- تابع شرح حديث سعد بن أبي وقاص
- مقدار النفقة في سبيل الله
- هل يؤجر العبد على الأعمال المباحة أم يشترط النية؟
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فكنا نتحدث عن بعض المعاني والفوائد المتعلقة بحديث سعد بن أبي وقاص ، لما مرض في حجة الوداع، في مكة.
وابنته هذه قيل: اسمها عائشة، وقيل: أم الحكم الكبرى، وقد شرحت صدر هذا الحديث، ووقفنا عند هذا الموضع.
فقوله: لا يرثني إلا ابنة لي، هذا في ذلك الوقت، وإلا فمن المعلوم أن سعد بن أبي وقاص جاءه أبناء ذكور بعد هذه البنت، يعني: بعد هذا المرض.
يقول: ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ لما عاده النبي ﷺ نظر إلى ما يعنيه في أمر الآخرة، وما يقربه إلى الله ، فسأل النبي ﷺ عن هذه الصدقة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ يعني: يُبقي الثلث، فقال: لا، يقول: قلت: فالشطر –يعني النصف- يا رسول الله؟، فقال: لا، قلت: فالثلث يا رسول الله؟، قال: الثلث، والثلث كثير أو كبير.
ثم علل النبي ﷺ ذلك بقوله: إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة -يعني فقراء- يتكففون الناس[1].
فهذه الجملة من الحديث تدل على أن الإنسان في حال النفقة في سبيل الله ، هل يستكثر شيئاً في النفقة في سبيل الله؟، هل يقال: إن شيئًا من النفقة كثير، أو إنه إسراف وتبذير، أو نحو ذلك؟، أو أن ذلك كله يكون عملاً فاضلاً زاكياً.
إذا تتبعتَ النصوص الواردة في الكتاب والسنة في هذا المعنى تجد أن النبي ﷺ جاءه أبو بكر الصديق بمال فقال النبي ﷺ: ما تركت لأهلك؟، فقال: تركت لهم الله ورسوله، معناه: أنه لم يترك شيئاً، فقبل ذلك النبي ﷺ منه، ولم ينكر عليه، والأمر الآخر أن عمر جاء بصدقة، فوضعها بين يدي النبي ﷺ فقال: ما تركت لأهلك؟ فقال: مثله([2]، يعني: أنه ترك مثل ذلك، فأقره النبي ﷺ على التصدق بنصف المال.
وفي المقابل جاءه رجل بقطعة من ذهب صدقة فأعرض عنه النبي ﷺ، فاستقبل النبيَّ ﷺ وعرضها عليه، فأعرض عنه، ثم استقبله فعرضها عليه، فأخذها النبي ﷺ منه، ورماه بها على هيئة المغضب، وقال: يعمد أحدكم إلى ماله فيتصدق به، ثم يتكفف الناس[3]، أو كما قال ﷺ.
فالجمع بين هذه النصوص، مع قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [الإسراء:27] ومع قوله: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67] أن يقال:
إن النفقة في سبيل الله تختلف، فمن كان في إيمانه ويقينه كأبي بكر وعمر فإن له أن يتصدق بجميع ماله، ومن كان في إيمانه ضعف، بحيث إنه إذا تصدق بكل ماله ربما يتعلق قلبه بالمخلوقين، ويلتفت إليهم، وينتظر منهم الدعم والمساعدة والوقوف معه، والصدقة عليه، وما إلى ذلك، فينصرف قلبه إليهم، فمثل هذا لا يتصدق بكل ماله، ولا يتصدق بثلثي ماله، ولا يتصدق بالنصف.
وهكذا أيضًا في مرض الموت، فإن الإنسان في مرض الموت لا يتصدق بأكثر من الثلث؛ لأنه في هذه الحال صار المال له تعلق بحقوق الورثة، ولهذا فإنه لا يتصرف به التصرف الكامل.
ولو أن الرجل طلق نساءه في مرض الموت وعقد على أخريات من أجل أن يرثنه فإنه ترث منه النساء اللاتي طلقهن، والنساء اللاتي عقد عليهن، وهذه المسألة مما يلغز بها في الفقه، فيقال: رجل وَرِثَه من الزوجات ثمان نسوة! إذا امتد الموت عدة شهور، فطلقهن فانتهت عدتهن، ثم بعد ذلك تزوج في نفس المرض بأربع أخريات من بنات عمه مثلاً.
أراد سعد بن أبي وقاص في مرضه هذا الذي خشي منه الموت، أن يتصدق بالثلثين، فمنعه النبي ﷺ، فقال: النصف، فمنعه، فقال: الثلث، فقال: الثلث، والثلث كثير، وهذا يدل على أن الوصية غايتها الثلث، وما زاد على الثلث في الوصايا فإنها تلغى أي الزيادة، بل لا يجوز تنفيذها، بل ليس ذلك من الخلف في الوصية.
وهل المستحب أن يوصي الإنسان بالثلث أو يوصي بأقل من هذا؟ ظاهر الحديث أن الثلث كثير، ولهذا قال كثير من السلف :إنه يوصي بالربع، وبعضهم قال أقل من ذلك؛ لأن النبي ﷺ قال: والثلث كثير.
قوله ﷺ:إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، هذا يدل على أن القيام على شئون العيال ومن استرعاك الله أولى من أن يكون إحسانك وبرك إلى الأبعدين، ولهذا فإن الله يقول: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [الإسراء:26]، فذكر المحتاجين بعد ذوي القرابات، وذكر القرابة بعد ذكْر الوالدين قال: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، ثم بعد ذلك قال: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ فيبدأ الإنسان أولاً بمن يعول، ثم بقرابته من المحتاجين، ثم بعد ذلك بعامة الناس.
قوله ﷺ: وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرتَ عليها، حتى ما تجعل في فيّ امرأتك، هذه الجملة من الحديث دلت على أن النفقة التي يبتغي بها وجه الله يؤجر عليها، حتى ولو كانت نفقة واجبة، ولو كانت في أمر مباح، أو لو كانت في أمر يستمتع به، فإن الرجل عادة يضع اللقمة في فيّ امرأته في حال المداعبة، والمباسطة، وما إلى ذلك، وإلا فهي تستطيع أن تحمل اللقمة وأن تضعها في فمها، إنما يفعله مؤانسة لها، ومباسطة لها، ولربما تلذذ بذلك، فالمقصود أن الإنسان يؤجر عليها، وهذا الحديث قيده النبي ﷺ بابتغاء وجه الله ، فهل هذا القيد يُحمل على جميع النصوص التي لم يرد فيها هذا القيد؟
فالذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن الأعمال الطيبة التي يقوم بها العبد ليست على وجه العبادة التي يتقرب بها إلى الله أصلًا، كالصلاة، والطهارة، والصيام، والحج، لابد لها من نية وإلا فإنها لا تجزئ، لكن الأعمال التي لا تقع إلا على وجه القربة كالذكر وقراءة القرآن، الأقرب أنها لا تحتاج إلى نية، بشرط أن لا يكون له التفات إلى أمر محرم، فلا يفعله رياء ولا سمعة.
أما الأعمال المباحة، فالرجل الذي يعمل في وظيفة، ويعمل حطابًا، ويعمل تاجرًا، هل يؤجر الإنسان عليها أو لابد من النية؟
إذا تأملت الأدلة في هذا فلربما نخرج منها بنتيجة، وهي: أنّ مَن عمِلَ ليس تكثراً، وإنما ليعف نفسه عن الحاجة والفقر فإنه يؤجر على ذلك، ويدل على ذلك قصة الرجل الذي مر يتصبب عرقاً أمام النبي ﷺ وأصحابه.
فقالوا: لو كان هذا في سبيل الله! أي العرق والتعب، فأخبرهم النبي ﷺ أنه إن كان يقوم على أبوين كبيرين أو عيال ليكفيهم الحاجة فإنه في سيبل الله[4].
وكذلك أيضاً يقول النبي ﷺ:كل معروف صدقة[5]، وقال: الكلمة الطيبة صدقة[6]، وقال ﷺ: كل سُلامَى عليه صدقة كلَّ يوم، يعين الرجل في دابته يُحامله عليها، أو يرفع متاعه صدقة، والكلمة الطيبة، وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة، ودَلُّ الطريق صدقة[7]، وقال: بينما كلب يُطيف برَكِيَّة كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت مُوقَها فسقته، فغُفر لها به[8]، ولم يذكر في الحديث أنها احتسبت الأجر والثواب.
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها، فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعتْ لرسول الله ﷺ فقال: إن الله قد أوجب لها بها الجنة، أو أعتقها بها من النار[9]. فعائشة عجبت من هذا، فأخبرت النبي ﷺ، فأخبرها النبي ﷺ أنها دخلت الجنة بسبب هذا التصرف، هذه قضية جبلّية أن الإنسان يرحم أبناءه ويعطف عليهم، ويقدمهم على نفسه.
فهذا التصرف الذي فعلته هذه المرأة مع بناتها أمر تدعو إليه الجبلّة الإنسانية، ومع ذلك دخلت الجنة بهذا السبب، ولم يذكر في الحديث أنها احتسبت، فيدل على أن الإنسان يؤجر على الأمور الطيبة والمنافع المتعدية، هذا آخر الكلام على هذه الجملة، وبقي في الحديث بقية، نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
- أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، باب أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس (3/ 1006)، رقم:(2591)، ومسلم، كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث (3/ 1250)، رقم: (1628).
- أخرجه أبو داود، كتاب الزكاة (2/ 54)، رقم: (1680)، والترمذي، كتاب المناقب عن رسول الله ﷺ، في مناقب أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- كليهما (5/ 614)، رقم: (3675)، عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: أمرنا رسول الله ﷺ يوما أن نتصدق، فوافق ذلك مالا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر -إن سبقته يوما، فجئت بنصف مالي فقال رسول الله ﷺ:ما أبقيت لأهلك؟. قلت مثله.
قال وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال له رسول الله ﷺ: ما أبقيت لأهلك؟. قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدا. - أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، كتاب الزكاة، باب فضل الصدقة عن ظهر غني يفضل عمن يعول المتصدق (4/98)، رقم: (2441)، وأبو يعلى (4/65)، رقم: (2084)، والدارمي (1/479)، رقم: (1659)، عن جابر بن عبد الله قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ ببيضة من ذهب أصابها من بعض المعادن، فقال : يا رسول الله، خذ هذه مني صدقة فوالله ما أصبحت أملك غيرها، فأعرض عنه، ثم أتاه من شقه الأيمن فقال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم أتاه من شقة الأيسر فقال له مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم قال له الرابعة، فقال: هاتها مغضبا، فحذفه بها حذفة لو أصابه لشجه أو عقره، ثم قال: يأتي أحدكم بماله كله فيتصدق به ويتكفف الناس، إنما الصدقة عن ظهر غني.
- عن أبي المخارق قال: كنا عند رسول الله في غزوة تبوك فظلعت ناقة له فأقام عليها سبعاً، فمر عليه أعرابي شاب شديد قوي يرعى غنيمة له فقالوا: لو كان شباب هذا وشدته وقوته في سبيل الله !، فقال رسول الله: إن كان يسعى على أبوين كبيرين له ليغنيهما فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على صبيان له صغار ليغنيهم فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه ليغنيها ويكافي الناس، فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى رياء وسمعة فهو للشيطان العيال (1/ 154)، رقم: (19).
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب كل معروف صدقة (5/ 2241)، رقم: (5675)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (2/ 697)، رقم: (1005).
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب طيب الكلام (5/ 2241)، رقم: (2827).
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل من حمل متاع صاحبه في السفر (3/ 1059)، رقم: (2734)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (2/ 699)، رقم: (1009)
- أخرجه البخاري، كتاب الأنبياء، باب: أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم (3/ 1279)، رقم: (3280)، ومسلم، كتاب السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها (4/ 1761)، رقم: (2245).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الإحسان إلى البنات (4/ 2027)، رقم: (2630).