الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا هو الحديث الرابع في باب اليقين والتوكل، وهو:
فهؤلاء ذكر النبي ﷺ صفتهم، وذكر جزاءهم، وهو دخول الجنة، مما يُشعر -والله تعالى أعلم- أن ذلك مما سبّب دخولهم الجنة.
والجنة لها أبواب، فلربما دخلها الإنسان من باب الصيام، ولربما من باب الصدقة، ولربما من غير ذلك، فالمقصود أن ذكر مثل هذه الصفة، ثم ذكر هذا الجزاء وهو دخول الجنة لربما يُشعر أن هؤلاء إنما دخلوها بسبب ما تميزوا به من هذه الصفة، وهي أن أفئدتهم مثل أفئدة الطير.
والفؤاد هو القلب على الأشهر من كلام أهل العلم، وإنما قيل له الفؤاد لكثرة تفؤُّده، أي: توقده بالمعاني والخواطر والأفكار، فهو لا يتوقف، ويقال له القلب قيل: لأنه كثير التقلب، أشد تقلباً من القِدر إذا استجمعت غلياناً، إذا كان فيها سائل، فيها ماء ثم بعد ذلك صارت تغلي فإن هذا القدر السائل الذي فيه يتقلب، فالقلب هكذا كثير التقلب والتحول.
ومن أهل العلم من يقول: إن الفؤاد هو جزء في داخل القلب، هو الذي يحصل به الإيمان، والمعرفة، والعلم والإدراك، وما أشبه ذلك، وبعضهم يقول غير هذا، والمشهور أن الفؤاد هو القلب.
قوله: أفئدتهم مثل أفئدة الطير، أورده الإمام النووي -رحمه الله- بناء على أحد المعاني لهذا الحديث: أن المقصود به أنهم يتوكلون على الله حق التوكل، كما قال ﷺ: لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً[2]، بمعنى أن هذه الطيور لا قدرة لها على الاكتساب، ليست كالبشر عندها عقول، وعندها أفهام بحيث تذهب وتتوظف وما أشبه ذلك، وتتكسب، وإنما هي تخرج من أوكارها في الغداة، فيرزقها الله وترجع في آخر النهار، تغدو خماصا ليس في بطنها شيء، جائعة، ثم تعود بطاناً أي: أنها شبعى.
فهذا كله من رزق الله ، وفضله، فالناس لو يتوكلون على الله حق التوكل لكانوا بهذه المنزلة، يُرزقون كما يرزق الطير، ولكن الإنسان يركن إلى معرفته، وحذقه، ومهارته، ووظيفته، وإلى دكانه، ومتجره، وما أشبه ذلك، فيكون ذلك من النقص في التوكل، ولكن لو أنه بذل السبب مع الركون إلى الله -تبارك وتعالى- بالكلية والاعتماد عليه، وأن الأرزاق بيده لرزقه كما يرزق الطير.
فقوله: أفئدتهم مثل أفئدة الطير أي: في التوكل على الله ، وهذا يدل على منزلة التوكل.
والمعنى الثاني الذي يحتمله الحديث: هو أن هؤلاء أصحاب قلوب رقيقة، فذلك يضرب للقلب الرقيق، فلان قلبه كقلب الطائر، يعني: أن قلبه قلب رقيق لا قساوة فيه، ولا صلابة.
هذا، وأسأل الله أن يرزقنا وإياكم حسن التوكل، وأن يرزقنا رقة القلب، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير(4/ 2183)، رقم: (2840).
- أخرجه الترمذي، كتاب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب في التوكل على الله (4/ 573)، رقم: (2344)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب التوكل واليقين (2/ 1394)، رقم: (4164)، وأحمد (1/ 332)، رقم: (205).