- تنبيه
- قوله تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ...}
- قوله تعالى: {والصُّلحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ}
- قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإن النبي ﷺ يقول: إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت[1]، وإن من قلة الحياء أن يُشغَل الناس في صلاتهم هذا الإشغال، بحيث لا يدري الإنسان ما صلى، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
ثم اعلموا أيضاً أن الإنسان لا يجوز أن يتخذ القرآن ولا الأذان آلة تنبهه على الاتصال في الهاتف، فإن هذه الأمور أعظم وأجل من أن تتخذ هذا الاتخاذ، فهذا لا يجوز.
القرآن والأذان لا يجوز للإنسان أن يتخذه هذا الاتخاذ؛ لأنه نوع امتهان، وما يمنع الإنسان إذا دخل المسجد من أن يغلق هذا الجهاز، ويريح ويستريح؟، نحن نعاني من غفلة شديدة، لا يكاد الإنسان يخشع في صلاته، فكيف إذا وجد معها مثل هذا الإشغال؟
أما يدري الإنسان أنه يتحمل وزر هؤلاء الناس جميعاً، يُذهب خشوعهم، ويشوش عليهم في صلاتهم؟، والإنسان تكفيه ذنوبه، والله المستعان.
هذا باب جديد -أيها الأحبة- وهو باب الإصلاح بين الناس.
قال الله تعالى: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء: 114].
باب الإصلاح بين الناس: لما كان من مقاصد هذه الشريعة، ومن النعم التي جاءت بها جمع القلوب واجتماع الكلمة على طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ وعلى الحق والهدى، كما امتن الله -تبارك وتعالى- على الناس بذلك، حيث كانوا متفرقين، متشتتين، متشرذمين، تقوم حرب بينهم على لطم وجه ناقة في سباق لمدة تربو على أربعين سنة، فألف الله بين قلوبهم ببعث محمد ﷺ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]، ويقول: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:63].
فهذا التأليف بين القلوب نعمة عظيمة أنعم الله بها على هذه الأمة بعد التفرق والتشرذم، ولذلك فإنه يجب العمل على تحقيق هذا المعنى في الأمة، والسعي إلى الاستصلاح ولم الشمل، وجمع القلوب المتفرقة، والبعد عن أسباب التطاحن، والتشاحن، والتشرذم، والتمزق بين أفراد المجتمع.
ولهذا فإن من أجلّ الأعمال، وأفضل القربات أن يسعى الإنسان في الإصلاح بين الناس، بين الرجل وامرأته، بين الرجل وأولاده، بين الرجل وجيرانه، بين المسلمين عموماً.
والله يقول: فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ [الأنفال:1]، فلابد من ملاحظة هذه المعاني أيها الأحبة، والعمل على تحقيق هذه المطالب الشرعية، والبعد عن كل ما يخالفها.
والله في هذه الآية يقول: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ [النساء: 114]، النجوى أمر في غالب استعمالاته يأتي للذم، ولهذا قال الله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَة الرَّسُولِ [المجادلة:8]، وهذه الآية أقرب ما حُملت عليه هم اليهود، كما يدل عليه السياق، ولما كان الناس يناجون النبي ﷺ كثيراً حتى أشغلوه، وأرهقوه وأتعبوه، يأتي كل لحظة إنسان عنده مسألة خاصة، عنده قضية خاصة، عنده موضوع خاص، عنده كذا، فأُرهق، ويستحي النبي ﷺ أن يرد هؤلاء، فشرع الله الصدقة بين يدي النجوى، ثم لما ثقل عليهم دفع المال بين يدي النجوى رخص لهم بعد ذلك، أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ [المجادلة:13].
فالمقصود أن النجوى أمر لا يأتي بخير في كثير من الأحيان، ولهذا قال الله : إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ [المجادلة:10].
وغالب من يَستعمل ذلك ويُكثر منه هم أولئك الذين لديهم خلل في أمزجتهم، وخلل في عقولهم، ولربما خلل في نفوسهم، وقلوبهم، فهو إما أن يناجي ليرى مكانه من رسول الله ﷺ، له منزلة، وقد تكون المسألة لا تحتاج إلى نجوى، وقد يتناجى اثنان من أجل الإرجاف بين الناس، فيبدأ الآخرون يحسبون الحسابات، لعل الروم قد جاءوا، لعلها جيوش قد جُيشت، لماذا هؤلاء يتناجون، إذا مر الرجل بحي من أحياء اليهود أخذوا يتناجون، فيبقى هذا المسلم متحيراً متسائلاً في أي شيء هذه النجوى؟، ولذلك نهى النبي ﷺ أن يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه، لأن ذلك يحزنه[1].
فالإسلام راعى مشاعر المسلم، لا يَحزن، ولا يشعر أنه مُصغَى الإناء؛ لأن الإنسان إذا تناجى الآخرون بحضرته وهو لا يشترك معهم في الحديث فهو إما أن يتخوف من هذا الحديث عله يتعلق به، أو أنه يحزن من جهة أخرى وهو أن هؤلاء لم يروه كفئاً ليدخل معهم في هذا الحديث، فهو مهمش في المجلس، وكأنه غير موجود، فيقع في نفسه شيء من الانقباض.
فالإسلام راعى هذه المشاعر لدى المسلمين، فالمقصود أنه يُستثنى من ذلك، لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء: 114].
يأتي الإنسان ويتكلم بينه وبينه من أجل إصلاح خلل، ورتق فتق، وجمع قلوب قد تفرقت، ولم شعث قد تناثر، هذا لا إشكال فيه، وهو مطلوب ومحبوب لله .
ويقول الله ، والصُّلحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [النساء: 128].
فالنفوس مجبولة على التمسك بحظوظها، والوقوف عندها، ولكن الصلح خير، وحقيقة هذا الصلح -أيها الأحبة- أن يضع الإنسان شيئاً مما له من حق، والآخر يضع شيئاً من حقه، فتجتمع القلوب بهذه الطريقة، أما إذا كان الإنسان يقف عند حقه قليله وكثيره لا يترك منه شيئاً فإن الإصلاح يكون متعذراً في غاية الصعوبة.
قال الله تعالى: فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ [الأنفال:1].
وقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات: 10].
هذا في الفئتين المتقاتلتين من المسلمين، فكيف بما دون ذلك أيها الأحبة؟ ولذلك يقال: إن هذا من الأمور المشروعة المحبوبة لله ، فيحرص الإنسان عليها، إن استطاع أن لا يقع الشر ابتداء بدفع أسبابه فهذا هو المطلوب، وهذا هو الكمال، فإن وقع المكروه، فإن الناس يسعون في الإصلاح ولم الشمل، وأمّا فعل الشياطين فهم أولئك الذين يسعون في مزيد من التفرق، والتطاحن، والتشاحن، وكثير من النفوس تطمح في مثل هذه المقامات، وتتقحم هذه المهالك والمسالك الرديئة، فيتبرعون من عند أنفسهم، يذهبون إلى هذا ويسمعون منه، ويذهبون إلى من حوله ويسمعون منه، ثم يأتون مباشرة إلى ذاك، وينقلون له ما سمعوا، ثم هؤلاء يتبرعون أيضاً بكلام آخر، وتزداد الشقة والفرقة والوحشة، ولا يمكن لأهل الفضل أن يصلحوا بين هؤلاء المتخاصمين، تأتي هذه المرأة التي اختصمت مع زوجها، هذه يُنقل لها كلام، وهو يُنقل له كلام، وهذه يقف أهلها معها وهي على الحق على طول الطريق، وهو يقف أهله معه وهو على الحق طول الطريق.
ومن ثمّ فلا يمكن الإصلاح، وتكثر حالات الطلاق في المجتمع، ويحصل التشاحن والتطاحن، لكن لو أن هذه الأمور حُلت بعيداً عن هذه الأعمال التي توحش الصدور، وتوغرها لاسترحنا من كثير من الهموم والمشكلات، والطلاق، والتفرق.
وتحدثنا في بعض المناسبات عن قضية تشبه هذا مما يتعلق بالطلاق، وأنه لو أن الناس عملوا فيه بأمر الله حسب ما شرّع لهم لذهب عنهم ما لا يقل عن ثلاثة أرباع حالات الطلاق الموجودة الآن في المجتمع، لا يكاد يبقى منه شيء، ويتلاشى ويضمحل بإذن الله ، لكن المشكلة هي ما ذكرت، هذه المرأة لها صديقات، لها أقارب يؤزُّونها ويحركونها، والرجل كذلك، ولا يزال كل واحد يبتعد عن الآخر حتى يقع الطلاق.
وهكذا فيما يقع من خصومات بين الناس، حتى لو لم يطلب من الإنسان هذا يصلح، وحتى في نفس المجلس قد يقول الإنسان كلمة يستوحش منها السامع فمباشرة يزال أثرها وتعالج من قبل أهل الفضل والخير، يقال: هو لا يقصد، هو يلقي الكلام على عواهنه، لا تؤاخذه على هذه الكلمة التي قالها، لعل له عذرًا فيما فعل، لعل له عذرًا فيما تصرف فيه مما يوحش الصدر ولربما يستنكف منه الإنسان أو يتأذى به.
فمثل هذه الأشياء تستدرك في حينها، بحيث لا يبقى هناك أثر، وإذا استطاع الإنسان أن يكاشف صاحبه مباشرة، ويقول له: أنت فعلت كذا وكذا، ماذا تقصد به؟ كما قال الشافعي -رحمه الله- فيما نقل عنه يونس الصدفي -رحمه الله- حينما قال: ما رأيت أعقل من الشافعي.
الشافعي كان يقول: إذا كان لك صديق فتمسك به، فإن تحصيل الصديق أمر صعب، فإذا بلغك عنه ما تكره، يقول: إن لقيت له عذراً فاعتذر له، فإن لم تلقَ له عذراً فاسأله، قل له: صدر عنك كذا وكذا، بلغني عنك كذا وكذا، ماذا تريد؟ يقول: فإن نفاه، فقل: أنت أوثق عندي، وفي نفسي، ما تقول له: لا، أنا عندي شهود، أنا عندي كذا، وتحرج هذا الإنسان.
قال: أعوذ بالله، أنا ما أقول هذا، قل له: أنت أوثق، الحمد لله، هذا هو الظن بك، وانتهت المشكلة، فإن ذكر عذراً يقبل فاقبله منه، فإن لم ترَ له عذراً وأردت أن تكافئه ولا تعفو عنه فإنك عندئذ ماذا تصنع؟، فإنك تكافئه بالمثل بعد أن تنظر في إحسانه السابق، بعد أن تنظر في الإحسان، لكن الكثير من الناس مباشرة يبلغه شيء حتى لو لم يتحقق منه، مباشرة ينفر، ويحمل في قلبه على هذا الإنسان، ويُشيح عنه، ثم تحصل القطيعة والتدابر.
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.