الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمن أخبار السلف في الشفاعة والسعي في الإصلاح بين الناس ما جاء عن عائشة -ا- أنها باعت داراً لها فسخط ابن أختها وهو عبد الله بن الزبير ، وأمه أسماء أخت عائشة ، وقال كلمة بلغت عائشة -ا- وآلمتها وأزعجتها، فغضبت وحلفت ألا تكلمه حتى تموت، وكان من أعز الناس إليها حتى إنها -ا- كانت تكنى بأم عبد الله، وهو عبد الله بن الزبير -، فكأنه ابن لها، ومعلوم أنه ليس لها أبناء -ا، وكانت تحبه حبًّا كبيراً، فحلفت ألا تكلمه حتى تموت، وطال هجرها له، وتنغص عليه أمره، وضاق عليه الحال، فاستشفع بكل أحد يرى أنه يثقل عليه، فأبت أن تكلمه، فلما طال ذلك كلم المِسْور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث أن يشملاه بأرديتهما ثم يستأذنا، أي: يدخل عليها مختفياً، يغطونه؛ لأنها لن تسمح له بالدخول، ولن تستقبله، ثم يستأذنا فإذا أذنت لهما قالا: كُلّنا؟، أي: تأذنين للجميع؟، وهو معهم وهي لا تشعر لكي يدخلاه عليها، وحتى لا تحتج وتقول: لم آذن له، ففعلا ذلك، فقالت: نعم، كلكم فليدخل، فدخل معهما ابن الزبير، فكلمها المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث من رواء الحجاب، كما قال الله : وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ [الأحزاب:53] أما ابن الزبير فهي خالته ويدخل عليها، فكشف الستر، دخل فاعتنقا، فبكى وبكت عائشة معه كثيرًا، وناشدها ابن الزبير اللهَ والرحم، وناشدها مسور وعبد الرحمن بالله والرحم من وراء الستر، وذكر لها قول النبي ﷺ: لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث[1]، فلما أكثروا عليها كلمته، بعد أن خشي ألا تكلمه، ثم بعثت إلى اليمن بمال فابتيع لها أربعون رقبة فأعتقتها، كل هذا عن يمين واحد، وقد حلف لها ابن الزبير أيضاً وأكد لها أنه سيكفر عنها، فأعتق عنها رقاباً كثيرة، فالمقصود أن هذا قد يقع بين الناس، فيسعى أهل الفضل والخير والصلاح في جمع القلوب ولم الشعث، وإزالة الكدر والوحشة التي تقع في قلوب الناس، ولا يليق بحال من الأحوال أن يكون الناس رواحل للشيطان، هذا يحمل كلمة وهذا يحمل كلمة مما يزيد الشقّة ويوسع الخلاف ويباعد بين القلوب كما هو حال الكثيرين، وهذا يدل أيضا على أن النفوس قد يبقى فيها أشياء، ويكون لها بعض الوقفة، ويحتاج إزالة ذلك إلى شيء من المعالجة، والنفوس تحتاج إلى المجاهدات، فليس لأحد أن يقول: أنا قد كملتْ أخلاقي وإني على الدرجة العالية في كل شيء من الإغضاء والعفو والتجاوز، فقد تبدر من الإنسان الكلمة ويمكن أن يكون غيرها أفضل منها، وقد يبدر من الإنسان أيضاً رد فعل قد يكون غيره أولى منه، فالإنسان دائماً يستدرك تقصيره إن بدر منه شيء تجاه إخوانه، ويستدرك أيضاً إن وقع منه شيء من ردود الأفعال التي كان ينبغي ألا تقع، وهذه عائشة -ا- شفعت في حُجْر بن عدي لما أراد معاوية قتله، ولكن رسولها لم يدرك ذلك إلا بعد قتله، والأحنف بن قيس كلم مصعب بن الزبير في محبوسين، وكان مصعب أميراً على العراقيْن في ولاية أخيه عبد الله بن الزبير ، كلمه الأحنف بن قيس في محبوسين وقال: أصلح الله الأمير، إن كانوا حبسوا في باطل فالعدل يسعهم، وإن كان حبسوا في حق فالعفو يسعهم، وهذا شريح بن هانئ وفد على معاوية شافعاً في كثير بن شهاب فأطلقه له، وورد أيضاً أن الوليد في أيام خلافته قدم المدينة فدخل المسجد فرأى شيخاً قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا، قالوا: سعيد بن المسيب، فلما جلس أرسل إليه، فأتاه الرسول فقال: أجب أمير المؤمنين، فقال: لعلك أخطأت باسمي، أو لعله أرسلك إلى غيري، فرد الرسولَ، فأخبره فغضب الخليفة، وهمّ به، وفي الناس يومئذ تقية فأقبلوا عليه فقالوا: يا أمير المؤمنين، فقيه المدينة، وشيخ قريش، وصديق أبيك، لم يطمع ملك قبلك أن يأتيه، فما زالوا به يكلمونه ويشفعون بين يديه حتى أضرب عنه، كلموه فيه وشفعوا عنده حتى أعرض عنه، وأخبارهم في هذا كثيرة، من ذلك أن محمد بن عجلان خرج على المنصور مع ابن حسن فلما قُتل ابن حسن همّ والي المدينة جعفر بن سليمان أن يجلد ابن عجلان، فقالوا: أصلحك الله، لو رأيت الحسن البصري فعل مثل هذا أكنت تضربه؟ قال: لا، قيل: فابن عجلان من أهل المدينة كالحسن في أهل البصرة، وقيل: إنه هم بقطع يده حتى كلموه وازدحم على بابه الناس، فعفا عنه، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم نافعين للخلق، مباركين حيث كنا، وأن يعيننا وإياكم على أنفسنا، وعلى ذكره وشكره وحسن عبادته، اللهم ارحم موتانا واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الاستئذان، باب السلام للمعرفة وغير المعرفة، (8/ 53)، رقم: (6237)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الهجر فوق ثلاث بلا عذر شرعي (4/ 1984)، رقم: (2560).