الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلا زال الحديث عن خبر الساحر والراهب والملك والغلام، وكان آخر ما وقفنا عليه هو قوله: فسمع جليسٌ للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة، أي: أتى الغلامَ بهدايا كثيرة، فقال: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت بالله تعالى دعوت الله فشفاك، فآمن بالله تعالى فشفاه الله تعالى، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، يعني: على عادته، جاء إلى مجلس الملك فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟، قال: ربي، قال: أوََلك رب غيري؟وهذا يدل على أن هذا الملك قد بلغ به الأمر إلى أنه قد عبّد الناس لنفسه من دون الله ، فلم يكتفِ بالتلاعب بهم عن طريق هذا الساحر، وإنما وصل الأمر به إلى أن يدعي هذا الأمر.
قال: ربي وربك الله، ولم يقتصر في رده عليه أن يقول: الله ربي، بل رد عليه بأبلغ من ذلك، قال: ربي وربك، فأنت مربوب لله مخلوق ضعيف عاجز عن تدبير حوائجك وشئونك، مفتقر إلى الله كل الافتقار، فهو ربك، فأنت مربوب، وليس برب.
قال: فأخذه، فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، وهذا يدل على أنه كان يطالبه بأن يخبره من أين أتى بهذا الأمر الجديد غير المعهود بالنسبة إليه، وقد مضى من خبر الراهب أنه قال له: إنك ستبتلى، فلا تدل عليّ، ثم لما عذبه دل عليه، وهذا يدل على أن الإنسان مهما أوتي من الصلاح والخير كهذا الغلام الذي صار بإذن الله يبرئ الأكمه والأبرص، وبلغ هذه المنزلة العظيمة، ومع ذلك لما ابتلي وعذب دل على الراهب، وهنا ندرك الضعف البشري، وأن الإنسان قد يبلغ منزلة عالية عند الله في العبادة، والفضل وتجري على يده هذه الكرامات العظيمة، ثم مع ذلك قد يحصل له الضعف، فهذا الجليس للملك قال هذا الكلام، ودل على الغلام الذي علمه هذه القضية.
قال: فجيء بالغلام، فقال له الملك: أيْ بنيّ هذا الجليس الآن عذب، وتنكر له ذلك الملك بعد أن كان من خاصته، ومن جلسائه، ومن المقربين إليه، لما جاء بأمر لا يتوافق مع هواه انقلب عليه، وصار التقريب إقصاء، وإبعاداً، وتعذيباً، وإهانة، وذلك أن المحرك له إنما هو الهوى، ومن كان محركه الهوى فإنه لا يقرّب إلا من كان موافقاً لهواه، فإن خالفت هواه أبعدك.
يقول: أيْ بنيّ قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه، وهذه الكلمة تستعمل للتلطف، فهو لم يبدأ مع الغلام بالتهديد والوعيد والعذاب، وإنما بدأ معه بالتلطف، ولربما طمع به لصغر سنه، فإنه قد يستمال بمثل هذا الكلام، فيتلاعب به بمثل هذه العبارات.
هو يظن أنه قد تخرج على يد الساحر، فصارت تجري على يده هذه الأمور التي هي من قبيل السحر، فلا زال يعيش في وهمه الكبير وغيه وباطله وفساد تصوره وإدراكه، حيث إنه لا يعرف لله قدراً.
فقال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى وقد ذكرنا بعض ما يتعلق بهذه العبارة، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، ونسي الوصية التي أوصاه بها شيخه الراهب، الملك يريد أن يقطع هذا الأمر من أصله ومنبته، لم يكتفِ بهذا الذي واجهه بأن يقتله وانتهى الأمر، بل من قال لك هذا؟ من أين سمعته؟ من بلغك به؟ من أخبرك؟ من علمك؟
فهو يريد أن ينهي هذا الأمر من أصله، فلا يبقى إلا السحر، والضلال، وتعبيد الناس لغير الله -تبارك وتعالى.
قال: فجيء بالراهب، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه...، جيء بالمنشار، ويمكن أن تقول: المِيشار، ويمكن أن تقول المِئشار، وهي الآلة المعروفة التي يقطع بها الخشب ونحوه.
قال: فشقه حتى وقع شقاه يعني: قطعه، بدأ من مفرق رأسه من الوسط فجعله نصفين، وهذه الطريقة في القتل لا شك أنها طريقة بشعة جداً، لو أنه ضربه بالسيف فقطع رأسه لكان الأمر أسهل، فقِتلة دون قِتلة، ولكنه فعل ذلك ليُري الغلام وكل من تسول له نفسه أن يتبع هذا الغلام فيترك ما يهواه ذلك الملك أن يكون مصيره القطع بالمنشار.
ولاحظوا أن هذا الراهب لم يرجع عن دينه، ولم يورِّ، وكان يمكن كما قال الله : إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28]، فعمار بن ياسر لما عذبه المشركون رخص له النبي ﷺ أن يتكلم، حيث طلبوا منه أن يسب النبي ﷺ وأن يظهر لهم تراجعاً عن دينه، فله رخصة في هذا، فهذا الراهب لم يرجع، فربما أن ذلك لم يكن مرخصاً له في دينه، وكان تخفيفاً على هذه الأمة، قال الله: إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، وقد يكون لأمر آخر وهو أنه قدوة، والقدوة يختلف الشأن فيه، ليس كغيره، وليس كآحاد الناس يمكن أن يترخص، وأما الكبير الذي امتدت إليه أعناق الناس فقد لا تسعه الرخصة؛ لأن ذلك يؤدي إلى ضلال العامة، ولذلك الإمام أحمد -رحمه الله- لما أخذه المأمون، ثم بعد ذلك المعتصم، ثم بعد ذلك الواثق، فكان يضرب بين يدي المعتصم في رمضان، وهو صائم -في النهار- حتى يغمى عليه، فكان المعتصم يقول له: يا أحمد، لأي شيء تقتل نفسك؟ قل كلمة أجد لك فيها مخرجاً.
فكان الإمام أحمد –رحمه الله- يأبى كل الإباء، فلم يترخص كغيره؛ لأنه قدوة، هو رأس في الناس، والقدوة إذا تكلم بكلام قد لا يقصد ظاهره أو أنه يريد فيه المخرج فقط فإن ذلك يؤدي إلى ضلال العامة؛ لأن الناس لا يدرون عن ملابسات ذلك، ليس لهم إلا الظاهر، ولهذا فإنه يفرق بين الناس في مثل هذه المقامات، فلا يكون الحكم مستوياً في كلها.
فهذا الراهب ثبت، ووضع المنشار في مفرق رأسه حتى شقه نصفين، وقد قال النبي ﷺ عمن كان قبلنا: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه[1].
وهذا الثبات العظيم الذي كان لهؤلاء وُجد منه لهذه الأمة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أعظم مما وجد للسابقين، فكل ثبات كان لمن قبلنا فهو أوفر في هذه الأمة، وأعظم.
ولذلك لما سأل هرقل أبا سفيان هل يرجع أحد عن دينه سَخطة له بعد أن دخل فيه؟ فقال: لا، فقال: وهكذا الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب[2].
يقول: ثم جيء بجليس الملك ويبدو أنه كان يشاهد مشهد قتل الراهب بالمنشار، ولعل الملك قتل الراهب أولا لكي يتخلص من أصل الداء في نظره، وكان يأمل أن يرجع الجليس والغلام إلى دينه.
يقول: فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ضحى أيضاً بجليسه، وبقي الغلام، جعله آخراً، ولم يضع المنشار في مفرق رأسه، ولا زال طمعه فيه، لاسيما مع حداثة سنه، وما بذل معه من الجهد العظيم ليكون له دراية بالسحر ودربة فيه، فقد تعبوا في تعليمه، وعقدوا عليه الآمال، وبعد ذلك قلب عليهم ظهر المِجن.
وهذا يجعل المؤمن لا ييأس من روح الله ، فإن أهل الباطل كما قال الله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال:36]، فالجهود الجبارة التي قد يبذلها أهل الشر والباطل والكفر والضلال قد تنقلب عليهم في أي لحظة، والمكر الكُبّار الذي يمكرون به دين الله قد ينقلب عليهم -ينقلب سحر الساحر عليه- فيخذلون، ويكون ذلك سبباً لبوارهم وهلاكهم، وزوالهم، وهذا أمر معروف مشاهد، فقد تربى موسى ﷺ في بيت فرعون، فكان هلاكه على هذا الذي تربى على يده.
وهذا الغلام هم الذين اختاروه، وأعدوه هذا الإعداد الخاص ليضلل الناس، فكان سبباً لهذا الخير العظيم الذي حصل، فالمؤمن لا يقنط ولا ييأس من روح الله ورحمته.
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3/ 1322)، رقم: (3416).
- أخرجه البخاري، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ (1/ 7)، رقم: (7).