الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
هذا الرجل الذي سأل النبي ﷺ جاء في بعض الروايات أنه جارية بن قدامة[2]، وجاء في بعضها أنه سفيان بن عبد الله الثقفي[3]، وجاء في روايات أخرى أنه عبد الله بن عمرو بن العاص[4]، وفي بعضها أنه أبو الدرداء[5].
فالمقصود أن معرفة ذلك لا تجدي نفعاً في مثل هذا الموضع، المقصود أن نستفيد الفوائد التي ينبني عليها العمل، ويحصل بها إصلاح النفس والحال، وذلك أن الإنسان يجدر به أن يسأل من يعتقد عنده النفع، والفهم الصحيح، والعلم والتقوى والصلاح أن يوصيه بوصية ينتفع بها.
فهؤلاء الذين ذكرت، وهم جملة من أصحاب النبي ﷺ، وإن كان بعض الخبر في ذلك لم يصح، إلا أن ذلك لو جاء عن واحد، بل لو لم يأتِ فإن طلب النصيحة لا شك أنه من الأمور المحمودة، والسبب في ذلك أن الإنسان لا يبصر عيوبه، هذه هي المشكلة، والمسلم لأخيه كالمرآة، يبدي له ما غاب عنه، وما خفي عليه، ثم إن علوم الناس وفهومهم وعقولهم في غاية التفاوت، فمن الناس من يكون قد سبقك بتجارب في هذه الحياة، وخبرَها وعاش فيها لربما ما يقرب من قرن كامل، فأنت حينما يكون لك من العمر أو تكون قد بلغت عشرين سنة، ما هذه الخبرات التي جمعتها؟ هي بالنسبة لهذا الإنسان الكبير تعد قليلة جداً، كأنك قد ولدت الليلة الماضية، هو يتذكر الأيام التي مضت حينما ولدت كأنها قبل ليلة، فالمقصود أن الإنسان يكبر عقله كلما مرت عليه التجارب، وهذا هو العقل المكتسب، هناك عقل فطري يغرزه الله في الإنسان في قلبه، وهناك عقل مكتسب ينمو بالتجارب، والمعارف والأمور التي تمر على الإنسان، يسمعها ويشاهدها ويعايشها، فيكون عنده من بعد النظر، وإدراك الأمور التي تخفى على الكثيرين ما ليس عند غيره.
هذا تجده في الأعمال والأشغال في الأمور الدنيوية، تجد ذلك فيما يتعلق بالزواج وما يتصل به، تجد ذلك فيما يتعلق بالمشكلات مع الناس وطريقة التغلب عليها، وكيف نتجاوز المشكلات الأسرية.
لربما كان الإنسان يستعجل ويتحمس ويتصرف بتصرفات إن مُد له بالعمر ونما عقله عشر سنين أو أكثر لربما يتندم ويستغرب كيف صدر ذلك منه، وكيف احتُمل ذلك منه، كيف الطرف المقابل كان يتحمل هذه الحماقات التي تصدر منه بين حين وآخر؟
فأقول: لا داعي لمثل هذا، العبد العاقل يسأل، ويطلب الوصية والنصيحة، دون أن يكون أمير نفسه في كل صغير وكبير، فيما له فيه تجربة، وما ليس له تجربة فيه، فالسعيد من وعظ بغيره، والشقي من وعظ بنفسه، فلا داعي للإنسان أن يرتكب نفس الأخطاء التي ارتكبها الآخرون، ولكنه يسأل ويقول: أنا بصدد كذا وكذا من الأعمال، فهل يصلح ذلك لي، أو لا يصلح؟، هل أقدم على هذا أو لا أقدم عليه؟
فالإنسان يطلب الوصية، ولا يخسر شيئاً إطلاقاً، لكن ما الذي يمنع الإنسان من هذا؟، إما العجلة، وإما الكمال الزائف، يشعر أن عنده ما يكفيه، فهو ليس بحاجة إلى الآخرين، أو الوهم الكاذب بحيث يظن أن هذه خصوصيات، وأن هذه أمور لا داعي أن يطلع عليها الآخرون، بينما الوصية ليست كذلك، طلب النصيحة ليس كذلك، ليس من انتهاك الآخرين لخصوصياتك، فلابد أن تنزل الأمور في مواضعها الصحيحة، وتجعل كل شيء في نصابه، ولربما يترك الإنسان مثل هذه النصائح لقلة المبالاة حتى إذا أصابه ما أصابه من المكاره تعلم من دهره، فعند ذلك يقول لمن بعده: من جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.
فهؤلاء كانوا يسألون النبي ﷺ، يقول: أوصني، قال: لا تغضب، النبي ﷺ سأله آخرون فكان يجيبهم بأمور أخرى، فهنا قال: لا تغضب لربما كان ذلك يتلاءم مع حال السائل، وهذا هو غاية الحكمة، أن يوصى كل أحد بما يناسبه ويلاءم حاله، فالإنسان المتعجل يُوصَى بترك العجلة، والإنسان الغضوب يوصى بالحلم وترك الغضب، والإنسان الذي يأكل المال الحرام يوصى بترك المال الحرام، وتقوى الله في المكاسب، والإنسان الذي له مشكلات مع الآخرين يوصى بأن يصلح حاله مع الخلق، والإنسان المقصر في طاعة الله يوصى بأن يصلح حاله مع الله، وهكذا، فهذه هي الحكمة، أمّا أن يوصى الناس جميعاً بوصية واحدة دون تقوى الله فتقوى الله يحتاجها الجميع وهي جامعة لكل هذه المعاني، لكن دونها من التفاصيل- فإن ذلك لا يصلح أن يكون صادراً من العاقل، بحيث إنه يجعل الناس على وزان واحد، وإنما يفصل ويفرق بينهم.
هذا الرجل قال له النبي ﷺ: لا تغضب، لأن الإنسان إذا غضب يصدر منه من القول ما لا يليق، ومن الفعل ما لا يليق، ومن التصرفات –بالذات- حركات وتغير وتهيج وأمور عجيبة غريبة، فيكون الإنسان في حال غير مرضية، فيُوصَى بأن لا يغضب.
وقد جاء في بعض الروايات أن بعض هؤلاء الذين أوصاهم النبي ﷺ سأل نفسه عن سبب هذه الوصية، يقول: فنظرت فرأيت أن الغضب يجمع الشر كله[6].
ولهذا ثبت عن النبي ﷺ في حديث صحيح أنه قال: إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق في كل شيء[7].
فالمقصود أن هذه الوصية لا شك أنها من الوصايا النافعة الجامعة، فالإنسان إذا وجد من نفسه غضباً فينبغي أن لا يتعجل باتخاذ القرار ومعالجة الموقف في ساعة الغضب؛ لأن ذلك لا يجدي عنه شيئاً، إنما هي لحظة انفعال تكون سهامه فيها طائشة، ما تصيب، لكن النظر الصحيح أن يؤخر القرار، ويؤخر التدبير حتى يهدأ غضبه، فإذا وصل إلى حالة مرضية -حالة طبيعية سوية- فعند ذلك يستطيع أن يصدر حكمه، والأفضل أن يستشير إذا كان الأمر يترتب عليه شيء كالطلاق ونحو ذلك، فيستشير ويستخير، ويتروى وهو في حال الاعتدال والاتزان.
الإنسان وهو معتدل في كامل قواه يخطئ كثيراً، فكيف إذا وقع في حال من الاضطراب والهيجان ونفسه في حال الغضب؟ كيف تكون أحكامه؟
لا يكاد يصيب في شيء منها، تأتي سهامه طائشة، تقتل مِن هاهنا وتخبط مِن هاهنا، وتصيب هذا وتخطئ هذا، فهو لا يحصل له مطلوبه ومقصوده، إنما هو نوع من التشفي، والتشفي أمره وقتي، ولذلك فإن العاقل صاحب النظر البعيد لا يعالج الأمور بمجرد التشفي فإن هذا أمر لحظي، ثم يزول، ثم يعقبه الندامة على التقصير في الاستيفاء أو على المبالغة فيه، وتضييع الحق، أو مجاوزته، فهل هذا هو مطلوب الإنسان العاقل؟
فما دام أن الأمر كذلك، وأن الإنسان قد يخطئ وهو في غاية الاعتدال فعليه أن ينتظر حتى يرجع إلى حال سوية معتدلة، ثم بعد ذلك يقرر وينظر.
ولو أن الناس فعلوا هذا في أمورهم كلها لما حصل كثير من الطلاق الذي نراه، وقطيعة الأرحام، والمشاكل بين الجيران، والمشاكل في داخل البيوت وخارجها وبين الناس في الشارع، وفي كل مكان.
وقد ذكرت لكم في بعض المناسبات حتى في تأديب الطالب التلميذ أو الطفل، إذا غضبتَ وشرعت تضرب هذا الولد وتشعر أن هناك شيئاً في الداخل من التشفي فهذا ليس بتأديب، هذا انتقام، إنما التأديب إذا كنت تضربه وذلك أشد وقعاً عليك من ضرب نفسك أنت في أشد الأماكن إيلاماً، تضربه وأنت ما ودك تضربه، تتألم بضربه، هذا هو التأديب، هذا هو العلاج، مثل الوالد إذا ذهب بولده للطبيب، ثم يرى الطبيبَ يشرط بالمشرط أصبعه أو يده، ماذا يحصل للوالد؟ أحياناً لا يستطيع أن ينظر، يلتفت، ويتمنى أن هذا في يده، بل في عينه، وليس في يد ولده، ومن كان له أولاد يعرف هذا.
لو أن الطبيب يتشفى وهو يقطع اليد، هل هذا يسمى طبيباً؟ يستحق أنه يسمى طبيباً؟ يشرط اليد ويتشفى بهذا، ويتلذذ.
هذا ليس بطبيب، هذا عدو، لاحظتم؟ إذن كيف ترضى أن تكون بهذه المثابة مع تلميذك في المدرسة، أو مع ابنك أو بنتك؟، فهذا أمر لا يليق، ولكننا لا نفكر في كثير من الأمور التي نقدم عليها.
هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب (5/ 2267)، رقم: (5765).
- أخرجه أحمد (25/ 330)، رقم: (15964).
- أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (7/ 69)، رقم: (6399).
- أخرجه أحمد (11/ 211)، رقم: (6635).
- أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (20/ 258)، رقم: (1762).
- أخرجه أحمد (5/ 373)، رقم: (23219)، وعبد الرزاق في المصنف (11/ 187)، رقم: (20286)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 105)، رقم: (20775).
- أخرجه أحمد (40/ 488)، رقم: (24427)، والبيهقي في شعب الإيمان (6/ 337)، رقم: (8418).