الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب فضل بر أصدقاء الأب والأم والأقارب والزوجة أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي ، -ويقال: إنه آخر من مات من البدريين -رضي الله عن جميع أصحاب نبيه ﷺ.
البر في الحياة معلوم، وذلك بالإحسان إلى الوالدين بالمال وبالمعاشرة، وبالزيارة، وما أشبه ذلك من الأمور التي يحصل بها البر، ولكن هل يكون البر أيضاً متصلاً بعد الفوات، بعد الموت؟
فالنبيﷺ بيّن وجوهاً من البر تكون بعد الموت، قال: الصلاة عليهما، والمقصود بالصلاة عليهما يعني الدعاء، فإن الصلاة أصل معناها في كلام العرب: الدعاء، وقد جاء ذلك في القرآن بقوله -تبارك وتعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة: 103]، أي: ادع لهم، فكان الرجل يأتي للنبي ﷺ بصدقته، يعني: بزكاته فيدعو له، كما قال النبي ﷺ: اللهم صلّ على آل أبي أوفى[2]، حينما جاء بصدقته.
والمرأة التي قالت للنبي ﷺ: صلّ عليّ وعلى زوجي[3]، يعني: ادع لي ولزوجي.
والله -تبارك وتعالى- ذكر الصلاة أيضاً بمعنى الصلاة المعروفة، أَقِمِ الصَّلاَةَ [الإسراء: 87]، وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ [البقرة: 43].
والمقصود هنا: الصلاة عليهما يعني: الدعاء لهما، فالصلاة إذا عُديت بـ"على" فإنها تكون بمعنى الدعاء، ومنه صلاة الجنازة، فهي صلاة يقصد بها الدعاء، أما الصلاة لهما فأن يصلي الإنسان ويجعل ثواب هذه الصلاة لأبيه أو لأمه أو لأحد من قرابته، والعلماء مختلفون في العبادات البدنية، أما العبادات المالية فإنه يصل أجرها، كما قال سعد بن عبادة : "إن نفس أمي افتُلِتتْ وما تكلمتْ، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم[4].
فالصدقة عن الميت تنفعه، والدعاء كذلك، وأما العبادات البدنية فالعلماء مختلفون في هذا كثيراً، فمن أهل العلم من يقول: لا يصل شيء من العبادات البدنية المحضة، كقراءة القرآن والصلاة، ونحو هذا، وعلى كل حال المشروع أن الإنسان يستغفر لأبويه ويدعو لهما، فإن تصدق عنهما فهو حسن.
فالشاهد هنا قال: الصلاة عليهما، فهذا من البر، أن لا ينسى أبويه، فيدعو لهما، والاستغفار لهما، الفرق بين الصلاة والاستغفار: الصلاة: هي الدعاء، كأن تقول: اللهم ارفع منازله في الجنة، اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة، اللهم تجاوز عنه، اللهم... وما أشبه ذلك.
والاستغفار: هو نوع من الدعاء خاص، وهو بمعنى طلب المغفرة، قال: وإنفاذ عهدهما من بعدهما، إنفاذ العهد: أيّ عهد كان لأبويه فإنه يحقق ذلك وينفذه وينجزه لمن كان له هذا العهد، إنفاذ عهدهما من بعدهما، لو أن الوالد قال لأحد الناس ووعده بعدة فإن مقتضى البر أن ينفّذ هذا الولد لهذا الإنسان العدة التي وعد بها الوالد، لو قال هذا الإنسان لرجل فقير: سأبني لك داراً، أو أعطيك سيارة، أو سأوظفك عندي في المؤسسة أو نحو ذلك، فهذا من البر أن ينفذه، لكنه لا يلزم؛ لأن المال لم يعد للوالد وإنما صار للورثة.
يقول: وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، معنى هذا الكلام صلة الرحم التي لا توصل إلا بهما: أن الوالدين هما السبب في وجود هذه الرحم، وهذا الباب من الطاعة والقربة، لو أن الإنسان وُجد من غير والدين، وجد هكذا، هل يكون له عم، ما له أب ولا له أم، الآن تصور اللقطة مثلاً، اللقطة أين عمه؟ أين خاله؟ أين ابن عمه؟ أين خالته؟ أين أجداده؟ أين إخوانه؟ لا شيء، هو فقط لوحده يعيش، وأبلغ من هذا تصور لو أن إنساناً خلق هكذا من تراب، ما وُجد أحد يمت له في هذه الدنيا بصلة، فمثل هذا لا توجد له وشيجة، لكنّ الأبوين هما السبب في وجود الإنسان بعد الله ، فصار الإنسان له في عمود النسب الأعلى أجداد وجدات، وله في عمود النسب الأدنى من الأبوين إخوة وأخوات، وهكذا أيضاً الأعمام والعمات والأخوال والخالات، كل ذلك بسببهما.
وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، فهذا من برهما، أن يكون الإنسان واصلاً لرحمه، فالأم يكون برها بصلة أخواتها، وقراباتها، وأهلها، والوالد كذلك أيضاً، وإكرام صديقهما، وهذا أبلغ في الصلة؛ لأن الإنسان قد يبر قرابته ويتحمل هذا، لكن البر للأصدقاء فيه كلفة أكثر، وغالباً ما يكون هؤلاء الأصدقاء -بل دائماً في مجاري العادات- من أسنان الأبوين، والولد في شبابه وفتوته، حديثهم يختلف عن حديثه، واهتماماتهم تختلف عن اهتماماته، وما أشبه ذلك، فإذا قام بصلة هؤلاء والتعاهد لهم بالزيارة، وما أشبه هذا فلا شك أن هذا ينبئ عن أصالة هذا الولد، وعن حسن تربيته، وعن عظيم بره.
والله المستعان، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في بر الوالدين، (4/ 336)، رقم: (5142)، وضعفه الألباني في المشكاة، رقم: (4936).
- أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة، (2/ 129)، رقم: (1497).
- أخرجه أحمد (22/ 148)، رقم: (14245)، وابن حبان (3/ 197)، رقم: (916)، والنسائي في السنن الكبرى (9/ 162)، رقم: (10184).
- أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، باب ما يستحب لمن يتوفي فجأة أن يتصدقوا عنه، وقضاء النذور عن الميت (4/ 8)، رقم: (2760)، ومسلم، كتاب الكسوف، باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه (2/ 696)، رقم: (1004).