الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب فضل الحب في الله والحث عليه وإعلام الرجل من يحبه أنه يحبه وماذا يقول له إذا أعلمه، من الأشياء الواردة عن السلف في هذا المعنى، وأخبارهم في هذا كثيرة جدًّا، من ذلك ما جاء عن علي بن الحسين -رحمه الله- قال: فقدُ الأحبة غربة[1].
ويقول معمر: احتبس طاوس بن كيسان على رفيق له حتى فاته الحج وهو في انتظاره[2].
وعن ابن الفضيل قال: أتيت أبا إسحاق السبيعي بعدما كف بصره، قال: قلتُ: تعرفني؟، قال: فضيل؟، قلت: نعم، قال: إني والله أحبك، لولا الحياء منك لقبلتك، فضمني إلى صدره، ثم قال: حدثني الأحوص عن عبد الله: لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 63]، قال: نزلت في المتحابين[3].
وجاء عن أبي حازم المدني قال: إذا أحببتَ أخاً في الله فأقِلّ مخالطته في دنياه[4]. يعني: أن مخالطته في دنياه بمعنى في التعامل معه في شركة، أو في شيء من الأمور الدنيوية فإن ذلك قد يفسد ما بينكما من الود؛ لأن النفوس جبلت على الشح، وكثير من الناس لا يتحرز في تعاملاته، وإنما تعرف الرجل تمام المعرفة إذا عاملته بالدرهم والدينار، كثير من الناس العلاقة فيه جيدة ولكن إذا عاملته بالدرهم والدينار، أعطيته مالاً ليتجر به أو نحو ذلك عرفته عند ذلك، ولذلك تجد الكثيرين لربما كانوا في غاية المؤاخاة والمحبة، ثم بعد ذلك لفرط الثقة يعطيه ماله من أجل أن يعمل معه، ولا يكتب بينه شيئاً أو عقداً في شراكتهم وما يتصل بكل واحد من حقوق وواجبات ونحو ذلك، بناءً على أنهم لن يختلفوا، وأن العلاقة بينهم والمودة أكبر من ذلك، ثم بعد ذلك ما يلبث هؤلاء حتى يتفرقوا وتتحول محبتهم إلى شيء آخر، إلا من رحم الله .
وجاء عن أحمد بن سنان القطان قال: سمعت مهدي بن حسان يقول: كان عبد الرحمن بن مهدي يكون عند سفيان عشرة أيام، وخمسة عشر يوماً بالليل والنهار، يقول: فإذا جاءنا ساعة، جاءنا رسول سفيان في أثره يطلبه، فيدعنا ويذهب إليه[5].
أي: أنه يجلس هذه المدة الطويلة ليلاً ونهاراً فلا يمله، فإذا خرج منه ساعة بعث في طلبه؛ لأنه قد اشتاق إليه، ولا يصبر على مفارقته.
وجاء أيضاً عن أبي الحسن بن قريش قال: حضرت إبراهيم الحربي، وجاءه يوسف القاضي ومعه ابن عمر، فقال له: يا أبا إسحاق، لو جئناك على مقدار واجب حقك لكانت أوقاتنا كلنا عندك، فقال: ليس كل غيبة جفوة، ولا كل لقاء مودة، وإنما هو تقارب القلوب[6].
يقول: لو كانت الزيارة على قدر المحبة، كما قال أبو عبيد القاسم بن سلام للإمام أحمد، يقول: لو كانت الزيارة على قدر المحبة لما خرجنا من عندك، أو لما فارقناك، أو قال له: من إخواننا من لا نلقاه إلا في العام مرة، وهو أوثق عندنا ممن نلقاه صباح مساء. وهذا صحيح، فليست المودة على قدر الزيارة.
هذه بعض الآثار المنقولة عنهم في هذا المعنى.
وأسأل الله أن يعيننا على أنفسنا، وأن يرزقنا حبه وحب من يحبه وحب كل عمل يقربنا إلى حبه، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (3/ 134).
- المصدر السابق (4/ 10).
- مسند ابن الجعد (ص: 74).
- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (3/ 244).
- سير أعلام النبلاء (9/ 201).
- المصدر السابق (13/ 358).