الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فكنا نتحدث عن قول النبي ﷺ: ليس الشديد بالصُّرَعة، وإنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب.
وقد ذكرنا أموراً يمكن للإنسان معها إذا زاولها أن يخفف أثر الغضب في نفسه، وأن ذلك كما أخبر النبي ﷺ جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم.
وقد ذكر النبي ﷺ أثر ذلك عليه بانتفاخ أوداجه، وحمرة عينيه، ومن ثَمّ فإنه قد ينفرط ويخرج من طوره، ولا يستطيع أن يسيطر على نفسه، فيعتدي بالقول والفعل، ويصدر منه أمور لا تليق بالعقلاء؛ لأن الغضب على درجات، وذلك أن منه ما يصل إلى حد الإغلاق، أي: أن عقله ينغلق بحيث إنه يكون كالمجنون تماماً، لا يعقل قوله ولا فعله ولا تصرفاته، ولذلك تجد الكثيرين حينما يطلق امرأته في حال الغضب يُسأل ما درجة هذا الغضب، فيقول: لا أدري ماذا قلت، لكنهم أخبروني أني قلت لها كذا وكذا، فهذا غضب بأعلى الدرجات، وهو بإغلاق، يذهب فيها عقل الإنسان، نسأل الله العافية.
والمرتبة التي دونه هي المرتبة التي يشتد فيها الغضب على الإنسان، فيبدر منه ما لا يليق، لكنه يدرك ما يصدر عنه.
والدرجة التي دونها هي أن يحصل الانفعال في نفس الإنسان، ولكنه لا يكون بتلك القوة والشدة، فهذا أدنى مراتب الغضب.
والمقصود أن من الأمور التي يمكن للإنسان فيها أن يعالج نفسه إضافة إلى ما ذكرنا، وذلك أن الأمور الفائتة هي معالجة وقتية، إذا كان قائماً يجلس، وإذا كان جالساً يضطجع، وذكرنا أثر ذلك على الإنسان من كف اليد والبطش والمشي إلى هذا الإنسان الذي غضب عليه، وذلك له تأثير في هدوء النفس، فإن الغاضب لربما صار يرتعش واضطربت حركاته وتصرفاته، فلم يعد يسيطر على الأطراف، فإذا جلس صار أكثر سيطرة على النفس، وإذا كان جالساً وحمله الغضب على حال فإنه إذا اضطجع كان أكثر سيطرة على نفسه واستقراراً لأعضائه، ثم يطفئ جمرة الغضب كما قلنا: إنه جمرة يلقيها الشيطان في قلبه، جمرة من نار، فإنه يناسبها الماء، يتوضأ، هذه علاجات وقتية للغضب، وقلنا إذا غضب في وجه امرأته يخرج قبل أن يتكلم بكلام يندم عليه، ثم يطوف على أهل العلم ليبحث عمن يعيد هذه المرأة إليه من جديد، فتلك علاجات وقتية في لحظة الغضب.
هناك علاجات بعيدة المدى، وذلك أن يروض الإنسان نفسه على الأخلاق الفاضلة، فيدرك الإنسان العلة، هذا أول شيء في معالجة علل النفوس وأدوائها.
المشكلة أن الكثيرين لا يقرّون باعتلال أمزجتهم، وبأخطائهم وعيوبهم، وإذا جئت قلت له: عندك الخطأ الفلاني، أو الملاحظة الفلانية، صار كالشوكة في حلقك، وتتمنى أنك لم تتكلم، ويجادل أشد المجادلة ويرد ويكابر، ولا يعترف بوجود هذا الخطأ وهذا العيب الذي يراه كل إنسان، فالإنسان في كثير من الأحيان يعمى عن عيوبه، لا يراها، ويرى عيوب الآخرين.
فأول قضية نحتاج إليها في علاج النفس أن يعرف الإنسان علله وأدواءه، فالشاب الذي يقول: أنا أطلب العلم، وهو مقصر، نقول له: يا أخي أنت مقصر، أنت كسول، أنت جيد في الأمور التي فيها ترفيه، وفيها يمين ويسار، لكن العلم عنك بمنأى، فتراه يجادل، ويكابر أشد المكابرة، فمثل هذا كيف تقنعه أنه يضيع وقته، وهو لا يقبل أصلاً أنك توجه إليه هذا الاتهام، هو لا يقر أنه مسرف في الوقت، ومضيع؟!.
والإنسان العاق لوالديه، تقول له: يا أخي، لماذا هذا العقوق؟ يقول: أيّ عقوق؟، أنا لست كذلك، أنا بالعكس، أنا أفعل كذا، وأفعل كذا، وأفعل كذا، يا أخي هذا شيء مشاهد، نحن نشاهدك إذا تكلمت مع أبيك وتكلمت مع أمك، تتكلم بطريقة مشدودة محتقن الوجه، هذا لا يليق، تنفض يدك في وجه أمك، أو في وجه أبيك، ويقول: أبداً من الذي يقوله؟ فهذه المشكلة الأولى أن يعرف الإنسان عيبه، فإذا كابر ولم يقر بالعيب لا يمكن أن يتعالج.
الإنسان الذي يضيع الصلاة، ويتأخر عن الصلاة، ونحو ذلك، تقول له: يا أخي، لا يصلح هذا، قال: أبداً، من قال إني أتأخر؟ من قال إني أغيب عن الصلاة؟ ما شاء الله أنت دائماً منذ أربعين سنة ما فاتتك تكبيرة الإحرام، سعيد بن المسيب يتعلم منك، ونحن لا نرى.
فأول قضية أن يتبصر الإنسان بالعيب، هذه هي الخطوة الأولى، وكثير من الأحيان الإنسان لا يبصر عيوبه، فمعاملته أسوأ ما تكون لزوجته، تلقى منه الأمرّين، ومع الناس ما شاء الله الابتسامات، والأخلاق الكريمة، وإذا أتيت تكلمه قال: أبدا.
الأمر الثاني: أن يتذكر أن الأخلاق والأحلام ليست في حال الرضا، كل الناس حينما يكون عندهم ما يحتاجون إليه من مطلوبات النفوس يوزعون ابتسامات ويكونون مرتاحين.
ليست الأحلامُ في حالِ الرِّضا | إنما الأحلامُ في حالِ الغضب |
فإذا جاء ما يضغط على النفس، ويؤثر فيها مما يكرهه الإنسان هنا تظهر أخلاقه، ولهذا سمي السفر بهذا الاسم لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، يترك الإنسان مألوفات النفس من النوم، تتغير عادته في النوم، وفي الأكل، وفي جلوسه، ودخوله ومخرجه، فتظهر طباعه وأخلاقه، ومن ثم تذهب تلك الابتسامات والأخلاق الجميلة، ويظهر مدى تحمل هذا الإنسان من عدمه، فالأخلاق لا تتكشف في حال كون الإنسان مستريحاً.
وربما بدا لك الإنسان ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، لكنك إذا دخلت معه في قضية أو حصل احتكاك أو مشكلة لربما تعاف البلد التي هو فيها، نسأل الله العافية.
فالأخلاق والحلم لا يدرك إلا في حال الاحتكاك، فالإنسان وهو في حال الراحة لا يدرك أنه ضعيف البنية والقوة، لكن لو كلفناه، قلنا: هيا اصعد هذا الجبل، تتبين قوته من عدمها.
بعضنا يمشي خمسمائة متر، ثم يشعر أن هذه قد تسمرت، لم تعد تحمله إطلاقاً، ويشعر أن رئته ستخرج من فمه، ولا يستطيع أن يمشي شبراً واحداً زيادة على ذلك.
الخطوة الثالثة: وهي المران والملاحظة، مع تصبير النفس على الخلق الفاضل الذي تريد أن تروضها عليه، لربما يأتيك إنسان تُبتلى به معك في العمل، أو في الدراسة، يتصرف تصرفات فيها حماقات تستفز الإنسان وتجعله يغضب، ففي اليوم يحتاج إلى غضبتين أو ثلاث أو أربع، بسبب هذا الإنسان.
أقول: ممتاز يمكن أن تعتبر أن هذه نعمة سيقت إليك، من أجل ترويض النفس على خلق الحلم، فكلما أتى بتصرف لا يليق تقول: الحمد لله، الآن هذه تجربة جديدة لتطبيق الحلم، فابتسم، فالابتسامة لا تحتاج إلى شد للعضلات، واضبط أعصابك، وأدرك جيداً أن هذا موضع جديد من مواضع الامتحان تخفق أو تنجح، فتصور أن أمامك الآن ثمانين تجربة على يد هذا الأستاذ الذي صار معك في العمل أو في الدراسة أو غيره، كل مدة يسيرة يجيئك بحماقة، فكلما جاءك بشيء يستفز، تقول له: بارك الله فيك، خير إن شاء الله، ما يكون إلا خيراً.
هو طبعا يستغرب؛ لأنه في العادة يأتيه سيل من الكلمات العنيفة، أو الشتائم أو نحو ذلك، فيستغرب، وهذه مشكلة، المفروض أنه يستغرب منا خلاف ذلك، أمّا أن يستغرب اللطف والإحسان والعفو فهذه مشكلة.
فأقول: عود نفسك على هذا، وكل تصرف مزعج اعتبره اختباراً جديداً.
فإذا مرت عليك في اليوم ثلاث تجارب، وفي الأسبوع خمس عشرة تجربة، ونجحت في عشر في الأسبوع الأول وأخفقت في خمس، في الأسبوع الثاني تنجح في اثنتي عشرة وتخفق في ثلاث، الأسبوع الذي بعده تنجح في خمس عشرة، استمر على هذا سنة سترى أن أخلاقك في هذا الجانب تغيرت.
والنبي ﷺ يقول: إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم[1]، ولو تعلم الإنسان في اليوم الواحد مسألة واحدة سيتعلم في السنة ثلاثمائة وستين مسألة، فيصير عالماً، والحلم كذلك، إنما الحلم بالتحلم، يتكلف الحلم شيئاً فشيئاً، حتى يصير حليماً.
وهناك من وهبه الله الحلم، فهو سجية له وفطرة من يوم خلقه، كما قال النبي ﷺ لأشج عبد القيس لما جاءه: إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة[2].
أحياناً نرى الأسرة بكاملها كأنها معدن للحلم، وهذا شيء مشاهد، غيرهم يربّون أكثر، ومع ذلك ترى هؤلاء معدناً للحلم وسعة الصدر.
وبعض الناس حُمَم، من شدة غضبه، وأعرف البعض يلقب بالحُمَمة من شدة احتراقه وسرعة غضبه، كأنه الشيء المتفحم من شدة الإحراق والحرارة.
وتذكر أن الغضب الذي أنت تغضبه هل يحصل لك به نفع أو لا؟ أليس يرتفع ضغطك وتأتيك الأوجاع والأمراض المستعصية، والسكر يرتفع، والجلطات؟، أليس هذا هو الواقع؟ لماذا الإنسان يجعل نفسه بهذه المثابة؟ فاترك الذي يضرك.
وينبغي تذكير من رأيته سريع الغضب أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، فلما استب رجلان عند النبي ﷺ فغضب أحدهما، فاشتد غضبه حتى انتفخ وجهه وتغير، فقال النبي ﷺ: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد، فانطلق إليه الرجل فأخبره بقول النبي ﷺ وقال: تعوذ بالله من الشيطان، فقال: أمجنون أنا؟! اذهب[3].
ولو رأى الإنسان نفسه وهو في حالة الغضب، وقيل له: شاهد نفسك وقتما كنت غاضبا، لقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا السماء وهو السميع البصير.
فلا تجعل نفسك في موضع غير لائق، هذا بعض ما خطر في موضوع الغضب، والنفوس تحتاج إلى معالجة، وليس كل الغضب مذموماً بطبيعة الحال؛ لأن الإنسان يغضب إذا انتهكت حرمات الله، النبي ﷺ غضب في حالات كثيرة لما جاءوا يشفعون في خبر المرأة، المرأة المخزومية التي سرقت، لما جاء يشفع فيها أسامة بن زيد، فقال: أتشفع في حد من حدود الله؟[4]، وقوله له أيضاً: أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟[5]، وقصة معاذ لما أطال على المصلين في الصلاة، قال له النبي ﷺ: يا معاذ أفتان أنت؟[6]، فيغضب الإنسان إذا انتهكت حرمات الله، أما الذي لا يغضب لمحارم الله فهو مريض.
ومن الغضب المحمود الغضب في الموعظة، تجد هذه أبواباً في كتب السنة في البخاري وغيره، النبي ﷺ كان إذا خطب كأنما ينذر قوماً يقول: صبّحكم ومسّاكم[7]، لأنه يتفاعل مع الخطبة، والموضوع الذي يتحدث عنه، لذلك تجد بعض الخطباء كلامه ممتاز وجميل وخطبة مضبوطة، لكنها غير مؤثرة.
فيسأل بعضهم، يقول: لماذا خطبي ما لها ذاك الصدى عند الناس؟ فكنت أقول لبعضهم: لأن الكلمات تولد من فمك ميتة؛ لأنها غير متفاعلة في نفسك أنت، تقرأ من ورقة، تتكلم من طرف لسانك، أنت لم تتفاعل مع الموضوع حتى يتفاعل الآخرون معك، والناس يعرفون الفرق بين النائحة المستأجرة وبين الثكلى، فليس الخطيب هو الذي يعرف كيف يَصُفُّ موضوعاً، ويعبر بكلمات جميلة، هذا لا يعجز عنه أحد، لكنه يعيش مع الموضوع، ويتفاعل معه ويتأثر به، ويرى أن هذه مشكلة تحتاج إلى معالجة.
هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (20/ 258)، رقم: (1763)، والأوسط (3/ 118)، رقم: (2663)، والبيهقي في شعب الإيمان (7/ 398)، رقم: (10739).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله ﷺ وشرائع الدين والدعاء إليه والسؤال عنه وحفظه وتبليغه من لم يبلغه (1/ 46)، رقم: (17).
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب ما ينهى من السباب واللعن (5/ 2248)، رقم: (5701).
- أخرجه البخاري، كتاب الحدود، باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان (6/ 2491)، رقم: (6406)، ومسلم، كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود (3/ 1311)، رقم: (1688).
- أخرجه البخاري، كتاب الديات، باب قول الله تعالى: ومن أحياها، (6/ 2519)، رقم: (6478)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله (1/ 96)، رقم: (96).
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب من لم يرَ إكفار من قال ذلك متأولا أو جاهلا (5/ 2264)، رقم: (5755).
- أخرجه مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة (2/ 592)، رقم: (867).