه منذ خلقهم، فينخلعون منه حتى يحصّلوا نوراً كسبيًّا من غير الوحي، هذا أمر لا يتأتى بحال من الأحوال.
فهذا النور المطبوع الذي هو الفطرة إذا صادفه النور الآخر المكتسب من الوحي فذلك هو الهُدى الكامل، هؤلاء يريدون أن ينخلع من فطرته، وأن ينظر بنظرهم هم الذي كله ظلمة من أجل أن يحصّل الهداية، هذا ممتنع، محال، لا يمكن أن يُتوصل إلى الهداية بهذه الطرق المظلمة التي انطفأ فيها نور الفطرة ونور الوحي، لا يمكن هذا، فمن أراد النتائج الصحيحة فعليه أن يسلك الأسباب والطرق الصحيحة الموصلة إليها، ولهذا كانوا أضل الناس، أرادوا أن ينخلعوا من فطرهم، وأن ينظروا بعيداً عن الوحي في أهم المهمات، وهي قضايا الإلهية، فكيف يتعرفون على ذلك؟فجاءوا بهذه الضلالات التي تلقفها المتكلمون، وصارت قواعد كما سيأتي يحاكمون إليها النصوص، وجعلوا الوحي تابعاً لها، فما وافقها قُبل، وما خالفها إما أن يؤول، أو يفوض تأدباً معه، وبعضهم قد يجترئ صراحة على الرد والتكذيب، لكن من يتأدب يقول: تؤول؛ لتوافق ما جاء بحسب هذه المعطيات والقواعد العقلية، أو تفوض إلى الله لا ندري ما المراد بها، لكنه قطعاً ليس ما يخالف عندهم، قطعاً ليس ما نفهمه مما يخالف القواطع العقلية، هذا تأدباً يقوله بعضهم، وإلا فلبعضهم كلام فج، ولهذا بعض الضُّلال المعتزلة -وكلهم ضلال- كان يقول -نسأل الله العافية-: النقل تهمة، والحجة في المقاييس العقلية، يعني النقل متهم، وحكموا عليه بأحكام جائرة، بأنه لا يفيد إلا الظن، إما من جهة الثبوت، وإما من جهة الدلالة، وأورد عليه الرازي ما يسمى بالقوادح العشرة، -نسأل الله العافية- ولم يُبقِ شيئاً بعد ذلك.
يعني: ما سلم من كونه يفيد الظن من جهة الطريق الذي وصلنا كخبر الآحاد، فإن كان متواتراً ويفيد القطع من جهة الثبوت فإنه من جهة الدلالة والمعاني يحتمل، وذكر الاحتمالات العشرة، ومن ثَمّ لا حاجة للنقل؛ لأن هذه القضايا الكبرى في زعمهم -قضايا الاعتقاد- لا تصلح، ولا تقر، ولا تثبت إلا بالقواطع؛ لأنه يطلب بها القطع واليقين، وجعلوا القطع واليقين بطريق العقل، والدلائل العقلية، فتركوا المنقول، تركوا الوحي؛ لأن لا يفيد عندهم إلا الظن، ومن ثَمّ فلا حاجة إليه في هذه المطالب العالية، فصاروا في هذا الحال من الضلال، والانحراف، وصارت كتبهم في الاعتقاد موحشة، بعيده عن الوحي، يُظلم القلب عند النظر فيها، من استضاءت فطرته واستنارت لا يستطيع أن يقرأ صفحتين من كتاب من تلك الكتب، ويجد في قلبه باعثاً قويًّا يبعثه على حمد الله وشكره أن جنّبه هذا، وهداه إلى الحق، وطريق أهل السنة والجماعة.
هذا الكتاب الذي هو مطبوع، واعتُني به، كتاب "درء تعارض العقل والنقل"، طبع في نحو أحد عشر مجلدًا، هذا الكتاب هو الذي ينقل منه الشيخ عبد الرحمن -رحمه الله- مثل هذه الفوائد.
وهذا الكتاب أيضاً هو رد، وأكثر كتب شيخ الإسلام هي ردود لكنها ردود ليست كالردود، وإنما ردود يؤصل فيها أصولاً كباراً، فجاءت بهذا النفع، وإلا فإن الغالب في الردود أنها وقتية وتذهب، ولا يكاد ينتفع بها، ولذلك لا ينصح طالب العلم أن يكون زمانه مصروفاً إلى الردود، فيتلاشى العمر، ولم يخرج بكبير طائل، وإنما تكون عنايته بالتأصيل ابتداء، أما الرد فإنه مقصود لغيره، وليس بمقصود لذاته، لكن إذا كانت ردوده مثل ردود شيخ الإسلام فذاك، لكن من الذي يستطيع هذا؟
فردود شيخ الإسلام تجد فيها من الأصول والضوابط والعلم، والتحقيق ما لا تجده في الكتب التي ألفت ابتداء للتأصيل، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
فالحاصل أن هذا الكتاب هو رد أيضاً على القانون الكلي عند الرازي، وهذا القانون هو أنه إذا تعارض العقل والنقل، أو كما يعبرون بعبارات أخرى: تعارض السمع والعقل، تعارض الدليل السمعي والدليل العقلي، تعارض الدليل النقلي مع الدليل العقلي، عبارات مقاربة، فهذا الدليل الكلي عندهم، أو القانون الكلي.
يقولون: إذا تعارض المعقول والمسموع -الدليل العقلي والدليل النقلي- فهنا إما وإما وإما وإما، يعني بطريق ما يسمى السبر والتقسيم العقليين، هذه طريقة من الطرق تدرسونها في أصول الفقه في الكلام على طرق استخراج العلة في القياس، السبر والتقسيم.
ومعنى السبر والتقسيم: السبر يعني الاختبار، والتقسيم: حصر الأوصاف إما وإما وإما وإما، هذا دليل تستفيدون منه لا بأس أن أوضحه حتى أوضح كلامه هنا في القانون الكلي، يعني: نحن مثلاً حينما نتناظر ونتناقش، الموقف من الحضارة الغربية، إما أن نقبلها بحلوها ومرها، بطيبها ورديئها، وإما أن نردها بطيبها ورديئها حلوها ومرها، وإما أن نقبل رديئها ونرد صالحها، وإما أن نقبل صالحها ونرد رديئها، هذا يسمى السبر، يعني الاختبار، يشترط فيه حصر الأوصاف، لا يأتي أحد بوصف خامس، لا تقصر في الحصر، لابد أن تكون هذه فقط حتى لا يأتي إنسان ويقول: لا، هناك وصف غير هذا ما ذكرته، فإذا كانت هذه الأوصاف حاصرة فعندئذ يبدأ الاختبار، نقول: أما قبول الحلو والمر فهذا غير صحيح، ولا يقول به العاقل، أما رد الحلو والمر فغير صحيح، ولا يقبله العاقل، أما قبول المر وترك الصحيح فهذا لا يقول به عاقل أيضاً، ما الذي بقي من الأوصاف الأربعة؟
الوصف الأخير أن نقبل الصحيح ونرد الفاسد، هذا هو الصحيح، فنقول: الموقف من الحضارة الغربية بطريق السبر والتقسيم العقليين أن نقبل الصحيح ونرد الفاسد، هذه طريقة بالاستدلال والاحتجاج، والأصل التقسيم والسبر، يعني: التقسيم هو إما كذا، وإما كذا، وإما كذا ثم تكرّ عليها بالاختبار، أما الأول فكذا، وأما الثاني فكذا، وأما الثالث فكذا، بقي الرابع، هذا الاختبار، فأصلها هكذا: التقسيم والسبر، لكن قدموا الأشرف وهو الاختبار؛ لأنه يحصل به النتيجة، فقالوا: السبر والتقسيم، فالرازي في قانونه الكلي هذا يقول: إذا تعارض الدليل العقلي والدليل النقلي، فإما أن نأخذ بهما، أو أن نردهما، أو أن نقبل العقلي دون السمعي، أو أن نقبل السمعي دون العقلي، هذه أربعة ما في خامس، ثم يرجع إليها بالاختبار، فيقول: أما رد الجميع فهذا غير ممكن؛ لأن النقيضين لا يجتمعان، ولا يرتفعان، لابد من واحد أن يكون هو الصحيح حال التعارض.
فالليل والنهار نقيضان، فلا يمكن أن نقول: نحن ليل نهار الآن في لحظة واحدة، في وقت واحد، في محل واحد، ممكن على الكرة الأرضية الليل في جهة والنهار في جهة، لكن في محل واحد في وقت واحد تقول: نحن ليل نهار الآن، اجتمع الليل والنهار، لا يمكن، إما ليل وإما نهار.
وكذا الحياة والموت، تقول: فلان حي ميت، يجتمعان؟ لا يجتمعان، هل يرتفعان يعني بالنفي لا حي ولا ميت حقيقة؟ أو نقول: لا ليل ولا نهار؟
هذا لا يمكن، فالنقيضان لا يجتمعان، يعني: في محل واحد في وقت واحد، ولا يرتفعان بالنفي لابد من وجود واحد، فما نستطيع أن نرد الدليل العقلي والنقلي، ولا نقبل الدليل العقلي والنقلي حال التناقض، هذا كلام الرازي، لا نقبل النقيضين معاً، ولا نستطيع أن نرفع النقيضين معاً، لابد من أحدهما، هل نرد الدليل العقلي ونبقي السمعي، أو العكس؟ الرازي يقول: لا نستطيع أن نرد الدليل العقلي، ونبقي السمعي؛ لشبهة عنده، وهو أن النقل ثبت عنده بالعقل، عن طريق العقل عرفنا ذلك، صحة النقل يعني، صحة الوحي والنبوة إلى آخره، فهذه المقدمة التي بنى عليها، إذن ما الحل؟
قال: الحل أننا نقبل الدليل العقلي، ونترك الدليل السمعي، هذا يسمونه القانون الكلي، عند التعارض فإننا نقبل الدليل العقلي، ونرد الدليل السمعي هذا كلام الرازي، وهو باطل، ومقدماته فاسدة أصلاً، مثل: إحدى الأخوات سألت البارحة، تقول: رسالة جوال هل هي صحيحة أو لا؟ لماذا الكنائس لا تتخرب وتتشقق بينما المساجد تتشقق؟
فقال الشيخ المسئول بكل هدوء: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:21]، فهذه المساجد يقرأ فيها القرآن فتتشقق، أما الكنائس فتحضرها الشياطين ولا يقرأ فيها كلام الله فلا تتشقق.
فهذا الجواب غلط، والمسألة غلط أصلاً؛ لأنها مبنية على أساس غلط؛ لأن الكنائس تتشقق وتتهدم، ولا فرق بين المساجد والكنائس من هذه الحيثية إلا بجودة البناء فقط، فمن قال: إن الكنائس لا تتشقق ولا تتخرب؟ ومن شروط المسلمين على أهل الذمة أن ما يخرب من كنائسهم ومعابدهم -دور العبادة- أنه لا يجدد، ما الذي يجعله يخرب؟
ذكرتُ هذا أنها قُلبت من كنائس، والآن يُحرَّج في الأزمة الاقتصادية، وفي ظل انجفال الناس وانقباضهم عن دور العبادة بعد فضائح القساوسة التي تقرءون، كل يوم تطلع فضائح جديدة -نسأل الله العافية- فضائح منافية للأخلاق، فجور، فالشاهد انجفل الناس عن هذه الكنائس، صاروا لا يأتونها فصارت تعرض للبيع، فيشتريها المسلمون، وتحول إلى مساجد أحياناً.
المقصود أن السؤال غلط، ثم يأتي الجواب بناء على سؤال أصلاً مقدمته غير صحيحة، فكلام الرازي مبني على مقدمات باطلة، من هذه المقدمات الباطلة ومن أعظمها وأوضحها أنه أصلاً لا يحصل التناقض بين العقل والنقل، هذه المقدمة غير صحيحة، هذا لا يتأتى أبداً، لا يمكن؛ لأن النقل حق إذا ثبت، والعقل إذا كان صحيحاً فعلاً فإنه لا يمكن التناقض، فالوحي من عند الله حق، وهذه العقول الصحيحة بهذا القيد -الصحيحة- لا يمكن أن تناقض الحق، لا يمكن أن يتناقض حق وحق أبداً، لا يمكن، هذا مستحيل أن يتناقض دليلان كلاهما حق من كل وجه، لكن ممكن يكون الدليل غير صحيح -الدليل النقلي، أو يكون صحيحًا له احتمالات، فهذا يناقض على أحد المعاني، أو أحد الأوجه، أو أحد الاحتمالات ممكن، لكن حينما يكون ثابتاً لا مطعن في ثبوته، ويكون أيضاً صريحاً في دلالته، ثم يأتي دليل عقلي صحيح يناقضه مناقضة واضحة فهذا لا يمكن، فهذه المقدمة باطلة؛ ولهذا سمى الكتاب: "درء تعارض" درء يعني دفع "درء تعارض العقل والنقل"، فهذا الكتاب في أحد عشر مجلدًا، وهو في تحقيق هذا الأصل الكبير، دفع تعارض العقل والنقل، لا يمكن أن يتعارض دليلان أحدهما عقلي والثاني نقلي من كل وجه، إما أن يكون الخلل في العقل أنه دليل غير صحيح، هذا الدليل المعين يعني، ليس بعقل صحيح، ليس بنظر صحيح، ما بني على نظر صحيح، وإما أن يكون النقل غير صحيح أو غير صريح، لا يمكن إلا هذا.
وسيأتي المزيد من التفصيل من هذه القضية، لكنك إذا فهمت هذا الأصل فهمت القانون الكلي، وما بني عليه، وما يمكن أن ينقض به أساسه وأصله، فيحتاج أن تتصور هذه القضية ولذلك دائماً نقول: إن التعبير الصحيح أن يقال: الدليل العقلي، والدليل النقلي، لا نقول: إذا تقابل الدليل العقلي مع الدليل الشرعي؛ لأن الدلائل العقلية الصحيحة هي من جملة أدلة الشرع، يعني: نحن الآن في القضايا التي يدركها العقل لو جئنا نثبت مثلا المعاد بالعقل، أو نثبت علو الله بالعقل، ممكن؟ممكن، هذا مما يدركه العقل فنقول: الأدلة على العلو كما فعل الذهبي في كتابه: "العلو للعلي الغفار" مجلد في إثبات العلو أثبته من عدة أوجه، منها: الأدلة النقلية من الكتاب والسنة، ونقول: ونثبت العلو أيضاً بدليل الفطرة، ما قال قائل: يا الله إلا وجد في قلبه، في نفسه، في داخله طلباً للعلو، جهة العلو يعني، يا الله، والدليل أيضاً العقلي، فنحتج بالنقل، والفطرة، والعقل، والإجماع؛ لأنه عائد إلى النقل، فصار عندنا الأصل هو الدليل النقلي، أما دليل الفطرة، والدليل العقلي فهما أدلة ثانوية لكنها معتبرة، وهي من ضمن الأدلة الشرعية، ولهذا لا نقول: الدليل الشرعي والدليل العقلي، وإن كان بعض أهل العلم يتجوزون في العبارة، ولكن الدقيق أن نقول: دل على ذلك العقل والنقل، لا نقابل العقلي بالشرعي؛ لأن العقلي من جملة الشرعي.
فهذا كلام الرازي، وهذا نقضه من أساسه؛ لأنهم يفترضون -أعني المتكلمين- مثل: الرازي ومن شايعه يفترضون التعارض بين العقل والنقل، عندهم هذا الأساس، وعندهم مقدمة فاسدة افترضوا فيها إمكان، أو وجود تعارض بين العقل والنقل، فجاءوا بهذا القانون بناءً على ذلك، نحن نقول: هذه المقدمة باطلة، والدليل العقلي لا يعارض الدليل النقلي، ومن ثَمّ فكل ذلك يدل على الحق، ولا تناقض بين هذه الدلائل.
فهذا كلام الرازي الذي يرد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في القانون الكلي، والقانون الكلي عند الرازي -وهو المقدم فيهم- يوافقه عليه مثل: الغزالي الذي قال عنه أبو بكر بن العربي لما جاء إليه، وقد كان في الأندلس، وجاء وكان متلهفًا على زيارة المشرق، وكان يُلح على أبيه أن يأتي إلى المشرق من أجل أن يلقى الغزالي، وفعلاً جاء في رحلته المشهورة وهو صغير، لم يبلغ العشرين، جاء إلى المشرق برحلة الحج وقضى فيها مدة طويلة قريبًا من سنتين كما في كتابه: "قانون التأويل" لأبي بكر بن العربي، والتقى بالغزالي وسمع منه، وأخذ عنه، وأدرك هذا الانحراف عنده، وقال: "دخل في بطن الفلسفة ولم يستطع الخروج منها"، ما استطاع التخلص، لكنّ أبا بكر بن العربي لم يعتبر بما حصل للغزالي، فأصابه ما أصابه من لوثة المتكلمين، فوضع له قانوناً خالف فيه الغزالي الذي كان على طريقة الرازي في هذا الباب، فصار عندنا قانون الرازي الذي تابعه عليه الغزالي، وقانون ابن العربي، وكذلك الباقلاني له قانون في مثل هذه القضية، فكلهم يدعون أنهم أصحاب عقول ويختلفون، وهؤلاء كبارهم.
وللفائدة: كيف انتشرت المذاهب الكلامية في العالم الإسلامي؟
كان أهل المغرب والأندلس على عقيدة أهل السنة والجماعة، على عقيدة السلف الصالح، وأول من جاء بهذه العقائد أبو ذر الهروي، كان في مكة، وكان في القرن الخامس الهجري، تبنّى بعض عقائد المتكلمين، وأيضاً هو مشتغل بالحديث، وهو أحد رواة البخاري المشهورين جدًّا، فكان الناس يأتون إلى مكة للحج والعمرة فيلقونه، فيأخذون عنه فحملوا شيئاً من المذاهب الكلامية إلى بلاد المسلمين.
بلاد الأندلس، وبلاد المغرب كانت على عقيدة السلف حتى جاء أبو الوليد الباجي، وهو يعتبر في طبقة أبي بكر بن العربي، كلهم من المالكية، فأخذ شيئاً من المذاهب الكلامية ورجع إلى بلاد المغرب والأندلس، وكان طرحاً جديداً لا عهد للناس به، فلما رآه أبو بكر ابن العربي أعجبه، وأراد أن يأخذ من حيث أخذ، يأخذ من المصدر، فجاء في رحلته هذه التي أشرت إليها، وأخذ من الغزالي، وعمل "قانون التأويل"، ومن ثَمّ انتشرت المذاهب الكلامية في بلاد المغرب، وما يليها من بلاد الأندلس، كان على يد هؤلاء، وإلا فقد كانوا كلهم على عقيدة السلف، فما زال هذا ينتشر فيهم حتى جاء فيما بعد ابن تومرت، وحصل ما حصل.
بعض الناس يقول: الأشاعرة هم أكثر العالم الإسلامي، وهذه مقدمة غير صحيحة، لكن أيضاً كيف انتشرت الأشعرية والمذاهب الكلامية؟
انتشرت بهذه الطريقة، والشيء الجديد يكون له بريق، وقد لا يظهر ما فيه من العفن إلا بعد حين، وإنما يستبين ذلك لأهل البصائر ممن لهم تحقيق بالمنقول مما جاء به الرسول ﷺ أما الذين لم يكن لهم هذا التحقيق، وإنما لهم لربما اشتغال بكلام الناس من كتب الفقه مثلاً على طريقة في مذهب من المذاهب دون نظر في الأدلة، ودون بصر في نصوص الوحي، وطرق الاستنباط، وما إلى ذلك، إنما يستنبط من قول صاحب المذهب، ويخرِّج عليه، مجتهد في المذهب فقط يدور حول عبارات صاحب الكتاب، أو المتبوع في المذهب، فمثل هؤلاء تنتشر فيهم مثل هذه المذاهب انتشار النار في الهشيم، وهذا هو الذي حصل، أو أولئك الذين يشتغلون بعلوم ودراسات لربما نصيبهم معها من علوم الوحي قليل، تجد هذا مثلا فيمن يشتغلون كثيراً في الأصول، ولكن لا تحقيق لهم في المنقول، هم يدرسون قواعد وأصولا كثيرٌ منها لربما يرجع إلى أشياء عقلية أو جدلية أو نحو ذلك.
وهكذا الذين ركبوا مراكب الجدل والمناظرة، ولم يكونوا من أهل العلم الراسخين في الوحي، هذه طوائف فدخلوا في العلوم الكلامية، وانتشرت فيهم، أما شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فذكر أحوال هؤلاء، وجعلهم على خمس مراتب من حيث الإيغال في العلوم الكلامية، ليسوا على مرتبة واحدة، لا يمكن أن تقارن واحدًا مثل: البيهقي مثلاً فضلاً عن البغوي -رحم الله الجميع، رافع أعلام السلف في بلاد المشرق بمثل: ابن فورك، بل بمثل الرازي، بل لا يمكن أن تقارن مثل الرازي بالباقلاني أو الجويني، وأمثال هؤلاء، يعني أن الرازي أكثر تجهماً وإيغالاً في هذه العلوم الكلامية.
فهذا الكتاب "درء تعارض العقل والنقل" يبين فيه انتفاء المعارض العقلي هذا، ويبطل قول من قال بأن العقل مقدم مطلقاً، كما يقوله المتكلمون من المعتزلة والأشاعرة، ومن شابههم كالماتريدية، حينما نقول: الأشاعرة يعني الكُلابية أيضاً فهم أصل للأشعرية، فهو يرد على هؤلاء.
ولشيخ الإسلام أيضاً كتاب آخر ألفه قبل هذا الكتاب بنحو ثلاثين سنة يقرر فيه الأدلة السمعية، ويُبين أنها قطعية، وأنها تفيد العلم واليقين، وأنها صالحة للاحتجاج في المسائل العلمية والعملية، يعني في قضايا الاعتقاد، وفي قضايا الفروع، هذا في كتاب أيضاً هو مناقشة للرازي "شرح أول المحصَّل"، المحصَّل هذا كتاب للرازي اسمه: "محصَّل أفكار المتقدمين"، لكن للأسف كتاب شيخ الإسلام هذا مفقود، والذين ذكروا ترجمته يقولون: مجلد كبير، محصَّل الرازي شرحَ شيخ الإسلام أوله بهذا الكتاب "شرح أول المحصل" وقرر فيه ما ذكرت.
وأيضاً لشيخ الإسلام رسالة مطبوعة وموجودة، وهي ضمن بعض المجموعات أيضاً وهي: "معارج الوصول في بيان أن أصول الدين وفروعه قد بينها الرسول ﷺ"، هذا يقابل الجانب الآخر، هنا في هذا الكتاب الذي هو "درء التعارض" يرد على الذين قالوا: يقدم العقل على النقل عند التعارض، وهناك كتب أخرى تكلم فيها على الدليل النقلي -الدليل السمعي- وهذا الجانب مهم جدًّا؛ لأنهم وهّنوه، قالوا: النقل تهمة والحجة في المقاييس العقلية، وطرق توهينهم للنقل كثيرة.
قال -رحمه الله-: وفساد المعارِض لما جاء به الرسول قد يُعلم جملة وتفصيلاً.
هنا يقصد المعارض العقلي الذي قدموه على نصوص الأنبياء، يعني أن نصوص الأنبياء عندهم لا تنفع إذا عارضها العقل، فالمعوَّل على العقل، هو يرد عليهم الآن يقول: "فساد المعارض لما جاء به الرسول قد يعلم جملة وتفصيلا"، يعلم بطريقين، هذا المعارض العقلي الذي يزعمونه، إذا جاء عندنا نقل، وقالوا: هذا عارضه العقل, عارضه العقل هذا ماله نهاية.
نصوص الصفات يقولون: يعارضها العقل، وهم بين مقل ومكثر في هذا الباب، كذلك بعضهم عنده مسائل تتعلق بخلود الكفار في النار، خلود أهل الجنة في الجنة، ولذلك جاء بعضهم بعجائب وغرائب، وأمور لا يمكن أن تتصور، وصلت بهم الضلالة إلى حد كبير، واختلفوا اختلافاً كثيراً وصار بعضهم يكفر بعضاً، مع أنهم جميعًا يرجعون إلى هذه التي يسمونها قواطع عقلية، اختلفوا فيها اختلافاً كثيرًا، ووقع بينهم التفرق في الأصول الكبار مما يتصل بالإيمان وأبواب الأسماء والصفات، وما يتصل بالمعاد، قضايا تتعلق بالجزاء، بالجنة والنار، وما أشبه ذلك، كل هذا بناء على هذا المعارض العقلي.
يقول: نحن إذا جاءونا وقالوا لنا: عندنا معارض عقلي لهذا النقل، يقول: نعلم البطلان بأحد الطريقين: الأول إجمالي.
هذا الكلام مهم ليس هنا فقط وإنما نحتاجه دائماً، هذا الذي يقول لك: إن العقل ينافي هذا الشيء، يعارض هذا الدليل، واليوم تسمع من بعض الرماديين، الرمادي يعني الذي ليس علمانيًّا صرفًا، ولا هو كما يقال: إسلامي صرف، يعني ليس بصاحب سنة محضة، ولا هو لبرالي، أو أزرق علماني، وإنما رمادي بين بين، هؤلاء الذين يسمونهم التنويريين، يسمونهم بالعقلانيين الإسلاميين، ويسميهم الكفار بالمعتدلين، إذا قيل لك: من هم المعتدلون عند الغرب؟
هم هؤلاء الرماديون، الذي لا هذا ولا هذا، ويوجد في الواقع نماذج معروفة ومشهورة في ذلك، يحاولون أن يوفقوا بين الإسلام ومعطيات الحضارة الغربية، وأستاذهم الكبير في هذا معروف وهو مدرسة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وما تناسل منها، ووجدت مدارس في العالم الإسلامي معروفة، ورموز من هؤلاء عرفوا وقامت لهم دعوة وانتشار ولا يخفى حالهم في ذلك، أمثال الترابي، وراشد الغنوشي، وغير هؤلاء كثير، الذين هم يسمونهم الإسلام المعتدل -التنويريين-هؤلاء يقول لك: أبداً نحن لا نطالب النساء بالحجاب، ولا نمنع الخمارات، ولا نمنع الزنا، ولا كذا، وإقامة الحدود أصلاً هذه مسألة كانت في وقت من الأوقات حينما لم يكن هناك سجون، وأمور مثل الآن، كان الناس في صحراء وبيئة صحراوية، لا يستطيع أن يقبض على المجرم، فاقطع يده ودعه ليمشي، لكن الآن لا يمكن أن توجِد مشوهين في المجتمع، وكذا، الاجتهاد واقع حتى في الحدود، ممكن نجتهد فيها ونعرف روح الشريعة، ومقاصدها، يتكلمون كثيراً عن المقاصد، والمقاصد صحيح النظر فيها بلا شك، ولابد من مراعاتها، لكن ليست المقاصد التي يريدون.
فالشاهد أن مثل هذا الكلام في الرد عليهم إذا جاءوا بشيء قالوا: هذا يعارض العقل، فنحن عندنا رد إجمالي، ورد تفصيلي، وهكذا في الشبهات الواقعة التي تنقدح في نفس الإنسان، أو يلقيها غيره فلا يعرف الجواب عنها، فنقول: الرد الإجمالي: هذا الذي يقولون: إنه عارضه العقل إذا ثبت عن الرسول ﷺ هذا الأمر فنعلم أن المؤمن إذا كان يقر ويوقن أن ما جاء به الرسول هو الحق فهذا يعني أن ما عارضه باطل، بصرف النظر عن كوني أعرف الجواب تفصيلاً، أو لا أعرفه، هذه قضية يمكن أن يصل إليها كل أحد حتى العوام، كل من عنده اليقين، شرطها اليقين بما جاء به الرسول ﷺ.
إذن إن كان ذلك ثابتاً عنه فهذا الذي تسمونه معارضًا عقليًّا هو باطل لا يمكن أن يُقبل، ولا يصح، هذا رد إجمالي.
وعندنا رد تفصيلي هو مناقشة هذه الشبهة، يعني مثل ما ناقشنا قبل قليل الرازي في مسألة التعارض في أصلها، وأن هذا لا يمكن، وأن الرسل -عليهم الصلاة والسلام- جاءوا بمَحارات العقول، ولم يأتوا بمُحالات العقول، وهذا كله من الله، ولا يمكن أن يتعارض.
فنرد برد مفصل على القضية المعينة، هذا قد لا يحضر لكل أحد لاسيما العامة، بل حتى المنتسب للعلم قد يغيب عنه الجواب ويحتاج الى أن يبحث ويراجع، أمّا من عرفه فإنه يرد به على سبيل التفصيل، فيكون الرد عندنا مجملًا ومفصلًا، وهكذا في الشبهات العارضة أيًّا كان نوعها، يعني لو جاء إنسان وأتى لنا بشبهة عن الصحابة، أو شبهة عن القرآن فيما يتعلق بالقراءات، وقال لك: هذه آيات انظر عندكم في صحيح البخاري يقول: كانت قرآنًا، وأنت ما عندك جواب، يقول لك: القرآن محرف عندكم هذا في صحيح البخاري، وما عندك جواب، فالجواب المجمل الذي تعتصم به وتتمسك به هو أن القرآن: لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت: 42]، انتهينا، أنا لا أعرف الجواب عن هذه الجزئية، لكن أعرف أن القرآن حق، لا يأتيه الباطل.
إذن أتمسك بالأصل الكلي، جاءني وذكر لي قضية واقعة عن أحد من الصحابة، وكذا، وكذا، وقال: معنى هذا أن الصحابة ليسوا بعدول جميعاً، أنا أرجع إلى الأصل الكبير: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ [الفتح: 18]، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29]، إلى آخره.
فأتمسك بهذا الأصل الكبير في عدالة الصحابة، وإن كنت لا أعرف الجواب المفصل، ثم آتي للقضية أو للشبهة المعينة فإذا كنت أستطيع الجواب عنها أجبت، إذا ما استطعت حتى ما أضل بسبب الشبهة أتمسك بالأصل الكبير، تكون مثل الذي يتمسك في جبل فيثبت على الحق، هذا دائماً فيما يعرض من الشبهات.
وهذا الأصل الكبير لكل من كان له يقين وبصيرة، بل صاحب أدنى بصيرة يستطيع أن يصل إليه، أما التفصيل فيكون لأهل العلم.
قال -رحمه الله-: وأما التفصيل فبعلم فساد تلك الحجة المعارضة.
فساد تلك الحجة المعارضة خلافاً لما يذكره الرازي في كتابه: "نهاية العقول" من أن الاستدلال بالسمعيات في المسائل الأصولية لا يمكن بحال من الأحوال، المسائل الأصولية يعني مسائل الاعتقاد، الأصول يعني، فعندنا أصول وعندنا فروع كما يقسم بعضهم، فيقول: هذه المسائل التي هي من قبيل الأصول لا يمكن الاستدلال عليها بالأدلة السمعية؛ لأن الاستدلال بها مبني على مقدمات عنده -أي الرازي- ظنية، وأيضاً ما يرِد عليها من المعارض العقلي، والقوادح العشرة التي ولدها الرازي، فتلقفوها عنه.
ويزعم أن العلم بانتفاء المعارض العقلي هذا لا يمكن؛ لأنه يجوز أن يكون في نفس الأمر دليل عقلي مناقض لها -أي لما دل عليه القرآن أو السنة- ولم يخطر ببال المستمع.
المتكلمون الذين لا يعرفون الأصل الذي ذكرتُه: أنه لا يمكن التعارض سيقولون: يجوز؛ لأن العقل يجوِّز ذلك، ولا يمنع منه، وإذا كان هذا جائزًا إذن الاحتمال قائم، وإذا فيه احتمال قائم فمعنى ذلك أنه لا يصح هذا أن يكون قاطعاً، فيه احتمال، وتستمر الاحتمالات التي لا تنتهي، يحتمل أن يكون فيه دليل ما عرفته، هذا لا ينتهي، لا يقف عند حد، هذا غير القوادح العشرة أيضاً التي ولدها، احتمال أنه منسوخ، احتمال أنه ضعيف، احتمال أنه من قبيل المشترك اللفظي، احتمال أنه من قبيل المجاز، وهكذا.
فنقول: هذا الكلام باطل من أصله، فهذا الدليل في الجواب المفصل أن نعرف فساد تلك الحجة المعينة الفاسدة المعارضة لما جاء به الرسول ﷺ على سبيل التفصيل، نقول: ما هي القضية التي عندك تقول: فيها معارض عقلي؟ لكن الرازي لا يقف عند حد، الرازي يقول: قد لا يكون عنده شيء الآن لكنه يجوز أن يوجد، وما وقفنا عليه، يجوز ما دام الذهن يتصور هذا، إذن النهاية التي يريد أن يصل إليها هؤلاء هي أن النقل لا يصلح للاستدلال، ومن ثَمّ أظلمت كتبهم بعد أن أظلمت قلوبهم، -نسال الله العافية- فوقع لبعضهم ما وقع من الشك والحيرة كما ذكرت لكم طرفاً من كلامهم في المرة الماضية، وأقر كبارهم بأن هذه الطرائق الكلامية والدلائل التي يسمونها عقلية ويقينية أنها لا تورث اليقين، نسأل الله العافية.
قال -رحمه الله-: والرسول بلّغ البلاغ المبين وبين مراده، فكل ما في القرآن والحديث من لفظ يقال فيه: إنه يُحتاج فيه إلى التأويل الاصطلاحي الخاص الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره فلابد أن يكون الرسول قد بين مراده بذلك اللفظ بخطاب آخر، لا يجوز عليه أن يتكلم بالكلام الذي مفهومه ومدلوله باطل، ويسكت عن بيان المراد الحق.
ولا يجوز أن يريد من الخلق أن يفهموا من كلامه ما لم يبينه لهم ويدلهم عليه؛ لإمكان معرفة ذلك بعقولهم، فإن هذا قدح في الرسول الذي بلغ البلاغ المبين الذي هدى الله به العباد، وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، وفرق الله به بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وبين الرشاد والغي، وبين أولياء الله وأعدائه، وبين ما يستحقه الرب من الأسماء والصفات وما ينزه عنه من ذلك حتى أوضح الله به السبيل، وأنار به الدليل، وهدى به الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النور:46].
هذا كله رد على كلام الرازي السابق في المعارض العقلي، فيقول: النبي ﷺ بين الحق ولم يترك ذلك ملتبساً على الناس، فهذه الألفاظ المنقولة عن الوحي من القرآن والسنة فيها بيان الحق، والله جعل القرآن تبياناً لكل شيء، والسنة موضحة لتبين للناس ما نزل إليهم، فكيف يترك الناس في هذه المهمات بل أهم المهمات يتركهم أمام عبارات وألفاظ لا تهدي على الحق، ولا تدل عليه، بل هي مبهمة، أو مجملة لا يستبين الناظر فيها مراد الحق -تبارك وتعالى- بل إن ظاهرها أو بعض هذه النصوص، يقولون: يعارض بل يناقض العقل، فيقول: ما هو البيان الذي بينه النبي ﷺ إذن؟
كيف يصير القرآن تبيانًا لكل شيء؟ وكيف في هذه القضايا والأصول الكبار يترك الناس أمام هذه الاحتمالات حتى يتسلط عليها هؤلاء بالتأويل بمعناه الاصطلاحي عند المتأخرين، يقصد أن التأويل في لغة الكتاب والسنة والسلف يأتي بمعنى التفسير "علِّمه التأويل" في دعاء النبي ﷺ لابن عباس[5]، يعني التفسير، تأويل الرؤيا يأتي بمعنى التفسير، وكذلك يكون بمعنى آخر وهو ما يؤول إليه الشيء في ثاني حال، فتأويل الأمر فعل المأمور، وتأويل الخبر وقوع المخبر، وتأويل الرؤيا بالمعنى الثاني تحققها: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ [يوسف: 100]، هذان معنيان.
المعنى الثالث: المبتدع وهو التأويل عند المتأخرين، عند المتكلمين وهو صرف الكلام من المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح بزعمهم هنا في هذا الباب بقرينة تدل على ذلك، فيقول مثلاً: يد الله ليس المقصود اليد المتبادرة إلى الذهن، وإنما القوة مثلاً: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، يقولون هنا: بمعنى النعمة، فحملوه من المعنى المتبادر إلى معنى آخر مرجوح، وليس عندهم دليل على ذلك لكن قالوا: هذا من قبيل المحال عقلاً، بعقولهم الفاسدة؛ لأنهم أخطئوا في هذا النظر من أصله فقاسوا الخالق على المخلوقين فتبادر إلى أذهانهم التمثيل، ففروا منه إلى التعطيل ، فحرفوا هذه المعاني، فشيخ الإسلام يقول: لا يمكن أن يكون القرآن هادياً، والنبي ﷺ هادياً، وحاكماً، ومهيمناً على الكتب السابقة، يفصل بينهم ويحكم فيما اختلفوا فيه من الحق، ثم بعد ذلك يقال: إنه لا يفيد العلم واليقين ولا تؤخذ منه هذه القضايا والأصول الكبار، كيف يتركهم الرسول أمام مثل هذا الإبهام والإجمال في أهم المهمات، وأعظم المطالب؟.
هذا لا يمكن، لكنهم أساءوا الظن بالوحي، وبالرسول ﷺ ولذلك لم يتأدبوا معه، وسيأتي شيء من هذا -إن شاء الله-.
بيان الحق يتوقف على أمور، يتوقف على العلم به تفصيلاً، وأيضاً القدرة على البيان؛ لأن النبي ﷺ أفصح الخلق، وأُعطي جوامع الكلم، لا ينقصه بيان ﷺ ينضاف إلى ذلك النصح ومحبة الخير للناس لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128]، لا ينقصه نصح -عليه الصلاة والسلام- وحرص على هداية الناس، فإذا اجتمعت هذه الأمور، العلم، والبيان، والنصح، والحرص، فذلك كمال البيان والهداية، فالنبي ﷺ ما كان ينقصه شيء من هذا، فكيف يقال: إنه ترك هذه الأمور أمام هذه الاحتمالات حتى تأتي عقول هؤلاء وتقرر الصواب والنظر الصحيح فيها، وإنه ﷺ ما بينها، ولم يحصل ببلاغه ﷺ وببيانه المطلوب، ما حصل عندهم المطلوب، ولذلك يوردون إشكالات كِبارًا على هذا -نسأل الله العافية- لعله يأتي بعضها.
شيخ الإسلام يذكر هذا الكلام باعتبار أنه ذكر قبله ما يتوهمه بعض هؤلاء من أن هذه الأصول التي قرروها هي أصول الدين -أصولهم الكلامية- ودرسوها، وصارت تدرس لهم في كتبهم ومعاهدهم، ويتخرجون على هذه الكتب، وقد لا يعرف كثير منهم غيرها، وهذا إلى اليوم منتشر في بلاد المسلمين في شرقها وغربها في كثير من تلك المعاهد الدينية، أو الشرعية، ومن ثَمّ هذه الأشياء التي يعتقدون أنها من أصول الدين، وأنها من المعارف الإلهية، والحقائق الثابتة حينما ينظرون فيها ثم يتساءلون لماذا لم تنقل عن الرسول ﷺ؟ لماذا لم يتكلم النبي ﷺ في مثل هذه الأشياء التي يتكلم فيها هؤلاء -أعني المتكلمين- مثل الرازي ومن شابهه؟ لماذا لم تنقل من النبي ﷺ؟ لماذا يأخذونها من أرسطو وأمثال أرسطو؟ أليست من الدين؟ أليست قضايا أصول في الاعتقاد وما إلى ذلك؟ فلماذا لم تنقل؟
فهنا يأتي التساؤل والإشكال، فوُجه إلى شيخ الإسلام سؤال حينما كان بمصر سئل عن هذه القضية حكم الخوض فيما تكلم الناس فيه من مسائل أصول الدين؟ وهل تطرق لها النبي ﷺ أو لا؟ ولماذا لم تنقل عن النبي ﷺ؟ إلى غير ذلك مما هو مركب في ذلك السؤال الطويل، إذا كان كذا فلماذا كذا؟ وإذا كان كذا فلماذا كذا؟ وهل يجوز لنا الخوض فيها أو لا يجوز؟
فشيخ الإسلام أجاب عن هذا السؤال، هذا الرجل الذي سأله عنده أصل متقرر وهو أنها أصول الدين، هذه الأصول الكلامية أنها هي أصول الدين، فلماذا لم يتطرق لها النبي ﷺ؟ لماذا لم تنقل عنه؟ هل يجوز لنا أن نشتغل بها ولم يشتغل بها النبي ﷺ؟، هل كان النبي ﷺ يعرفها أو لم يعرفها؟ فهؤلاء اختلفت أقوالهم -أعني علماء الكلام- بعضهم يقول: النبي ﷺ ما كان يعرفها أصلاً وقد عرفناها، وبعضهم كان يقول: عرفها النبي ﷺ ولم يبينها، هذا أسوأ، أراد أن يتلطف قال: عرفها، ما يقدر أن يقول: ما يعرفها، الجواب والرد: إذن أنتم أعلم من النبي ﷺ ما شاء الله عرفتموها ولم يعرفها النبي ﷺ فعلومكم أكمل، وجعلتموها في أهم المهمات أصول الدين والاعتقاد، فبعضهم يقول: عرفها النبي ﷺ لكن لم يبينها، يقال: فأين لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، كيف يبين لهم أحكام الطهارة، وقضايا مثل هذه ويترك القضايا التي تترتب عليها النجاة، وترتبون عليها قضايا في التكفير، وما إلى ذلك من صحة الإيمان؟ وطائفة قالوا: النبي ﷺ عرفها، لكن الصحابة لم يعرفوها.
وبعضهم أراد أن يتلطف مع الصحابة فقال: الصحابة عرفوها لكن مَن بعدهم لم يعرفوها، وبعضهم أراد أن يهذب العبارة فقال: كانوا مشغولين بالجهاد، ولم يتفرغوا لها، فجئنا نحن وتفرغنا، فتركها النبي ﷺ مجملة ولم يتفرغوا لتفصيلها وتنزيلها على الحقائق اللائقة بالله فجئنا نحن وتفرغنا، فمذهب السلف أسلم ومذهبنا أعلم وأحكم، مذهب السلف أسلم؛ لأنهم فوضوا أشياء ما عرفوها -عوام- فوضوا معانيها ولم يتطرقوا لها، ومذهب الخلف -يعني المتأخرين- أعلم وأحكم، يظنون أن مذهب السلف هو التفويض، وإنما يصلح هذا لسلفهم هم؛ لأن المتقدمين من المتكلمين، أو من ابتلوا بالمذاهب الكلامية كان يغلب عليهم التفويض، والمتأخرون منهم أمثال الرازي كان يغلب عليهم التجهم، فهذا ممكن أن يقال: مذهب السلف أسلم، سلفهم هم، لكن مذهب الخلف لا يصح أن يوصف بأنه أعلم وأحكم، أيضاً هذه مقدمة باطلة، ونتيجة باطلة، أو مقدمة صحيحة ونتيجة باطلة، والباطل هكذا كما قال شيخ الإسلام لا يمكن تصحيحه، حاولنا أن نركب العبارة على وجه يُصحَّح لهم ولكنه لم يتأتَّ، وبالمناسبة تجدون مثل هذه العبارة في بعض طبعات كتاب الحموية، وشيخ الإسلام يرد قولهم: مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم، ويبطله، ولكن في الحموية في بعض الطبعات تجد: "لكن إن صدرت هذه الكلمة عن عارف بما يقول فقد يكون لها وجه صحيح"، هذه مقحمة في الكتاب ليست من كلام شيخ الإسلام، وليست في بعض النسخ، ولا يمكن أن يكون لهذا وجه صحيح.
هذا الجواب: أصول الدين إما أن تكون مسائل يجب اعتقادها، وهو رد على هذا الذي يقول: هل عرفها النبي ﷺ؟ هل نقلت عنه؟ لماذا لم يتطرق لها؟
فهنا يبين ما هي مسائل أصول الدين، وأنها ليست القضايا الكلامية -القانون الكلي إلى آخره- التي يقررها هؤلاء من أهل الكلام، هذا المقصود، يقول: أصول الدين هي هذه التي جاء بها النبي ﷺ وليست ما يقرره المتكلمون في كتبهم، ومن ثَمّ فإن النبي ﷺ تكلم في أصول الدين، وبينها غاية البيان ﷺ ولم يترك فيها لبساً.
هذا المسائل يعني أصول الإيمان، الإيمان بالله بأنواعه: بأسمائه وصفاته، وإلهيته، وربوبيته، وكذلك أيضاً الملائكة، الإيمان بالرسل -عليهم الصلاة والسلام- الإيمان بالكتب، بالقدر، هذه أصول الدين بينها النبي ﷺ غاية البيان، لا أصول المتكلمين.
والقسم الثاني مما يقال له ذلك أيضاً: هي دلائل هذه المسائل، فدلائل أصول الدين عند المتكلمين شيء آخر تماماً، لكن دلائل هذه المسائل في الكتاب والسنة واضحة، ومفصلة، ومبينة غاية البيان، لا تترك في الحق لبسا.
يقول: إن هذه الدلائل المتنوعة، وفي القرآن أيضاً دلائل عقلية متنوعة أفضل من أدلة المتكلمين، لا يمكن أن تقارن معها إطلاقاً، وهو ينتقد أدلة المتكلمين، ويبين الفرق بينها وبين الأدلة العقلية المقررة في القرآن، مع أن المتكلمين يقولون: إن أصولهم في دلائلهم.. هذا من أراد: أسلمت -كما يقال- فلسفة اليونان، يقولون: أصولها موجودة في القرآن، وشيخ الإسلام ينتقد هذا التأصيل عندهم، ويقول: إن دلائل القرآن أشرف منها، ويذكر لهذا وجوهًا كثيرة في كتبه المتفرقة، ومنها: "درء تعارض العقل والنقل".
فيقول هنا: إن نهاية ما يذكرونه جاء القرآن بخلاصته على أحسن وجه، لهم كلام معقد فيه حق وباطل يتعبون أنفسهم في المقدمات البدهية التي يجتازها القرآن أو يتجاوزها، وينتقل إلى المقدمات الأخرى التي يريد أن يقرر النتائج بناءً عليها، فيقول: إنه يأتي بخلاصته على أكمل وجه، وذلك كالأمثال المضروبة التي يذكرها الله في كتابه التي قال فيها: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الروم:58]، فإن الأمثال المضروبة هي الأقيسة العقلية، إلى آخره.
شيخ الإسلام يربط موضوع المثل بالشَّبه، ولذلك يُدخل في الأمثال في القرآن القصص القرآني، أخبار الأمم، إلى آخره؛ لأن القضية عنده ترتبط بموضوع الاعتبار، القياس هو الاعتبار بحيث ينتقل الإنسان مما حصل لهؤلاء إلى نفسه؛ لئلا يفعل فعلهم فيقع له ما وقع لهم، فالعاقل من وعظ بغيره، وأنها ذكرت للاعتبار، لننتقل، لنعبر -عبّارة- منها إلى أنفسنا، إلى غير ذلك.
يقول: فإن الأمثال المضروبة هي الأقيسة العقلية سواءً كانت قياس شمول، أو قياس تمثيل، فقياس الشمول تستوي فيه كل الأفراد بمقدمة كلية، تقول مثلاً: كل متحرك فهو حي، الإنسان متحرك إذن هو حي مثلاً، فتستوي كل الأفراد، المقدمة الأولى كل كذا، كل نامٍ فهو حي، الإنسان نامٍ إذن هو حي، هذا يسمونه دليلا شموليًّا، يعني هو دليل عقلي منطقي، هذا قياس شمول، وقياس التمثيل ذكرت لكم في بعض المناسبات أنه قياس الفقهاء إلحاق فرع بأصل في حكم بعلة جامعة بينهما، تقول مثلاً: النبيذ حرام، لماذا؟ تقول: النبيذ مسكر، وكل مسكر فهو خمر، وكل خمر فهو حرام، هذا بطريق قياس الشمول.
لكن قياس التمثيل قياس الفقهاء نلحق فرعًا بأصل في عملية معينة رباعية، فنقول بدون كل: الأصل عندنا هو الخمر منصوص، والنبيذ غير منصوص، العلة الإسكار، الحكم تحريم الخمر، فنلحق النبيذ غير المنصوص بالخمر المنصوص بعلة الإسكار، فيلحق به في حكمه الذي هو التحريم، هذا اسمه قياس التمثيل.
وهناك ما يسمى أيضاً بالقياس بنفي الفارق، تقول مثلاً: التضحية بالعوراء -البيّن عورها- لا تجزئ؛ لأنها ترى نصف المرعى فيؤثر ذلك فيها، التضحية بالعمياء من باب أولى البين عورها إذا ما صحت في العوراء فهي في العمياء من باب أولى، هذا ظني، هناك قياس يسمونه الأوْلى هو ظني ليس بقطعي؛ لأنه يرِد عليه أمر آخر وهو ما يتعلق بعناية صاحبها بها وجلب العلف وهي رابضة كما يقال، فهي مظنة السمن مثلاً، غير تلك فهي مظنة الهزال، لا أقصد هذا الجدل، لكن أريد أن أقول: إن هذا يسمي قياس الأولى، تقول: التأفيف منصوص: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23]، الضرب من باب أولى قياساً على التأفيف، هذا يسمونه قياس الأولى بنوعيه قطعي وظني.
وهناك قياس مساوٍ هو من هذا الباب أيضاً، المساوي، مثل: النهي عن أكل مال اليتيم فإحراقه كذلك، إغراقه كذلك، ما فيه فرق، مساوٍ لأكله.
فهنا عندنا قياس تمثيل هو قياس الفقهاء، ويدخل في ذلك ما يسمونه براهين، وهو القياس الشمولي المؤلف من المقدمات اليقينية، الآن قال: قياس الشمول, قياس الشمول منه نوع يقال له: البرهان، والبرهان المقصود به الدليل، لكنه نوع خاص من قياس الشمول، وهو ما كانت مقدماته يقينية تنتج اليقين، يعني نتيجة يقينية، هذا القياس الذي يسمونه البرهان، هذا النوع من الأدلة التي يسمونها البرهان، وهو نوع من قياس الشمول، عندهم على ثلاثة أنواع: نوع منه يسمونه قياس الاعتلال، مركب من مقدمتين ونتيجة، يقول لك مثلاً: كل وضوء فهو عبادة، كل وضوء قياس شمول، كل وضوء فهو عبادة، هذه مقدمة يقينية، مقدمة رقم اثنين كل عبادة تفتقر إلى نية، هذه المقدمة الثانية، النتيجة كل وضوء يفتقر إلى نية، هذا مثال على ما يسمونه البرهان بنوعه المعروف بالاعتلال، يعني أن العلة مشتركة، ما دام أن العبادة تفتقر إلى نية، فكذلك أيضاً الوضوء هو عبادة إذن لابد لها من نية، فالأولى أشمل من الثانية، يعني المقدمة الأولى أشمل من الثانية.
ونوعه الآخر الذي يسمونه الاستدلال هو من قياس البرهان، يعني يستدل على وجود الشيء بخاصيته، وجود الخاصية، مثلاً: يستدل على أن الوتر نافلة، يقول مثلاً: النافلة تصح على الراحلة، أو كل نافلة فهي تصلى على الراحلة، والوتر يصلى على الراحلة في السفر، النتيجة الوتر نافلة، ما دام أنك تقر أن النافلة تصلى على الراحلة، والوتر يصلى على الراحلة إذن الوتر نافلة، فهذا يسمونه برهان الاستدلال.
ونوع ثالث يسمونه برهان الخُلف، وبعضهم يضبطه بغير هذا، فمثل هذا يعني حينما يعمد إلى تصحيح مذهبه بإبطال مذهب المخالف إما بطريقة السبر والتقسيم الذي ذكرناه قبل قليل، أو بغير ذلك؛ ليصحح مذهبه، يقول له: أنت تقول كذا وأنا أقول كذا، ويأتي بالأدلة على بطلان مذهبه، إذن ما الذي بقي؟
بقي القول الآخر الذي يقول به هو الحق إذا بطل ما يقابله، يسمونه الخُلف، وبعضهم يضبطه بغير هذا.
هذا ما يتعلق بهذه المسألة التي ذكرها شيخ الإسلام في المسائل، والدلائل التي بينها النبي ﷺ وهي أصول الدين في دلائله ومسائله، فالدلائل هي التي يستدل بها، فالله مثلاً يقول: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى [يس:81]، فهنا استدلال بخلق السموات والأرض الأجرام العظام هذا الذي خلقها قادر على أن يخلق مثل هؤلاء الناس بضعفهم وعجزهم ومسكنتهم، فهذا من الأدلة القرآنية، يستدل بهم، الذي خلق العظيمة هذه قادر على أن يخلق الأشياء والمخلوقات الصغيرة، وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27]، كله يستوي عند الله لكن "أهون" هنا إما أن يكون بمعنى هين، أفعل التفضيل لا تكون على بابها، إنما بمعنى مطلق الاتصاف، أو تكون باعتبار المخاطبين، روعي فيها فهم المخاطب، بالنسبة لكم أهون فلما كان البدء أصعب عندكم والإعادة أسهل من البدء، فالله الذي بدأ الخلق قادر على إعادته، فما المانع؟
فالأدلة على هذا كثيرة في القرآن، ولكن بعض ما يذكره شيخ الإسلام فيما يأتي -إن شاء الله- يحتاج إلى إيراد نماذج أكثر منها لتستبين طريقة القرآن على الأقل بطريق التبع، يعني يحصل لك هذا تبعاً للكلام على بعض المسائل فيكون فائدة زائدة، يعني: كما ترون بعض الكتب قضايا عقلية، لكنها تفيد في التأصيل والتقعيد، وما إلى ذلك، وفهم هذه العبارات مهم جدًّا لطالب العلم، والله أعلم.
- أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين، برقم (1385)، ومسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين، برقم (2658).
- بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (2/ 458).
- انظر: درء تعارض العقل والنقل (5/ 71)، ومجموع الفتاوى (7/ 587).
- بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (2/ 470).
- أخرجه أحمد في المسند، برقم (2397)، وقال محققوه: "إسناده قوي على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير عبد الله بن عثمان بن خثيم، فمن رجال مسلم، وهو صدوق، زهير أبو خيثمة: هو ابن معاوية"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2589).