الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
سليمان بن صرد من أصحاب النبي ﷺ الذين سكنوا الكوفة أول ما أنشأها عمر .
وكان ممن دعا الحسين بن علي بن أبي طالب –رضي الله عنهما- أن يقدم عليهم إلى العراق من أجل أن يبايعوه، لكنهم لم ينصروه، فقتل كما هو معروف، ولم يحصل له ذلك النصر الذي وُعد به، حيث كانت تأتيه الرسائل الكثيرة من العراق تطالبه بالقدوم إليه، وأنهم ينصرونه ويموتون دونه، فلما جاء غلبهم الخوف حتى إنه لقي الفرزدق وهو في طريقه إلى العراق فسأله عن أهل العراق، فقال: إن قلوبهم معك، وسيوفهم مع بني أمية، فواصل الحسين سيره حتى حصل ما حصل وقتل ، ثم ندم كثير من هؤلاء، ومنهم سليمان بن صرد ، ندم ندماً شديداً وخرج في جيش أظهروا فيه توبتهم، وأرادوا الاستدراك، وأنى لهم الاستدراك؟، هذا أمر لا يمكن استدراكه، فقد قتل الحسين ، وإنما هي مزيد من الدماء التي تهراق، فما وجدوا إلا أن يخرجوا لقتال من قاتلوا وقتلوا الحسين ، فخرجوا إلى عبيد الله بن زياد، وكان والياً على العراق وهو الذي قاد الجيش الذي قتل الحسين، فخرجوا إليه يقاتلونه وحصل فيهم قتل كثير وتفرقوا، وكان ممن قتل سليمان بن صرد ، وقد جاوز الثالثة والتسعين من عمره، وما اكتفوا بقتله أيضاً بل حملوا رأسه إلى الشام، وفي هذا أعظم عبرة، وذلك أن الإنسان يتبصر في الأمور التي يقدم عليها، وينظر بنظر صحيح، يزن به الأمور دون أن يكون الحامل له على كثير مما يأتي ويذر العاطفة، ولربما كان الكثير من الشباب يريد أن يحمل الناس في هذا الزمان على أمر لم يتمكنوا منه في زمن التابعين.
يقول سليمان بن صرد : كنت جالساً مع النبي ﷺ ورجلان يستبان، أي: أن كل واحد منهما يوجه قبيح القول إلى الآخر، هذا هو السباب، بمعنى الشتم.
وذُكر أن الذي انتفخت أوداجه هو معاذ بن جبل ، وهذا بعيد، وليس ذلك من أخلاق معاذ، فهو من خيار الصحابة، ومن أهل الأحلام والنهى، ومن علمائهم، ولا يظن به أن ينزل إلى هذه المرتبة، فيكون قِرناً لمن هو دونه فيشاركه في السباب.
قوله: وأحدهما قد احمر وجهه وانتفخت أوداجه، الأوداج: هي العروق الغليظة المحيطة بالعنق عن يمينه وشماله، وهي معروفة، فإذا غضب الإنسان ظهرت بارزة ويحمر الوجه، وذلك مصداقاً لما أخبر عنه النبي ﷺ أن الغضب جمرة من الشيطان يلقيها في قلب ابن آدم، فإذا ألقاها في قلبه ظهرت آثارها حمرةً في الوجه، وانتفاخاً في الأوداج، وحمرةً في العينين، وغلياناً يجده الإنسان في قلبه، حتى إن عروقه توشك أن تتفطر بدمائه من شدة ما يضخ القلب، فهو كالقِدر الذي قد استجمع غلياناً، ترى الإنسان في هدوئه ورزانته، فإذا غضب صار يشبه المجنون، لا يستطيع أحد أن يقف في وجهه، وأطرافه تضطرب وترتعش، ويهدِر ويتكلم بما لا يليق، حتى إنه في كثير من الأحيان يندم على كثير مما فعل وقال.
فهذا لما رآه النبي ﷺ قال: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجدبعض أهل العلم يقول: لربما كان ذلك مختصاً بذلك الرجل بعينه، أنه إن قالها انطفأ غضبه، والأقرب -والله تعالى أعلم- أن ذلك عام يشمل هذا الرجل ويشمل غيره، وذلك أنه لمّا كان الغضب من الشيطان كان الشيطان إنما ينطفئ ويندحر بالاستعاذة، يقول سبحانه:ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ [المؤمنون:96]، فإذا أحسن إليهم ممن يعادونه ويتربصون به من شياطين الإنس فإن سَوْرة غضبهم وحنقهم تنكسر، ولربما تحول الواحد منهم إلى محب مُصافٍ بعد استحكام العداوة، أما شيطان الجن فلا يمكن أن يتحول إلى صاحب وصديق ومحب وناصح، ولا سبيل إلى مدافعته إلا بالاستعاذة، فإذا ظهرت دلائل وعلامات إغراء الشيطان في أي باب، سواء كان ذلك بتهييج الغضب أو بتحريك الشهوة، أو بغير ذلك مما يدعو إليه الشيطان فإن الإنسان يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، إذا دعته نفسه الأمارة بالسوء وزين له الشيطان معصية الله استعاذ بالله من الشيطان، هذا هو شأن المؤمن، وإذا غضب استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، هذا أول ما يفعله الغاضب.
ومعنى أعوذ أي: ألتجئ، وأعتصم بالله من الشيطان؛ لأن الشيطان إذا انفرد به فإنه يستخفه، فيحمله على كل خلق كريه، وعلى كل عمل سيئ وقول بذيء، لا يترك شيئاً سيئاً إلا اقتحمه، وبالتالي فإن العبد بحاجة إلى أن يركن إلى ركن عظيم منيع، يعتمد عليه ويلتجئ إليه.
فيقول: أعوذ بالله، ألتجئ وأعتصم بالله من الشيطان الرجيم، من هذا الشيطان الذي قد تجاوز حده، وتعدى طوره، فصار يغري ابن آدم بمعصية الله -تبارك وتعالى، ويرجمهم بالوساوس، كما أنه يُرجم بالشهب وباللعن والطرد.
يقول: ذهب عنه ما يجد، يعني: من الغضب.
فقالوا له: إن النبي ﷺ قال: تعوذْ بالله من الشيطان الرجيم، نقلوا له ذلك ليذهب عنه ذلك الغضب، هذا الحديث متفق عليه.
وفي بعض الروايات أن الرجل لما قيل له ذلك قال: أمجنون؟ -من شدة الغضب- يعني: أنا مجنون؟، هذا من آثار الغضب، يرفض الإنسان أن يستعيذ ويصور له ويخيل أن هذه الاستعاذة إنما يؤمر بها المجنون، مثل كثير من الناس إذا قلت له: هداك الله، غضب وردها عليك، ويظن أنها دعوة عليه، وما علم أن هذه دعوة له، يظن أنك شتمته إذا قلت له: هداك الله، الله يهديك، قال: الله يهديك أنت، بغضب.
فأقول: العاقل ليس من شأنه ذلك، إذا دعا له الإنسان بالهداية يقول: آمين، وإذا قيل: استعذ بالله من الشيطان الرجيم استعاذ.
وذكرنا من قبل أن العلاج الوقتي هو بالاستعاذة والوضوء، وإن كان قائماً يجلس، وإن كان جالساً يضطجع، وذكرنا علة ذلك، وأما العلاج الطويل بعيد المدى والأثر فذكرنا ما يتصل به من ترويض النفس، وتعويدها على الحلم، لقول النبي ﷺ: إنما الحلم بالتحلم[2].
وكان لبعض الكبار من السلف غلام سيئ الخلق، شديد الصلافة، قيل له: ما أصبرك عليه، قال: أتعلم عليه الحلم، أدرس عليه الحلم، يجرب نفسه عليه، حتى يتعلم الحلم مرة بعد مرة، فهذا لون من تعلم الأخلاق.
وأحياناً يكون ذلك بمصاحبة أهل الأحلام وأهل الحلم والعقلاء والفضلاء من الناس فإذا خالطهم فإن الطبع سرّاق، فإنه يتقمص من أخلاقهم، كما أن الإنسان يتقمص الأخلاق السيئة، ويتقمص الغضب، فيكون غضوباً ولربما لم يكن كذلك؛ لأنه خالط قوماً هذه سجيتهم، فكيف بمن نبت في بيت شعاره الغضب، الأم غاضبة، والأب غاضب، فكيف يرجى لهؤلاء أن يَنشئوا على الأخلاق الفاضلة، وعلى الحلم؟.
فهذه أمور يحتاج الإنسان أن يتنبه لها، وأن يحسب تصرفاته في بيته، ونحن تغلبنا نفوسنا كثيراً وبالتالي ننسى في شدة الغضب والانفعال، فيتصرف الإنسان تصرفات غير محسوبة.
هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده (3/ 1195)، رقم: (3108).
- أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (20/ 258)، رقم:(1763)، البيهقي في شعب الإيمان (7/ 398)، رقم:(10739).