الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ومما ذكره المؤلف -رحمه الله- حديث أبي العباس سهل بن سعد الساعدي الخزرجي الأنصاري ، وهو في عداد صغار الصحابة ، وكان حينما توفي النبي ﷺ له خمس عشرة سنة، وعمر طويلاً حتى كانت وفاته متأخرة إلى سنة ثمانٍ وثمانين من الهجرة، وقيل إحدى وتسعين، ولهذا قال بعض أهل العلم: إنه آخر من مات من الصحابة في المدينة، وروايته عن رسول الله ﷺ بلغت ثمانية وثمانين حديثاً ومائة، وقد أخرج الشيخان خمسة وعشرين منها.
ذَكر أنّ رسول الله ﷺ قال يوم خيبر، يعبرون باليوم عن الغزوة، كما يقال: يوم بدر ويوم أحد، وما أشبه ذلك، أي اليوم الذي وقعت فيه الغزوة، ومعلوم أن وقعة خيبر لم تكن يوماً واحداً، بل كانت أياما، فالعرب تعبر باليوم عن الغزوة وإن تعددت أيامها، وطالت مدتها أو قصرت، يوم خيبر، لأعطين هذه الراية غداً...[2]، والراية هي التي ينضوي تحتها الجند، ويجتمعون ويسيرون خلفها.
يقول: لأعطين هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه وهذه بشرى، وقوله: رجلاً منكّر تنكيراً يفيد التعظيم، من صفته أن الله يفتح على يديه.
والأمر الآخر، قال: يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، اجتمع له هذا وهذا، محبة الله له، وشهد له النبي ﷺ بمحبته لله -تبارك وتعالى، ومن الذي يصل إلى هذا القدر والمنزلة؟.
والإنسان قد يدعي شيئاً من ذلك، ولكن قد تكون حاله بمنأى عنه، ولكن حين يشهد النبي ﷺ لأحد من الناس بمثل هذه الشهادة العظيمة فلا شك أن هذه منقبة لا تدانيها منقبة.
قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم، بات الناس يعني: من حضر من أصحاب النبي ﷺ، يدوكون، أي: يتحدثون ويتحاورون، يفكرون ويقلبون النظر من هو هذا الذي سيعطى هذه الراية، ليس حبًّا للرئاسة والإمارة وما أشبه هذا، فكان أصحاب النبي ﷺ إنما يطلبون ما عند الله ، وإنما لِمَا ذكر هنا من أنه متحقق بهذين الوصفين: أنه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كل إنسان يريد هذا، فباتوا يفكرون تلك الليلة من هو؟ هل هو أبو بكر، أو عمر أو فلان؟
كلهم يرجو أن يعطاها، يقول: عسى أن أكون أنا، أنا أحب الله ورسوله، فقال: لما جاءوا وأصبحوا، جاءوا كل واحد أحرص ما يكون على أن يراه رسول الله ﷺ، كما حصل حينما قال النبي ﷺ لوفد نجران من النصارى، حينما أخبرهم أنه سيبعث معهم أميناً، أمين هذه الأمة، يقول عمر: فما تطلعت إلى الإمارة كيومئذ، حتى إنه ذكر أنه كان يتطاول في الصف، ليراه النبي ﷺ، كأنه متوقع أن يقال: تعال يا عمر، فكان يتطاول من أجل أن يراه النبي ﷺ، فلا يخفى من بين الناس، فيقول: ها أنا ذا جاهز أذهب إلى نجران، طالما أن المسألة فيها هذه الشهادة أنه أمين هذه الأمة.
وهذه الأوصاف -أيها الأحبة- ما تأتي من فراغ، تأتي من بذل، ونصح وإحسان ونفع متعدٍّ، وصلاح قلب، وصلاح حال، وعمل وتقوى لله -تبارك وتعالى، فمن سلك طريقهم، واستن بسنتهم، وبذل بذلهم، يُرجى أن يبلغ بإذن الله .
يقول: كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فاز وظفر، فقيل: يا رسول الله، هو يشتكي عينيه، كان قد أصيب بالرمد، وهو وجع معروف إذا أصاب العين لا يستطيع الإنسان معه أن يتصرف في شئونه، العين تدمع، وتكون في حال تتشوش معها الرؤية.
قال: فأرسِلوا إليه، فأُتي به، فبصق رسول الله ﷺ في عينيه، ودعا له فبرئ حتى كان كأن لم يكن به وجع ﷺ، وهذا من معجزاته، ومن دلائل نبوته وآياته ﷺ التي أعطاه الله إياها، بصق بالعين وبرئت كما فعل ﷺ لمن سالت عينه على خده، خرجت عينه في الغزوة، فردها ﷺ ومسحها، فعادت كأن لم يكن بها شيء.
وقال للمرأة السوداء التي كانت تصرع لما طلبت منه الدعاء، قال: إن شئتِ صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك[3]، فقالت: أصبر، ولكن إني أتكشف، فادعُ الله لي أن لا أتكشف، فدعا لها بهذا المقدار، ألا تتكشف، فما صارت تتكشف إذا سقطت في صرعها وتخبطها ﷺ.
يقول: فأعطاه الراية، قال علي : يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟، أقاتلهم، يعني: على الإسلام، لا أقبل منهم الجزية، وإنما أقاتلهم حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وهذا موافق لقول النبي ﷺ: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام[4].
وهذا العموم في السنة يخصصه القرآن، وهو قوله -تبارك وتعالى: قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة: 29]، وهذا في سورة براءة، وهي آخر ما نزل في القتال.
يقول: فقال: انفُذ على رسلك، امضِ على رسلك، لا تستعجل حتى تنزل بساحتهم، وفي بعض الروايات أنه قال له: لا تلتفت، فلما مشى قليلاً تذكر شيئًا، فأراد أن يسأل فصاح بصوته: يا رسول الله، يريد أن يسأل على أي شيء أقاتلهم؟، ما التفت امتثالاً لقول الرسول ﷺ، يقول: حتى تنزل بساحتهم، والساحة هي المكان الفضاء في ديارهم، وهي التي تكون دون بيوتهم أو بينها أو نحو ذلك، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأنْ يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم، متفق عليه.
هنا قال له: يدعوهم إلى الإسلام ويخبرهم بما أوجب الله عليهم، وهذا هو المشروع قبل قتال الكفار، أن يُدعَوا إلى الإسلام، فلا يُبغتون ولا يدرون على أي شيء قوتلوا، ولكن إن كانت الدعوة قد بلغتهم فإنه يجوز مباغتتهم كما فعل النبي ﷺ حينما أغار على بني المصطلق وهم غارُّون[5]، يعني: على غفلة، وذلك أن الدعوة قد بلغتهم، فيجوز هذا في هذه الحالة، والعلم عند الله ، هذا هو الجمع بين هذه الأحوال التي صدرت من رسول الله ﷺ.
الحاصل أنه هنا قال له: فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم أنفس الأموال عند العرب هي الإبل، يقال لها: حمر، لألوانها الغالبة، فهداية رجل أفضل لك من هذه النفائس من الأموال، وهذا يدل على أن الإنسان إذا استجاب له أحد من غير المسلمين، فدخل الإسلام على يده أو تاب على يده أحد من الناس وصلحت حاله أن ذلك خير له من ألوان التجارات والمكاسب الدنيوية والذهب والفضة.
والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ [النساء: 94].
فبين لهم أن هذا الذي يكون عند الله من الجزاء أفضل مما يأخذونه من غنيمة من هؤلاء الكفار إذا قاتلوهم واستولوا على أموالهم وديارهم، فما عند الله خير، وبهذا نعرف أهمية الدعوة إلى الله وبذل النصح للناس وتعليم الخير للقاصي والداني، فكل كلمة ينتفع بها هؤلاء لك من الأجر بقدر ما بصّرتهم، ولك كأجورهم فيما عملوا به من طاعة الله مما عرفوه من طريقك، فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وأن يتقبل منا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يرحم موتانا، وأن يشفي مرضانا، وأن يعافي مبتلانا، ويجعل آخرتنا خيراً من دنيانا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة (4/ 2060)، رقم: (2674).
- أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر (5/ 134)، رقم: (4210)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل علي بن أبي طالب (4/ 1872)، رقم: (2406).
- أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب فضل من يصرع من الريح (7/ 116)، رقم: (5652)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض، أو حزن، أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها (4/ 1994)، رقم: (2576).
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب: فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم [التوبة:5] (1/ 14)، رقم: (25)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله (1/ 51)، رقم: (20).
- أخرجه البخاري، كتاب العتق، باب من ملك من العرب رقيقا، فوهب وباع وجامع وفدى وسبى الذرية (3/ 148)، رقم: (2541)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام من غير تقدم الإعلام بالإغارة (3/ 1356)، رقم: (1730).