الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب حق الزوج على المرأة أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي علي طلق بن علي .
وطلق بن علي هو من بني حنيفة، وفد على النبي ﷺ وآمن به، ولم يكن مكثراً من الرواية عن رسول الله ﷺ، روى أربعة عشر حديثاً.
عن أبي على طلق بن على يقول: إن رسول الله ﷺ قال: إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته وإن كانت على التنور[1]، رواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
قال: إذا دعا الرجل زوجته، هنا قال: زوجته، وهي لغة عربية فصحى لكنها قليلة، والأفصح والمشهور وهو الذي عليه لغة أهل الحجاز أن يقال: زوجه، دعا الرجل زوجه، وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء:90]، ويصح أن يقال: زوجة، ولا يقال: إن هذا لحن؛ لأن هذا ثابت عن النبي ﷺ كما في هذا الحديث، وكما في أحاديث أخرى أيضاً، وبعض تلك الأحاديث في الصحيح، ومما يدل عليه من كلام العرب أيضاً قول الفرزدق:
وإنّ الذي يسعى ليُفسد زوجتي | كساعٍ إلى أُسْد الشَّرى يَسْتبيلها |
قال: زوجتي، ما قال: زوجي، فهذه لغة قليلة، على كل حال قواعد اللغة العربية تؤخذ من الأحاديث، وتؤخذ من القرآن، وهو أولى من أخذها من كلام بعض الشعراء الذي لا يعرف قائله في كثير من الأحيان.
يقول: إذا دعا الرجل زوجته لحاجته أضاف الحاجة إليه هنا ليدل على الاختصاص -والله أعلم، يعني: الحاجة الخاصة، وهي المعاشرة، ما قال: إذا دعا الرجل زوجته فلتأته وإن كانت على التنور، وإنْ كان يجب عليها أن تطيعه فيما يأمرها به، لكن هنا دعاها لحاجته، فلتأته وإن كانت على التنور، والتنور معروف هو الذي يخبز به، فهي مشغولة، وهذه الحال التي ذكرها النبي ﷺ تحتاج معها المرأة إلى المكث والبقاء عند عملها وشغلها، وذلك أنها إن تركت هذا الخبز في التنور فإن ذلك يحرقه ويفسده، وإن قامت وهو عجين فلربما فسد هذا العجين، أو جاءت الداجن أو نحو ذلك فأكلته، فمن كان على التنور فهو بحاجة إلى أن يبقى حتى ينجز حاجته، ومع ذلك النبي ﷺ قال: فلتأته وإن كانت على التنور، فغير ذلك من الأحوال كانت جالسة، كانت نائمة من باب أولى.
وجاء في حديث آخر أيضاً عن معاذ وزيد وجماعة من الصحابة أن النبي ﷺ قال: "فلتأته وإن كانت على قَتَب"[2].
والمقصود بالقَتَب ما يوضع على ظهر البعير، فمن أهل العلم من قال: ولو كانت في حالة حرجة، يعني: معنى الحديث فسروه أنها على قتب، قالوا: إن المرأة كانت تجلس على القتب عند الولادة، تقول العرب: إن ذلك يسهل الولادة عليها، بمعنى حتى لو كانت في هذه الحالة، والمرأة عند الولادة في غاية الذهول، "فلتأته وإن كانت على قَتَب"، لكن هذا خلاف التفسير المشهور، والأقرب -والله أعلم- المتبادر "وإن كانت على قَتَب"، يعني: ولو كانت على بعير، هي مرتحلة راكبة فدعاها فتجيبه، هذا هو الواجب عليها، ومثل هذه القضايا كما ترون هنا في هذا الحديث وفي الحديث السابق لا تصوم...[3]، وكذلك أيضاً ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها[4]، وكذلك: بات غضبان عليها لعنتها الملائكة[5].
كل هذا من أجل تأكيد حق الرجل على المرأة لتنصاع له، لتطيعه؛ لأن المرأة قد تتمرد على الرجل فتكون ناشزاً عن طاعته، فيكون بذلك خراب وفساد البيوت، إذا نشزت المرأة عن الطاعة، فأكد الشارع هذه القضية، ولذلك الأمور التي لربما يحصل الإخلال بها عند الناس والتفريط والتضييع تجد الشارع يؤكد عليها، حتى جاء في حديث آخر صحيح أن النبي ﷺ قال: لو كان في جلده -أو جسده- قرحة فمصتها، أو قال: لحستها ما أدت حقه[6]، أو كما قال ﷺ.
كل هذا لتأكيد هذا المعنى، فالأمور التي لربما يتلكأ فيها الإنسان يؤكد عليها الشارع هذه المؤكدات، ولذلك تجد الأمر بالصلاة في مواضع كثيرة جدًّا، أكثر ما يأمر الله به في القرآن بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ومع ذلك كم عدد الذين لا يصلون؟ كثير.
فهذه قضية لربما يفرط فيها كثير من الناس، فيؤكد الشارع عليها، ويرغب فيها، ويتوعد مَن تركها، ونحو ذلك، لكن الأمور التي تدعو إليها أصلا شهوات النفس ما يؤكدها، ولا يأمر بها ولا يطالب بها، مثلاً ما يقول: أيها الرجال عاشروا نساءكم وجامعوا نساءكم، وكذا، ويرغبهم في هذا، ويهددهم ويتوعدهم فيه، مع أن الرجل يجب عليه أن يعاشر بالمعروف، لكن لماذا لم يرد هذا في القرآن وفي السنة وفي كذا؟ لأنه ما يحتاج من يوصيهم، هذه قضية أصلاً تدعو إليها الغرائز، مغروزة في النفوس، يحتاجون إلى كبح، من أجل أن لا يصرف ذلك في الحرام، فكذلك الأكل والشرب ما يقول لهم: كلوا يا جماعة، يجب عليكم أن تأكلوا، يمدح الآكلين، ويذم الذين لا يأكلون، أبداً.
يعني مثلاً قول الله : وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]، "اشربوا" هنا لبيان الحكم أنه يجوز لك أن تأكل في ليلة الصيام إلى الفجر، وإلا فالناس ما يحتاجون إلى من يحثهم على الأكل، وكذلك في المعاشرة، فُسر قوله -تبارك وتعالى: وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ قيل: الولد بالجماع، فهنا ما قال: جامعوهن، لا، وإنما قال: وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ، إن كان حمل على هذا المعنى مع أنه قيل فيه غير هذا.
فالمقصود أن مثل هذه الأشياء تأتي إما على سبيل الامتنان، أو التعليم والإرشاد وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ [الأعراف:31]، أو نحو هذا، لكن الناس ما هم بحاجة إلى من يقول لهم: إذا ما أكلتم سيصيبكم عذاب أليم، ولابد تأكلون، ويجب عليكم أن تأكلوا، واتقوا الله في الأكل، كلوا، فمثل هذه القضايا ما يؤكد الشارع عليها، وإنما الأشياء التي قد تتفلت النفوس عنها هي التي يأمر بها ويحث عليها.
هذا قاله النبي ﷺ في مناسبة كما عند أبي داود من حديث قيس بن سعد بن عبادة، أنه قدم على النبي ﷺ من الحيرة، ذهب إلى الحيرة ورجع، فوجد الناس هناك يسجدون للمرزبان، رجل من كبارهم من عظمائهم، فقال: النبيُّ ﷺ أولى بهذا، فجاء فأخبر النبي ﷺ بذلك، فقال النبي ﷺ ما قال[2].
وفي بعض روايات الحديث، وفي بعض ألفاظه أنه جاء عن معاذ أنه ذهب إلى الشام أو اليمن، فوجد النصارى يسجدون لقساوستهم، وأساقفتهم، فتفكر في أن النبي ﷺ أولى بهذا فأخبر النبيَّ ﷺ عن ذلك، وفي بعض الروايات أنه جاء وسجد، فسأل النبيُّ ﷺ عن هذا، فذكر له العلة، قال: رأيتهم يسجدون لأساقفتهم وأنت أولى بهذا، فقال النبي ﷺ: لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها[3].
السجود لله رب العالمين فقط، لا يجوز أن يسجد لأحد، لا لحي ولا ميت، فهو عبادة مختصة بالله -تبارك وتعالى؛ لأن السجود هو غاية الخضوع، ما في أكثر من أن الإنسان يضع وجهه الذي هو أشرف شيء، وجبينه على الأرض، وفي نفس الوقت يقول: سبحان ربي الأعلى، منتهى التذلل، أشرف شيء يضعه في الأرض موضع الأقدام، ويقول: سبحان ربي الأعلى.
فالنبي ﷺ يقول: لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، فهذه قضية على كل حال تدل على عظم حق الزوج، لكن في الوقت نفسه كما قلنا: لا يجوز للزوج أن يتخذ ذلك سوطاً يضرب به المرأة، ويضيّع حقوقها، ويتسلط عليها، وإذا حصل منها تقصير ذكر لها هذه الأحاديث، لا، ينبغي أن يعرف أنها إنسان، وأن لها حقوقاً أيضاً، هل أدى هو حقوقها أو لا؟ وكذلك يراعي ما يمر عليها من مرض وتعب، وتغير المزاج، فهي مثلك تماماً تغضب، تفتر، تضعف، تتعب، تمرض، كل هذه الأشياء تحصل لها كما يحصل للرجل، بل أكثر مما يحصل للرجل؛ لأنها ضعيفة، فكما أن الإنسان يطالب بحقوقه، ويتذكر حقوقه جيداً، وقائمة طويلة، إذا رأى منها تقصيراً ينبغي أن ينظر إلى تقصيره هو فإن ذلك يطامنه، فلا يظلم هذه المرأة، والكريم -أيها الأحبة- هو الذي لا يظلم المرأة ولا يسيء إليها، يعاشرها بالمعروف، فإن كره منها خلقاً رضي آخر، كما مر في الحديث السابق: لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي آخر[4]، فهذه كلها علّمَناها الشارع من أجل أن نكون على درجة رفيعة في التعامل والأخلاق، وكريم الخصال.
فأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه الترمذي، أبواب الرضاع عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في حق الزوج على المرأة (3/ 457)، رقم: (1159).
- جاء عن أبي داود عن قيس بن سعد، قال: أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم فقلت: رسول الله أحق أن يسجد له، قال: فأتيت النبي ﷺ، فقلت: إني أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم فأنت يا رسول الله أحق أن نسجد لك، قال: أرأيتَ لو مررت بقبري أكنت تسجد له؟، قال: قلت: لا، قال: فلا تفعلوا، لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن لِمَا جعل الله لهم عليهن من الحق، أخرجه أبو داود، كتاب النكاح، باب في حق الزوج على المرأة (2/244)، رقم: (2140).
- أخرجه ابن ماجه، كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة (1/ 595)، رقم: (1853).
- أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب الوصية بالنساء (2/ 1091)، رقم: (1469).