إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
ففي غرة هذا الشهر الحرام ذي القعدة، وهو من الأشهر الحرم الثلاثة المتعاقبة، وهي من أشهر الحج، ولا شك أنها من أعظم شهور العام، والله -تبارك وتعالى- يقول: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة:36] في هذه الشهور العظيمة نتحدث في بقعة هي من أحب البقاع إلى الله -تبارك وتعالى- وهي المساجد، عن مطلب يُعد من أجل المطالب وأشرفها، وهو الكلام على معاني الأذكار؛ وذلك أن الذكر هو من أجل الأعمال، وأفضلها، وأحبها إلى الله ، فالاشتغال به اشتغال بمطالب جليلة، والتعرف على معانيه يُعد من أشرف العلوم وأفضلها.
وطلاب العلم يستشرحون كلام المصنفين من العلماء وهم بشر يصيبون ويخطئون، ويحصل لهم من السهو والغلط ما لا ينفك منه البشر، وهذا كلام الله وكلام رسوله ﷺ الذي فيه جوامع الكلم، وهو الحق والهدى والصواب الذي متى ما ثبت فإنه لا يتطرق إليه خطل ولا خلل ولا غلط، وإنما هو الهدى بحذافيره.
فالاشتغال بهذا يبصرنا بمعاني هذه الأذكار الجليلة العظيمة التي نرددها صباح مساء، وفي صلاتنا، وفي تحولنا وتنقلنا، ولكننا في كثير من الأحيان نقولها من غير حضور القلب، كما أننا نرددها في أحيان كثيرة، ونحن لا نتفطن لما في مضامينها من المعاني العميقة، والدلالات العظيمة، بل لربما يصدر من الواحد منا ما يقتضي خلاف ما يردده، وهذا شيء مشاهد تجد الرجل لربما يركب الطائرة، أو يركب السيارة وهو يسافر إلى بلاد لا يحل له السفر إليها، أو إلى مقاصد لا يجوز له أن يقصدها من الأمور المحرمة، ثم هو يقول: اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى[1].
ولربما وضع في أذنيه سماعة يسمع الأغاني والمعازف، وهو يردد بلسانه هذا الدعاء، وهذا الذكر الذي يقال في السفر، بل لربما يُذكر في بعض الطائرات، ويعقبه من أصوات المعازف أو يسبقه ما يدل على استخفاف واستهتار وجهل بالغ، وغفلة عظيمة عن مضامين هذا الذكر الذي يردد على مسامع الناس، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، وأي عمل ذاك الذي يرضاه على هذه الحال التي يكون عليها هذا المسافر الذي سافر ليعصي الله -تبارك وتعالى-؟! هذه غفلة.
والحديث عن هذه المعاني -معاني هذه الأذكار- يبصرنا بمضامينها؛ ليكون ذلك أدعى لحضور القلب عند ذكرها، فإن معرفة المعاني والهدايات التي تضمنتها داعية لحضور القلب معها، هذا بالإضافة إلى أن معرفة هذه المعاني مع حضور القلب يحصل به الأثر المرتب على هذه الأذكار في الدنيا والآخرة بقدر ما يحصل من هذا الاستشعار وحضور القلب وفهم المعنى، فالإنسان الذي يردد بلسانه من غير حضور للقلب يردد هذه الأذكار لا يكون له من الأجر المرتب على قول هذه الأذكار كما لو كان يحضر قلبه ويعقل المعنى، هذا في الآخرة في الأجر.
وأما في الدنيا الآثار إذا نزل منزلاً؛ ماذا يقول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق[2]، وهكذا ما يقوله حينما يخرج من بيته، حينما يريد النوم، فإن الآثار المرتبة على هذه الأذكار من حفظه وكفايته، وأنه لا يضره شيء مثلاً بقدر ما يكون له من حضور القلب وفهم المعنى والمضمون، فإذا تحقق هذا كان الأثر تامًا، هذا الذي نزل منزلاً وقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، إذا كان قد أحضر قلبه وفهم ما تحت هذه العبارة من المعاني فإنه لا يضره شيء، وهذا شيء مشاهد، ويكفي أن النبي ﷺ أخبر به.
وقد ذكرت في بعض المناسبات أن أحدهم كان يُذكِّر أصحابه حينما نزلوا منزلاً بهذا، ويقول: لا بدّ من حضور القلب، وهو يتكئ على الأرض، ووضع يده خلفه، ثم قبض قبضة من تراب، وكان يعبث بها، وإذا بهذا التراب فيه عقرب، وكان في يده وما ضره مع أنها لا تمهل، في الوقت الذي كان يذكر أصحابه بهذا، ويقول: لكن لا بدّ من حضور القلب، وهو يعبث بالتراب خلف ظهره، ويقبض قبضة، ثم بعد ذلك يفاجأ.
أقول: نحن بحاجة إلى مثل هذا الحديث، نحن أحوج ما نكون جميعًا، يحتاجه: العامة، والعلماء، وطلاب العلم، والرجل، والمرأة، والكبير، والصغير، ونتدارس مثل هذه الأشياء، هذا من أنفع العلم وأجله وأشرفه، هذا العلم الذي يحتاج إليه كل أحد، هذا العلم الذي يتكرر في سائر الأوقات في اليوم والليلة، في الصلاة التي نصليها في قيامنا وركوعنا وسجودنا وجلوسنا، نحتاج إلى معرفة هذه الأشياء، ولهذا إني أحتسب عند الله هذه المجالس، وأرجو أن تكون مقربة إلى وجهه، وأسأله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا وإياكم فيها نيّة.
هذا بالإضافة إلى ما نعانيه من الجفاف، هناك مشكلة حقيقية، هناك جفاف، هناك تصحر لو نظرنا إلى ما تلهج به ألسنتنا، وما يتردد في مجالسنا هل هو ذكر الله -تبارك وتعالى-؟
كم مرة في اليوم والليلة نقول: لا إله إلا الله؟!
كم مرة في اليوم والليلة نستغفر؟!
كم مرة نقول: لا حول ولا قوة إلا بالله؟!
أحيانًا يكتشف الإنسان أن لسانه قد انعقد وكأنه قد جف، ولربما ينتظر الساعة وأكثر وهو على فراشه ينتظر النوم، فإذا تفطن وجد أن لسانه جافًا لا يكاد يتحرك، بل لربما يتحرك بثقل، والمطلوب خلاف ذلك أن يكون اللسان رطبًا بذكر الله .
إننا نذكر الناس والدنيا والأموال، وما يتبع ذلك من الأولاد، وما نلهج به صباح مساء من ذكر هذا العرض الفاني أكثر مما نذكر ربنا -تبارك وتعالى-، هذا إذا كان الاشتغال بمباح؛ فكيف بأولئك الذين صار قوتهم وزادهم إلى الدار الآخرة أعراض العباد؟!
لا يجتمعون في مجلس ولا يلتقون إلا على القيل والقال، وعيب الناس، ولمزهم وغمزهم ونبزهم بالألقاب، ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا، إذا مكر بالعبد صار شغله بغيره، صار شغله بما يضره، كقوله تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:19]، الذين نسوا الله نسوه فلم يذكروه، نسوه فلم يعبدوه، نسوه جعلوه وراء ظهورهم، تركوا ذكره بقلوبهم وألسنتهم وجوارحهم، هذا النسيان بمعنى الترك فجازاهم الله بالمثل، جَزَاءً وِفَاقًا [النبأ:26]، فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر:19] أنساهم ما ينفعهم فلم يقبلوا على ما يرفعهم، وإنما صار اشتغالهم ولهجهم وسعيهم وكدهم فيما تحصل به التعاسة، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10] بل لربما يتحول ذلك إلى لون من اللذة يلتذ بها ولكنها كلذة السموم الفاتكة، أو لذة ذلك الهر الذي يلعق مسن الجزار، وما فيه من بقايا لحم ودم ثم بعد ذلك ما يلبث لسانه أن يتشقق فيبدأ يلعق من دمه حتى يكون بذلك هلاكه.
فهذا الجفاف الذي نعانيه هو الذي يورثنا الوحشة، هو الذي يورثنا الألم، هو الذي يورثنا الضيق، هو الذي يورثنا القلق، هو الذي يورثنا الاكتئاب، هو الذي يورثنا هذا الحزن الطويل، هو الذي يورثنا هذه الوجوه التي لربما يُرى البؤس على ظاهرها، وذلك أن من أعرض عن ذكر الله فقد وعده الله بالمعيشة الضنك: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا [طه:124]، ومن الذكر الذي يدخل في هذه الآية هو ذكره -تبارك وتعالى- باللسان، كما يدخل فيه الذكر الآخر وهو كلامه الذي أنزله على رسوله ﷺ وهو أجل الذكر وأشرفه، كل هذا داخل فيه، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.
إن الكثيرين يعانون من ضيق، ومن عصرة في قلوبهم، قد لا يعرفون أسبابها، ولا يجدون شيئًا يبررها من واقعهم حيث يتقلبون بألوان النعيم، واللذات ومع ذلك هذه الوحشة تلازمهم وتلاحقهم ولربما سرحوا هذه الأبدان، ورتعت في المحال التي يرون فيها ما يحصل به بهجة النفوس من الخضرة والجمال والمياه الخرارة، وما إلى ذلك، ولكن هذه العصرة تلاحقهم، فيرجع إلى كآبته وكأنه لم يصنع شيئًا؛ لأن إجمام البدن يحصل بالطعام والشراب والنكاح، وأكل الطيبات، ومزاولة اللذات، ولكن إجمام الروح لا يحصل إلا بارتباطها وصلتها بربها وخالقها وفاطرها -جل جلاله وتقدست أسماؤه-، إذا كان النبي ﷺ يقول: والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة[3]، وهو الذي غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، كم نستغفر نحن ونتوب في اليوم والليلة -معاشر المذنبين المسيئين المقصرين؟! وفي حديث الأغر المزني عن النبي ﷺ: إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة[4]، رواه مسلم.
قوله: ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله يحتمل أن يكون المعنى أنه يستغفر مما وقع من هذا الغين على القلب.
ويحتمل أن النبي ﷺ يذكر لهم هذا الأمر من أجل أن يستزيدوا من الاستغفار والذكر، يقول: أنا مع هذا الاستغفار الكثير في اليوم مائة مرة ومع ذلك يغان على قلبي، وهو أصفى الناس قلبًا ﷺ، وهذا الغين فسره بعضهم كالقاضي عياض[5] -رحمه الله- بفترات عن الذكر الذي من شأنه أن يداوم عليه ﷺ فإذا فتر عنه لأمر ما عدّ ذلك ذنبًا فاستغفر منه، يعني لربما اشتغل بأمور كما يقول بعضهم: يشتغل بمصالح الأمة، وإعداد الجيوش، وجهاد الأعداء، ومداراة آخرين، والجلوس إلى الناس فيشغله ذلك فيحصل له هذا الأثر ويستغفر في اليوم مائة مرة، فكيف بالذي قد جف لسانه؟!
فلا شك أن القلب سيتصحر ولا بدّ، فهذا الغين كما قيل: شيء يعرض للقلب، وفسره بعض المعاصرين كالشيخ محمد الصالح العثيمين -رحمه الله- بالغم ما نسميه نحن بالكتمة[6]، والخطابي يقول: "يغان على قلبي يعني يغطى ويلبس على قلبي"[7].
وأبو عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله- يقول: "يتغشى القلب ما يلبسه كأنه يعني من السهو"[8].
وبعضهم يقول: شيء يعتري القلوب الصافية مما تتحدث به النفس، إلى غير ذلك مما قيل المقصود: إنه عرض يحصل للقلب مع كثرة الاستغفار، فماذا يقول البطال الذي لا يعرف الذكر أصلاً؟!
هذه تدعونا إلى المراجعة والمحاسبة والنظر في أحوال هذه النفوس، وما تلهج به هذه الأنفس، وما نعانيه ونكابده من آلام وضيق في نفوسنا ووحشة لا يزيلها أكل مستلذ، ولا شراب ولا غير ذلك، إنما يزيلها الارتباط بالخالق -تبارك وتعالى- بذكره بالقلب واللسان والجوارح.
- [1] - أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره، برقم (1342).
- أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره، برقم (2708).
- أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب استغفار النبي -صلى الله عليه وسلم- في اليوم والليلة، برقم (6307).
- أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، برقم (1702).
- شرح النووي على مسلم (17/ 23).
- شرح رياض الصالحين (6/ 715).
- معالم السنن (1/ 295).
- غريب الحديث للقاسم بن سلام (1/ 137).