إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
نحن بحاجة إلى المراجعة لنتعرف على حالنا في مجالسنا مع ذكر الله ، في هذه المجالس بماذا يلهج هذا اللسان؟ حينما نختلط ونجتمع بالآخرين بماذا نتكلم؟ خوضنا يكون في أي شيء؟
النبي ﷺ أخبرنا عن حال المجالس التي تخلو من ذكر الله -تبارك وتعالى-، فقد صح عنه أنه قال: ما من قوم جلسوا مجلسًا وتفرقوا منه لم يذكروا الله فيه إلا كأنما تفرقوا عن جيفة حمار، وكان عليهم -يعني هذا المجلس- حسرة يوم القيامة[1]، أخرجه أحمد، وأبو دواد، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله-.
تفرقوا عن جيفة حمار، وكان عليهم حسرة ولاحظ هذا المجلس لم يذكر فيه النبي ﷺ أنهم اشتغلوا فيه بكلام محرم لو أنهم اشتغلوا بكلام مباح ولم يذكروا الله -تبارك وتعالى- في هذا المجلس فحالهم تكون كما وصف، فكيف إذا كان الاشتغال بما حرم الله من قالة السوء، والوقيعة في الأعراض، والنميمة وما إلى ذلك مما حرمه الله -تبارك وتعالى- من الأقوال، والأفعال عن أي شيء سيتفرقون؟!، وكيف سيكون ذلك المجلس عليهم يوم القيامة؟! فهل مجالسنا عامرة بذكر الله ؟!
ينبغي على الإنسان منا أن يلتفت إلى نفسه التفاتة صادقة، ويصلحها، ويقومها، ويحملها على طاعة ربها ومليكها ، فيجعل هذا اللسان يلهج بذكره، إذا رأيت من يشتغل بالناس، ويلهج بذكرهم في المجالس؛ فأرشده إلى أن يذكر الله ، وأن يشتغل بالتسبيح، والتهليل، والتكبير فإن هذا هو الذي ينفعه ويرفعه.
ثم إذا نظرنا إلى أحب الأعمال إلى الله -تبارك وتعالى-، والمؤمن يبحث عن أحب الأعمال إلى ربه، والأعمار قصيرة، أعمارنا محدودة، فينبغي في سيرنا وسلوكنا إلى ربنا -تبارك وتعالى- ونحن في تجارة معه أن نبحث عن الشريف من الأعمال والجليل فنشتغل به ونملأ به هذه اللحظات والأنفاس؛ من أجل أن يقدم العبد على ربه بتجارة رابحة، والآخرة دار لا تصلح للمفاليس، والله يقول: بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة:14-15] قد يجادل الإنسان عن نفسه ويبرر تفريطه، ولكن الله لا يخفى عليه خافية من أحوالنا، وأعمالنا، واشتغالنا، والموفق من وفق الله -تبارك وتعالى-، معاذ بن جبل يقول: "إن آخر كلام فارقت عليه رسول الله ﷺ أن قلت: أي: الأعمال أحب إلى الله؟ الصحابة يسألون عن مثل هذا، ما هي أحب الأعمال إلى الله من أجل أن يتقرب بها، فبماذا أجابه النبي ﷺ؟ قال: أن تموت ولسانك رطبًا من ذكر الله[2].
إذن ترطيب الألسن بالذكر لا يكون اللسان رطبًا بذكر الله إلا بالإكثار من الذكر ألا يفتر الإنسان عنه، وفي رواية: "أخبرني بأفضل الأعمال وأقربها إلى الله؟"[3]، ولما كانت هذه العبادة لا تتطلب كلفة ومشقة وهيئة وحالًا معينة بحيث يكون الإنسان لا بدّ أن يستقبل القبلة، أو يكون قائمًا، أو أن يكون متوضأ، هذا كله ليس بلازم ولا مشترط للذكر؛ لهذا جاء الأمر بالإكثار من ذكر الله في جميع الأحوال.
ولم يأت في عبادة أمرنا الله بها لم يأت هذا الأمر مقترنًا بالكثرة إلا في الذكر فقط، حينما نؤمر بأن نفعل كذا يقول: أقيموا الصلاة، آتوا الزكاة لكن في الذكر: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41]؛ لأن هذه هي الحياة الحقيقية لا يستطيع القلب أن يحيا حياة صحيحة مستقيمة وهو بعيد جاف، لا يذكر ربه، إن القلب بهذه الحال تصيبه من الآفات والأدواء ما لا يقادر قدره، اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:41-42]، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200]، كانوا في موسم الحج إذ جاؤوا من معرفة ورجعوا إلى منى يشتغلون بذكر الآباء ومفاخر الأجداد، فأمرهم الله -تبارك وتعالى- بعد هذه العبادة الشريفة العظيمة التي تكون سببًا لحط الأوزار، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه[4]، أمرهم بكثرة الذكر، فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا.
فالعبد في الطريق لا يستغني أبدًا عن الذكر بحال من الأحوال حتى بعد هذه العبادة العظيمة التي أقيمت من أجل ذكر الله ، الحج، العمرة، المناسك، الطواف، السعي، كل ذلك من أجل إقامة ذكر الله، ومع ذلك فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا.
وهكذا في مقام الثناء لأهل الإيمان: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191]، حينما يعرض الإنسان نفسه على هذه الآيات يخشى على نفسه من النفاق، قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ، هؤلاء الذين أثنى الله عليهم: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35].
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا.
- أخرجه أحمد في المسند، برقم (7093)، وقال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد حسن"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (76).
- أخرجه الترمذي، أبواب الدعوات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في فضل الذكر، برقم (3375)، وابن ماجه، أبواب الأدب، باب فضل الذكر، برقم (3793)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7700).
- أخرجه ابن حبان في صحيحه، برقم (818)، بلفظ: "أي الأعمال أحب إلى الله؟، قال: أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله، والطبراني في الدعاء، برقم (1852)، وفي المعجم الكبير، برقم (181)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (165).
- أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب فضل الحج المبرور، برقم (1521).