الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا هو الحديث الثاني في باب اليقين والتوكل مما ذكره الإمام النووي -رحمه الله- في هذا الكتاب المبارك رياض الصالحين، وهو:
فهذا الثناء على الله -تبارك وتعالى- والسؤال الذي تضمنه هذا الحديث هو من جوامع الكلم، وهو على السنة المعروفة، وذلك أن الإنسان إذا أراد أن يدعو الله -تبارك وتعالى- وأن يسأله مسألة فإنه يحسن به أن يقدم من الثناء على الله ما يناسب المقام، ويظهر فقره، وحاجته، ومسكنته إلى ربه .
يقول النبي ﷺ: اللهم لك أسلمت يعني: أسلم لسانه، وقلبه، وجوارحه، أسلم لأحكام الله الشرعية التي هي حدوده، الحلال والحرام، وما أشبه ذلك، فلا يخرج عن شيء من أمر الله -تبارك وتعالى، ولا يترك محابّه إلى مساخطه.
وكذلك يُسْلم الإنسان لربه -تبارك وتعالى- في أحكامه القدرية، فلا يعترض على أقدار الله وإن كانت مؤلمة، وإن كانت مزعجة بالنسبة إليه، فهذا من حقيقة الإسلام، إسلام الوجه لله ، فإن الإنسان لا تزال تنتاشه المكاره مرة بعد مرة، وإن كان قد طال عمره فصار هو أطول أهله عمراً فمعنى ذلك أنه سيفجع بهم جميعاً، الواحد بعد الآخر، هذه حقيقة الحياة، أو أنهم يفجعون به أولاً.
فالمقصود أن الإنسان يجب عليه أن يستسلم لأقدار الله المؤلمة، ويرضى بما قسمه الله -تبارك وتعالى، والله لا راد لقضائه، لكنه إن صبر واستسلم فإنه يؤجر على هذا وترفع درجاته.
وبك آمنت، آمن بذاته أنه الله -تبارك وتعالى، بوحدانيته وبربوبيته، وآمن بصفاته وأسمائه كلها على الوجه اللائق، فالله -تبارك وتعالى- هو المعبود وحده، وهو الرب الذي يدبر أمر هذا الكون، ويتصرف فيه التصرف المطلق، وهو كذلك أيضاً الموصوف بالأوصاف الكاملة من كل وجه، فيؤمن بذلك جميعاً.
قال: وعليك توكلت، وهذا في غاية المناسبة، فقد ذكر الإسلام والإيمان، فإذا تحقق ذلك للإنسان أي أسلم قلبه ووجهه وجوارحه ولسانه لله ، وآمن به على الوجه المطلوب فإن نتيجة ذلك أنه يتوكل عليه، ويفوض أمره إلى ربه .
قال: وإليك أنبت، بمعنى الرجوع إلى الله بالطاعة، والتقرب والزلفى إليه ، ويرجع من ذنوبه فيكون منيباً إلى ربه، فيترك الإساءة والعصيان، وكذلك أيضاً تكون الإنابة بغير هذا، كالإنابة من التقصير، وإن لم يكن ذلك من الحرام.
قال: وبك خاصمت، وذلك يشمل نوعي الخصومة، الخصومة التي تكون بالحجة والبرهان، وذلك أنه يخاصم بما يُظهر الله له من الحجج والبراهين، والبينات التي أوحى الله بها إلى أنبيائه -عليهم الصلاة والسلام، وكذلك أيضاً بما يهبه الله -تبارك وتعالى- للإنسان من ألوان المدارك والعلوم والفهوم، وما أشبه هذا، فإن الإنسان لا حول له ولا طول ولا قوة، فإذا خاصم بالحجة فإنما يخاصم بالله .
وكذلك الإنسان حينما يخاصم إنما تكون خصومته لأجل الله، لا يخاصم لنفسه، ولا ينتصر لها، وإنما يكون الله -تبارك وتعالى- هو محل الخصومة، فبه يوالي، وبه يعادي، وبه يقرِّب، وبه يُبْعد.
والخصومة في قوله: وبك خاصمت، تشمل الخصومة التي تكون في ميدان المعركة، فإن الله -تبارك وتعالى- إذا نصر عبده فإنه لا يتمكن أحد من الخلق أن يقهره، أو أن يستذله، أو أن يغلبه، إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160]، فالخصومة إنما يستعان بالله فيها، فلا حول له ولا طول ولا تدبير.
قال: اللهم أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أعوذ بعزتك هذه استعاذة بالصفة، وهذا أمر سائغ، وهذا من أدلته، تقول: أعوذ بالله، وتقول: أعوذ بعزة الله، كما في الحديث الآخر: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر[2]، فيجوز الاستعاذة بالصفة، لكن لا يسوغ دعاء الصفة، فلا تقول: يا عزة الله، يا رحمة الله، يا مغفرة الله، وإنما تقول: يا غفور، يا عزيز، يا رحيم، يا الله ارحمني، فإن الصفة لا تُدعى.
والعزة هي المناسبة أن يستعاذ بها، فلا يقول الإنسان: أعوذ برحمتك مثلاً، أو بلطفك، وإنما تقول: أعوذ بعزتك، لأن العزيز هو القادر على أن يمنعك، فهو لا يغالَب، ولا يقهَر، ولا تطال سطوته.
أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا تموت، والجن والإنس يموتون، هذا كله استعاذة بالله ، فإذا كان النبي ﷺ يعوذ بهذا ويقول مثل هذا الذكر العظيم مستعيذاً بالله وبعزته أن يضله فغيره من باب أولى.
كيف يأمن الإنسان على نفسه؟ يذهب ويعرّض نفسه للفتن بسفر يرى فيه أموراً، وكذلك أيضاً بالنظر إلى الشاشة، أو بغير هذا من الأمور، ويقول: أنا أثق بنفسي وأطمئن لنفسي، ويذهب إلى أماكن غير لائقة، وغير نظيفة، كل ذلك ثقة كاذبة بنفسه في غير محلها، ويجد غِبّ ذلك وأثره ولو بعد حين.
فالمقصود إذا كان النبي ﷺ يقول هذا الكلام فنحن من باب أولى، أن نستعيذ بالله وبعزته أن يضلنا، سواء كان ذلك من باب الشهوات، أو كان من باب الشبهات.
والنبي ﷺ كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك[3].
قوله: أنت الحي الذي لا تموت، والجن والإنس يموتون، وهذا هو المناسب، أن تكون الاستعاذة، والدعاء والتوكل على من لا يموت؛ لأن من يفوت، ويموت، ويغيب فإنه لا يصلح لذلك؛ لأنه سيذهل عنك، ولا يملك لك نفعاً ولا ضراً.
ولذلك فإن هؤلاء الذين يدعون الأموات، ويطوفون بهم كما يطوفون بالكعبة، ويقدمون لهم النذور والقرابين، ويسألونهم من دون الله -تبارك وتعالى، ويخافونهم وما أشبه ذلك، هؤلاء لا شك أنهم قد غابوا عن هذه المعاني، وضلوا عنها ضلالاً بعيداً.
أسأل الله أن يصلح أحوالنا، وأحوال المسلمين، وأن يردنا جميعاً إليه رداً جميلاً، وأن يصلح قلوبنا وأحوالنا وأعمالنا، وأن يرزقنا الإخلاص والنية، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل (4/ 2086)، رقم: (2717).
- أخرجه مسلم، كتاب السلام، باب استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء (4/ 1728)، رقم: (2202).
- أخرجه الترمذي، كتاب القدر عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن (4/ 448)، رقم: (2140)، وأحمد (19/ 160)، رقم: (12107).