الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب فضل بر أصدقاء الأب والأم والأقارب والزوجة أورد المصنف -رحمه الله-:
حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: ما غرت على أحد من نساء النبي ﷺ ما غرت على خديجة رضي الله عنها، وما رأيتها قط، ولكن كان يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة، ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأن لم يكن في الدنيا إلا خديجة! فيقول: إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد[1].
وفي رواية: وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يَسعهنّ، وفي رواية: كان إذا ذبح الشاة يقول: أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة[2].
وفي رواية قالت: استأذنتْ هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله ﷺ فعرف استئذان خديجة، فارتاح لذلك فقال: اللهم هالة بنت خويلد[3].
يعني: -يعني: تذكر خديجة لمشابهة في الصوت، فتحرك قلبه ﷺ لذلك، وتوقعها ووقع ذلك في نفسه.
وهذا الحديث يدل على أن مما يدعو إليه الإسلام، ويحث أتباعه عليه أن يبر الإنسان أصحاب وأصدقاء وقرابة من يحبه، أو من له حق عليه، ذكرنا بعض الأحاديث التي تتعلق بالوالدين، وبقرابة الوالدين، أو بأصحاب الوالدين، وأن هذا من أبر البر، وهذا الحديث هنا ليس في الوالدين، إنما هو في صديقات الزوجة، وإذا كان هذا يُفعل مع صديقات الزوجة فإن ما يطلب مع قرابتها كأبيها وأمها وإخوانها وأخواتها لا شك أنه أهم وأولى من جهة البر والإحسان والصلة.
كثير من الناس يقولون: أقرباء الزوجة هؤلاء أصهار ليسوا بأرحام، والإسلام أمر بصلة الرحم، فيقال: مثل هذا الحديث يدل على هذا المعنى، فالإسلام لا يأمر بصلة الرحم فقط، بل بالإحسان إلى الخلق جميعاً، وكلما كان هؤلاء أقرب إليك كلما كان البر آكد في حقهم، ومن أراد أن يحسن إلى إنسان وأن يكرمه فإن من مقتضى هذا الإكرام وكماله أن يكرم من يحبه هذا الإنسان، إذا كنت تقابل إنساناً تحبه، وكلما قابلته قابلته بذم أصحابه ومن يحبهم، أو قرابته، أو أصهاره، أو ما أشبه ذلك فإن ذلك يؤذيه.
ولكن على كل حال أيضاً هذا الحديث يدل على معنى وهو مطلوب شرعاً، وهو حسن العهد، فخديجة -رضي الله تعالى عنها- زوجة وتوفيت، وتزوج النبي ﷺ بعدها بنساء كثير، إلا أنه لا يزال يحفظ لها الود والذكرى الطيبة، ويذكرها بخير، والنبي ﷺ قد صح عنه: أن حسن العهد من الإيمان[4]، حسن العهد، وكثير من الناس يغفل عن هذا، إذا مات قريبه أو صاحبه أو نحو ذلك نسيه، قد يتأثر في أيامه الأولى ثم بعد ذلك ينتهي حتى إنه لا يتذكر هذا الإنسان في الدعاء، فضلاً عن أن يذكره بلسانه، يعني: يذكره بالخير وما أشبه هذا، وهكذا أيضاً كثير من الناس إذا سافر أو انتقل نسي أصحابه الذين كان يعاشرهم ويمالحهم، وبينه وبينهم وشائج وعلائق وصداقة، ثم بعد ذلك يذهب ذلك أجمع، ويتخذ أصحاباً آخرين، وكأن أولئك لم يمروا عليه، ولم يعرفهم، وهذا خطأ، فإن هذا من الصفات المذمومة في الناس.
وقد جاء في كلام العرب، وفي كلام الحكماء، وفي شعر الشعراء ما فيه ذم لمن كان بهذه المثابة، أنه إذا أدار ظهره لعارض، لسبب، لسفر، لمقتضى فإنه ينسى أولئك الذين عاش معهم، وارتبط معهم، إما أنه كان يعمل معهم، أو كان جاراً لهم، أو نحو هذا، فهذا الإسلام يأمر بحسن الرعاية والعشرة وحسن العهد، وبقاء الأواصر حتى بعد الموت، فكلما استطاع الواحد منا أن يكمل نفسه من هذه الجوانب فليفعل، فهذه أمور طيبة ومحامد ومكارم تكتسب، ولو أن الإنسان راعى ذلك، وجعل هذه القضايا نصب عينيه، بحيث إنه يتدرج معها حتى يبلغ ألوان الكمالات فيها فإنه سيكون بإذن الله وفيًّا محسناً، حَسَن العهد، عظيم البر والصلة والإحسان، وتبقى علاقاته ووشائجه طيبة، وأصحابه ومحبوه كثير، أما الجفاء والترك والإعراض فإن هذا أمر لا يجمل ولا يحسن، من الناس من يتزوج ثم إن هذه الزوجة هي التي ارتبطت به فحسب، ولا يلقي بالاً ولا يرفع رأساً لأهلها ولا لقرابتها، بل قد يسيء إليهم، ومن أراد من الرجال أن يملك قلب امرأته فليحسن إلى أهلها ويذكرهم بخير، والمرأة التي تريد أن تملك قلب زوجها عليها أن تحسن إلى أهله، وأن تكون جيدة الصلة بهم، ولا تذكرهم عنده إلا بخير، لا تتكلم في غيبتهم بسوء، أو تؤلب هذا الزوج على أهله، أو تنقل له كلاماً يؤذي ويجرح، أختك قالت: كذا، أمك قالت: كذا، فلانة قالت: كذا، أهلك يفعلون كذا، فهذه امرأة ليست جيدة، وقلب الزوج عادة ينفر منها؛ لأن الإنسان الكريم الأصيل لا يحب أن يُذم أهله، وأن يُتعرض لهم، لكن ليس معنى ذلك أن تُظلم الزوجة بطبيعة الحال.
هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
- أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب تزويج النبي ﷺ خديجة وفضلها -رضي الله عنها، (5/ 39)، رقم: (3818).
- أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل خديجة أم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها- (4/ 1888)، رقم: (2435).
- أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل خديجة أم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها- (4/ 1889)، رقم: (2437).
- أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب الإيمان، (1/ 62)، رقم: (40)، والطبراني في الكبير، (23/ 14)، رقم: (23)، وصححه الألباني في السلسلة، رقم: (216).