الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
بالأحاديث السابقة التي مضت أورد جملة من أقوال النبي ﷺ فيما يتعلق بكظم الغيظ، ووجه تعلق ذلك بالصبر أن الإنسان يحتاج إلى كبت للنفس وحبس لها حينما تتحرك دواعي الغضب في نفسه.
فالصبر يكون على طاعة الله ، ويكون بفعل أوامره وترك نواهيه، ويكون بحبس النفس على عدم الضجر عند وقوع أقدار الله المؤلمة -الصبر على المصائب، وكذلك أيضاً الصبر عند هيجان الغضب، ولذلك أورد الأحاديث: من كظم غيظاً، إلى آخر ما سبق.
ولربما سبق اللسان في بعض المجالس فقلت: باب الغضب، أو قلت: ما جاء في الغضب، وإنما المقصود الصبر، ثم أورد هنا حديثاً أيضاً يتعلق بالبلاء، وما يؤثره ذلك من غفران الذنوب وتكفير الخطايا كما سبق، كقوله ﷺ: عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير... إلى غير ذلك من الأحاديث المعروفة.
قوله ﷺ: ما يزال البلاء بالمؤمن... وهذا يدل على التتابع والاستمرار، وأن هذا البلاء لا يكون مرة واحدة يلقى فيها ما يكره، ثم ينتهي كل شيء، نعم قد تكون أيام العافية أكثر من أيام البلاء، ولكن الإنسان لا يزال يرد عليه من الواردات ما يؤلمه ويكدر عليه راحته، وينغص عليه عيشه من ألوان الآلام الحسية والمعنوية، مما يتصل بذاته، كما قال هنا في الحديث: بالمؤمن والمؤمنة في نفسه.
وقوله: بالمؤمن والمؤمنة، لو قال: بالمؤمن لدخل فيه المرأة، لكن زيادة لفظ المؤمنةفيه دليل على مزيد من التأكيد، أن ذلك لا يختص بالرجل، إنما هو كذلك في شأن المرأة أيضا، فإذا وقع البلاء بالمرأة فكذلك هي موعودة بمثل هذا الجزاء بتكفير الذنوب والخطايا، وإلا فالأصل أن النساء تبع للرجال، إلا إذا ذكر ما يختص بالرجال كلفظة الرجل، فإن المرأة لا تدخل فيه.
قوله: في نفسهكالهموم التي تصيبه من الأحزان والأمراض، وكل ذلك مما يقع عليه من الجوع والعطش والإنهاك والإرهاق، فكل هذه الأمور الواقعة على النفس والبدن يكفر الله بها خطاياه.
قوله: وولدهأي مما يحصل للولد من المكاره التي تؤلم الأب، كالمرض والموت والإخفاق في دراسته، والإخفاق في عمله، والإخفاق في أمور تهم والده، فيتطلع إلى تحقيق نجاح فيها، فإذا أخفق الولد وفشل فإن الأب يتألم لذلك، فيكون ذلك تكفيراً لخطايا هذا الوالد، ويدخل في الولد البنت والابن؛ لأن الولد يشمل هذا، وهذا.
قوله: وماله وذلك بضياع شيء منه، أو بالسرقة، أو بالخسارة، كأن يدخل في تجارات أو غير ذلك، فيغرق المال ويضيع ويتلف، كل ذلك يؤجر الإنسان عليه، ويحصل له تكفير الخطايا.
مع أن هذه الأمور متفاوتة إلا أن الثلاثةَ أمورٌ تهم الإنسان غاية الأهمية، فنفسه أغلى شيء لديه، وولده قطعة من كبده بل من قلبه، وماله كذلك حبيب إلى نفسه، ولهذا قال الله : زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14]، فهذه النساء والأموال والأبناء والبنات كل هذا من متاع الدنيا، ويقول : إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التغابن: 15]، لشدة تعلق القلب بهذه الأموال، وبهؤلاء الأبناء، فيكون ذلك شغلاً لقلبه عما هو بصدده من طاعة الله .
ولربما أثقلوه وأقعدوه عما يريد أن ينتدب له من القيام بوظائف العبودية، فإذا أرد أن يحج قالوا له: اجلس أنت مريض، وهناك زحام، نخاف عليك.
وإذا أراد أن يصوم قالوا: الصوم يرهقك، والحمد لله أنت قد صمت ما فيه الكفاية، ولهذا قال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن: 14]، فهذه العداوة كما يقول ابن القيم -رحمه الله: ليست عداوة كره وبغض، وإنما هي عداوةٌ الجالب لها الإشفاق والمحبة؛ لأنه يفعل بك فعل عدوك، فعدوك يقعدك عن معالي الأمور، وعما يوصلك إلى الدرجات العالية بكل طريق يستطيع الوصول إليها، فهؤلاء لمحبتهم التي وضعت في غير موضعها يقعدونك عما تصل به إلى الله ، فتقعد عن الحج، وتقعد عن الصيام، وتقعد عن الإنفاق.
إذا أراد الإنسان أن ينفق نفقة أو أن يوقف جزءاً من ماله قام عليه أولاده إلا من رحم الله ، فقليل الذين يشجعونه، ويقولون له: أنفق مما أعطاك الله ، لكن الغالب خلاف ذلك، يثنونه ويكثّرون ذلك عليه، ويثبطونه عنه، للأسف.
فالمقصود أنه يحصل له هذا الإيلام في النفس والولد والمال، حتى لو حصل له فيما دون ذلك، هذه أحب الأشياء إليه، فكذلك أيضاً يؤجر ويكفر عنه من الخطايا.
قوله: حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة بمعنى: أن ذلك لا يزال به حتى يلقى الله، يعني: أنه يُحط عنه من الخطايا شيئاً فشيئاً، في كل بلية يلقاها يوضع عنه من الخطايا وتكفر عنه السيئات، حتى يتخفف كاهله من هذه الأوزار، فيكون قد لقي الله في نهاية المطاف وقد نفض عنه غبار الذنوب، فسقطت تلك الأحمال والأوزار الضخمة التي ترهقه وتثقله.
وإذا تأمل العبد هذا المعنى فإنه يهون عليه ما يلقاه من الآلام مرة بعد مرة، ولا يرِد عليه السؤال الذي يورده بعض من لا فقه له، يقول: لماذا؟ أنا الآن أصلي، وأعبد الله ، ولا تزال كل مرة تأتيني مصيبة وبلية، مرة بالمال، ومرة بالنفس، ومرة بالولد؟.
فنقول: هذا غير وارد؛ لأن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فلا تزال ترد عليك هذه الأمور حتى تغسل عنك الذنوب، كاليد تغسل الأخرى، فلابد من حركة وتكرار وفرك لاسيما ما يعلق من الأوساخ، فلا يرتفع إلا بنوع كلفة، فهذه الكلفة هي الآلام التي تستشعرها في نفسك، فيحتاج ذلك إلى نوع ملاحظة.
وأسأل الله أن يعيننا وإياكم على طاعته، وأن يفقهنا وإياكم في دينه، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه الترمذي، كتاب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الصبر على البلاء (4/ 602)، رقم: (2399).