- مقدمة باب الانقياد لحكم الله
- قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ...}
- قوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ...}
- أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابيْن
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فبعد أن أورد الإمام النووي -رحمه الله- تلك الأحاديث تحت باب الأمر باتّباع السنّة عقّب ذلك بباب له تعلق به، وهو باب وجوب الانقياد لحكم الله تعالى وما يقوله من دُعي إلى ذلك وأُمر بمعروف أو نُهي عن منكر، ثم ذكر آيتين كعادته في تصدير الأبواب بالآيات، ولم يكثر من إيراد الآيات؛ لأنه قد أورد ما يحتاج إليه في الباب الذي قبله، وكأنه أراد أن يذّكر ببعض الآيات فأعادها ثانية.
قال الله تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء: 65]، أقسم الله بأن الإيمان لا يتحقق إلا بتحقق هذا الشرط، وهو أن يحكّموا رسول الله ﷺ فيما شجر بينهم، فيما اختصموا واختلفوا فيه، ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا، ذكر ثلاثة أمور: أن يتحاكموا إليه ﷺ، وأن ينتفي الحرج عنهم من حكمه ﷺ، وألا يُقابَل ذلك بالمعارضات بل يسلموا تسليماً.
فهذا هو حال المؤمن كما وصف الله في الآية الأخرى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور:51]، فعلق الفلاح بهذا الشرط، كما سبق وقلنا: إن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فيكون العبد مفلحاً بقدر ما يكون متّبعاً، ومسلّماً لحكم الله وحكم رسوله ، هذا هو الواجب على الإنسان
إن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فيكون العبد مفلحاً بقدر ما يكون متّبعاً، ومسلّماً لحكم الله وحكم رسوله ﷺ، هذا هو الواجب على الإنسان، فينبغي عليه إذا ذُكّر بحكم الله أن يقبل ويسلّم، وإذا أنكر عليه منكر واحتج عليه بآية أو بحديث أن يقبل ويسلّم، لا أن يعارض ذلك برأيه أو ذوقه ومواجيده وما أشبه ذلك، إذ إنّ الكثيرين ربما يختلط عليهم هذا التسليم بحظ النفس ويرون أن ذلك ينازعهم مكانتها وما لها من منزلة، فيظنون أن انتقادهم في فعل فعلوه أو في خطأ أخطئوه أن ذلك يزعزع من مكانة النفس، ومن هيبتهم، وما لهم من مرتبة اجتماعية أو نحو ذلك، وما علموا أن الكمال في الاتباع والانقياد والتسليم، ولربما احتج الإنسان بحجج يعلم أنها واهية، ولربما كابر، ولربما لجأ إلى رفع الصوت والمهاترة؛ لأنه لا يجد حجة يحتج بها مبرِّراً لموقفه وتصرفه الذي أخطأ فيه، لكن ليقول للناس: إنه على صواب وحق، لا يريد أن يخطَّأ وأن يُنسب النقص إليه بحال من الأحوال، وهذا نوع من الكبر الذي لا تستطيع كثير من النفوس أن تتخلص منه، والموفق من وفقه الله .
والمؤمن حقًّا هو الذي يقول: سمعنا وأطعنا، يقبل عن الله وعن رسوله ﷺ، وبهذا يكون محققاً لذاته مكملاً لها، مستدركاً لما يطرأ عليه من نقص وعيب، ولو كان ذلك الاستدراك قد وجه إليه من إنسان لا يحبه أو يكرهه، فالإنسان إنما يتعرف على كثير من عيوبه وأخطائه وزلاته وتقصيره من شانئيه ومبغضيه؛ لأنهم يتلمسون العثرات والأخطاء، فيعرف الإنسان نقصه بهذا الطريق، والعاقل هو الذي يسعى إلى تكميل النفس بكل مستطاع من محبيه ومن شانئيه، ولا يكون طالباً لمدح الناس وثنائهم، وتكميلهم وتعظيمهم وتقديمهم له ومحبتهم له، إطلاقاً، والله تعالى أعلم، هذا هو كمال العقل، وهذا الذي يحصل به الفلاح في الدنيا والآخرة.
أي: أن الله لا يؤاخذ الإنسان على الخطأ ولا يحمله ما لا يطيق، وهذا من لطف الشارع بالمكلفين، فكل ما كلفنا الله به فهو مما يدخل تحت طوقنا وقدرتنا، والإنسان إذا عجز عن العبادة فتارة تسقط عنه بالكلية، وتارة تتحول إلى بدل.
إن الله لا يؤاخذ الإنسان على الخطأ ولا يحمله ما لا يطيق، وهذا من لطف الشارع بالمكلفين، فكل ما كلفنا الله -عز وجل- به فهو مما يدخل تحت طوقنا وقدرتنا، مثل من عجز عن الصلاة قائماً صلى جالساً، فإن لم يستطع فعلى جنب، وكمن عجز عن استعمال الماء فإنه يتيمم، ومن عجز عن الصيام فإنه يطعم إن كان عجزه مستمرًّا مستديماً، وهكذا، ومنه ما يسقط إلى غير بدل -والله تعالى أعلم، وهذا له أمثلة معروفة، فالله عوّض أهل الإيمان وبيّن لهم المراد من هذه الآية.
ووضّح كثير من أهل العلم أن هذه الآية وهي قوله: وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّه أنها منسوخة كما جاء في لفظ هذا الحديث، يعني: أنه رفع الحكم بالآية الأخرى وهي قوله -تبارك وتعالى: لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا، والأقرب -والله تعالى أعلم- أن هذا من قبيل البيان، أن الله بيّن لهم المراد بهذه الآية.
فقال لهم الله أولاً: وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء، ثم بعد ذلك بين لهم أن الذي يكلفهم به هو ما دخل تحت طاقتهم، ومن قال: إنها منسوخة فقوله له وجه، وذلك بأنه قد رفع ذلك عنهم؛ لأن الله قال في تلك: فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء، فمن عُذّب على ما أبداه من مكنونات نفسه أو أخفاه فإن ذلك يدل على أنه مكلف به، ويكون الإنسان قد كلف بالواردات والخواطر التي تخطر على قلبه، وهما قولان معروفان لأهل العلم.
فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المذعنين المنقادين لشرعه، وأن يلهمنا رشدنا، ويقينا شر أنفسنا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه [البقرة:284] (1/ 115)، رقم (125).