الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله ﷺ: اشفعوا تؤجروا هذا يدل على أن الشفاعة مندوبة، وقوله ﷺ: تؤجروا موافق لقوله -تبارك وتعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا [النساء:58]، فهو يؤجر سواء كان الأمر المطلوب قد تحقق تحصيله أو لم يتحقق، فأجره على الله، ويكون قد بذل الأسباب، وأعان أخاه المسلم، وحصل بذلك على الأجر.
اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما أحب، أي: أن ما قدره الله كائن، ويمكن أن يستنبط منه ومن الحديث الذي بعده أن قبول الشفاعة ليس بلازم إذا شفعوا، فليس معنى ذلك أن النبي ﷺ يوافقهم على ما قالوا ويعطيهم ما سألوا وما شفعوا فيه؛ لأنه لم يقل ﷺ: تؤجروا ويحصل ما شفعتم به مثلاً، وإنما قال: ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء، أي: أنه لا يلزم أن يتحقق هذا الأمر الذي طلبتم، ولكن أنتم تقومون بهذا العمل الطيب وتتربوْن عليه وتنفعون إخوانكم وتحصلون على الأجر، وبذلك يحصل التواصل في المجتمع، ويتحقق ذلك الوصف المطلوب فيهم، لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه[3]، وقول الله : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، فهذا من مقتضى الأخوة الإيمانية، أما أن يبقى الإنسان لا يعيش إلا لنفسه فقط، ولا يسعى إلا لمصالحها، ولا يلتفت إلى إخوانه المسلمين فهذا أمر لا يليق بحال من الأحوال، فهذه أنانية مقيتة، والواجب على الإنسان أن يتخلى عن ذلك.
وتكلمنا على مثل هذه المعاني في مناسبات شتى، وأسوأ من ذلك أن يكون الإنسان عنده حاجة أخيه وهو يستطيع أن يمضيها أو يمنعها، ومع ذلك يمتنع -من غير ضرر- حتى لا يخرج من تحت يده شيء، مع أنه لا يخسر ولا يحصل من هذا ضرر، أما إذا كان يحصل من ذلك ضرر فهنا لا إشكال، لأنه مؤتمن على ما تحت يده، لكن أحياناً لا يحصل ضرر إطلاقاً ومع ذلك يمتنع فهذا لا يجوز، وأسوأ من ذلك أن يحبس حاجات الناس ومصالحهم حتى يعطى رشوة، فهذا من أكبر الكبائر، والناس في الشر يتفاوتون، كما أنهم في الخير يتفاوتون.
وبريرة -رضي الله عنها- كانت مملوكة، قيل: لبني المغيرة، وقيل غير ذلك، وزوجها مغيث، وهو أيضاً مملوك، فأعتقت بريرة، وإذا أعتقت المرأة فإنها تخير في البقاء مع زوجها المملوك أو في تركه؛ لأن الكفاءة هنا منتفية، فبطبيعة الحال بريرة مخيرة، فاختارت أن تفارق زوجها، وكان يحبها حبًّا شديداً، كما جاء في بعض الروايات أنه كان يتبعها ويكفكف دموعه يبكي على فراقها، فلما رأى ذلك النبي ﷺ رق له، فقال: لو راجعتِه، وهذا أسلوب فيه تحضيض وعرض، وفيه مقدر محذوف، أي: لو راجعته لكان أجراً، لكان ثواباً، لكان حسناً، ولكنه لا يدل على الإلزام، هي عبارة تحتمل، وتنبئ عن رغبة بحصول هذا الأمر، لكن ليس بأمر واضح صريح مؤكد، فقال لها: لو راجعتِه من باب الإشارة عليها، فقالت: يا رسول الله، أتأمرني بمراجعته، وفي بعض الروايات أنها سألته أآمرٌ أم شافع؟، فقال لها النبي ﷺ: إنما أشفع[2]، إذا كان أمراً فإنه يجب طاعة الرسول ﷺ فيه، كما قال الله : إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51]، وقوله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:7]، وقوله: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ هذا يشمل قبول الأمرين: قبول العطاء من المال، وقبول الأحكام والأوامر والنواهي، كما قال تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النور:64].
وهذا القدر من الحديث من جملة ما يستدل به العلماء على أن الأمر من الشارع واجب، إلا لصارف يصرفه إلى معنى آخر كالاستحباب مثلاً، فهنا قالت: أآمرٌ أم شافع؟، فبين لها النبي ﷺ أنه لا يأمر بل يشفع، وهذا يستنبط منه أن الشفاعة لا يجب الأخذ بها ولو كان الشافع هو النبي ﷺ، بدليل هذا الحديث والحديث الذي قبله، فكلاهما يدل على أن قبول الشفاعة لا يلزم، ولكنه أمر جيد، وحسن، ولكن إذا رأى الإنسان أن مصلحته تقتضي خلاف ذلك، أو أن هناك ما يمنع من ذلك فيمكن أن يتلطف بالاعتذار، فإن قبل الشفاعة فهذا أمر جيد، وهو يدل على مراعاة لهذا الشافع وعلى تقدير له، وتنزيله منزلته اللائقة وما أشبه ذلك، والذي يقدر الناس إذا شفعوا ليس كالذي يردهم ولا يعبأ بهم في أمر يستطيع أن يحققه، ولا يتضرر أحد وليس بمحرم، فالحاصل أنه قال: إنما أشفع، قالت: لا حاجة لي فيه، كانت صارمة وطابت نفسها منه، فهي لا تريده، مع أنه أعتق فيما بعد، فهذا ما يتعلق بالشفاعة، ثم بعد ذلك يأتي باب آخر يتعلق بمصالح المسلمين وقضاء حوائجهم وهو باب: الإصلاح بين الناس، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، باب شفاعة النبي ﷺ في زوج بريرة، (7/ 48)، رقم: (5283).
- أخرجه ابن ماجه، كتاب الطلاق، باب: خيار الأمَة إذا أعتقت، (1/ 671)، رقم: (2075), وصححه الألباني في المشكاة، رقم: (3199).