الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
والمقصود بالوصال: أن الصائم لا يفطر بعد غروب الشمس، وإنما يستمر على صومه، وهو نوعان:
الأول: أن يبقى إلى السحر، يعني: لا يأكل ولا يشرب، ولا يأتي شيئاً مما يُمنع بالصوم.
الثاني: أن يواصل ليله بنهاره، لا يأكل ولا يشرب ويمتنع من سائر المفطرات فيواصل يوما أو يومين فأكثر، وقد نقل عن ابن الزبير -رحمه الله- أنه كان يواصل خمسة عشر يوماً، ونقل عن بعضهم أنه يواصل عشرة أيام.
فكان النبي ﷺ يواصل في الصيام، وكذلك أصحابه ، وكانوا في غاية الحرص على الخير، وعلى طاعة الله -عز وجل، والاستزادة من العمل الصالح، ويحبون الطاعات ويقبلون عليها، ولا يستثقلونها، ولهذا لما احتضر معاذ بن جبل بكى عند موته، فسئل عن هذا، فقال: أبكي على ثلاث، على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء الطويل، وعلى مزاحمة العلماء بالرُّكب.
وهذه الأشياء الثلاثة تجد أكثر الناس اليوم أزهد ما يكونون فيها، بل هي أثقل شيء على كثير من النفوس، الصيام في الحر فلا تجد من يجعل الإجازة فرصة ليعود نفسه على الصيام، بل يعتذر ويتعلل بالدراسة أو نحو ذلك، والعمر ينقضي ولا يخلو من أشغال، والجنة تحتاج إلى عمل صالح ومجاهدة للنفس.
أصحاب الرسول لم يكتفوا بكثرة الصوم، بل كانوا يريدون المواصلة، لا يفطرون في الليل بل يستمرون أياماً، فنهاهم النبي ﷺ عنه، رحمة لهم يعني: شفقة عليهم.
فقالوا: إنك تواصل، نحن نريد أن نقتدي بك، كيف تنهانا عن الوصال وأنت تواصل؟، أرادوا أن يتبينوا ذلك، يعني: هل هذا مما يختص بالنبي ﷺ؛ لأن من الأعمال ما هو مختص به ﷺ، لا يشمل الأمة، ومنه ما يكون مشتركاً فيه مع أمته ﷺ، قال: إني لست كهيئتكم، أي: لست بمثابتكم.
وقوله: إني يطعمني ربي ويسقيني اختلف أهل العلم في معناه:
فمنهم من قال: إن الله يجعل فيه قوة كقوة الذي يأكل ويشرب، وهذا هو الذي اختاره الإمام النووي -رحمه الله، وهذا القول لا يخلو من إشكال، لأن العبادات فيها مشقة ويؤجر الإنسان على مشقتها.
ومنهم من قال: إنه يحصل له ما يحصل لمن أكل وشرب من الري والشبع، وهذا أيضاً فيه إشكال؛ لأن النبي ﷺ كان يجوع وكان يربط على بطنه الحجر والحجرين.
ومن أهل العلم من قال: إن الله يطعمه من الجنة وهو نائم، وهذا فيه إشكال باعتبار أن هذا الوصال يشق، ويؤجر عليه الإنسان، فلو كان يأكل ويشرب من الجنة إذا نام فإن ذلك وإن كان لا يقال: إنه أفطر لأنه يحدث وهو نائم لكن لا يحصل به المشقة من العبادة.
وبعض أهل العلم قال: إنه يحصل له بالنوم اكتفاء، كما يحصل للإنسان إذا جاع أو عطش فنام ارتاح، ولا يجد ألم الجوع والعطش وهو نائم حتى يستيقظ، وهذا فيه بُعد، فالمعنى أبلغ من هذا، فإن ذلك يحصل لكل نائم، وإنما للنبي ﷺ مزية.
ومن أهل العلم كالحافظ ابن القيم -رحمه الله- من قال: إن هذا من باب الاكتفاء بالالتذاذ بالعبادة، فإن الإقبال على الله بالمناجاة والصلاة والتعبد ورجاء ما عنده، والسرور بمعرفته وما أشبه ذلك يحصل للإنسان به من الشبع ومن الاكتفاء بما يحصل بذلك العمل من غذاء الأرواح، فيكفيه عن غذاء الأبدان، هذا الذي قاله ابن القيم وله وجه ظاهر، وهذا يشاهده الإنسان في كثير من الأحوال لدى الناس، قد تجد الإنسان يصوم يوماً ويتعب ويعاني بل يستثقل حتى الذهاب إلى المسجد، ولكن قد تجده في حرم الله في العشر الأواخر يصلي التراويح ويصلي القيام ولا ينام من الليل، ويجلس بعد الفجر يقرأ ولربما إلى الضحى، وينام قليلاً، ثم يستيقظ يصلي الظهر والعصر وبين ذلك قراءة القرآن وفي غاية النشاط والانطلاق، وإذا أفطر فبقليل من الماء وتمرات، وليس عنده مائدة عريضة كما نفعل في بيوتنا، فمن أقبل على الله فإن الله يعوضه بما يجده من لذة.
ولذلك تجد الإنسان مثلاً في ذلك الوقت الذي نفسه مقبلة على الله تجده يذهب ويشتري الصدقات ويوزعها، ونشيط وفي غاية السرور والراحة.
فمن صام وهو يحتسب العبادة تجده وقت الظهر لا يلتفت إلى شيء، ولا يفكر بالطعام، وأيام الفطر إذا جاء وقت الظهر ترتعش يديه من شدة الجوع، وينتظر متى يخرج من عمله حتى يذهب ليأكل، بل لربما وهو صائم يأتي وقت المغرب وهو لا يشعر لا بجوع ولا بعطش، فمن الإمكان أن نقول: إن الله يعوضه، فغذاء الأرواح قد يعوض كثيراً مما يفوت من غذاء الأبدان، ولذلك رأينا بعض أهل العلم في رمضان يقوم بدروس كثيرة، وهو في غاية النشاط، وهو صائم، ولا يكاد ينام إلا قليلاً، ومع ذلك لا يجد تعباً، بل يجد غاية الراحة واللذة والسرور والانشراح.
فالمقصود من الحديث شفقة النبي ﷺ على أمته، حيث منعهم من الوصال رحمة بهم، وهذا من كمال رأفته ﷺ وهو داخل تحت عموم قوله: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 128].
- أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب الوصال ومن قال: ليس في الليل صيام، (3/ 37)، برقم: (1964)، ومسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم، (2/ 774)، برقم: (1102).