الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب جديد في هذا الكتاب المبارك، وهو باب إجراء أحكام الناس على الظاهر وسرائرهم إلى الله تعالى، قال الله تعالى: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ [التوبة:5].
إجراء أحكام الناس على الظاهر بمعنى: أن من أظهر خيرًا قُبل منه، بصرف النظر عن مقصوده وعما يكنّه في صدره، فإن النبي ﷺ مع أنه يوحى إليه -مؤيد بالوحي- لم يؤمر بأن يشق عن قلوب الناس كما سيأتي، ولا عن أن يبحث في ضمائرهم ومكنونات صدورهم، فمن أظهر خيراً فإنه يعامل بمقتضى ذلك، من أظهر الإسلام أجريت عليه أحكام الإسلام، ومن أظهر الكفر أجريت عليه أحكامه، كل ذلك بشرطه، ولذلك يقال: ينبغي على المسلم دائماً أن يتأدب بهذا الأدب في نظره إلى الآخرين وفي حكمه عليهم، أن لا يشتغل بما وراء الظاهر، نعم، المؤمن كيّس فطن، ولا ينبغي أن يخدع، ولكن أيضاً لا يسيء الظن بإخوانه المسلمين، ولا يحمل ما ظهر منهم من التصرفات الطيبة والأعمال الحسنة على المحامل السيئة، ومسألة الحكم بحسب ما ظهر قضية تدل عليها أدلة كثيرة سيورد المصنف -رحمه الله- جملة منها، ولكن يمكن أن أدلل عليها بغير ما يذكر؛ لئلا يتكرر ما أذكره مع ما أورده المصنف -رحمه الله، الله -تبارك وتعالى- يقول: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، ثم قال: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ، ما عليك هو أن تدعو وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بأحسن أسلوب، والله هو العالم بأحوال العباد، المطلع على خبايا النفوس، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.
فليس عليك أن تنقِّر عما في نفوس الناس، وأن تمتحنهم، وأن تقول: فلان يظهر الخير والمعروف والصلاح، وهو يكنّ غير ذلك، ليس هذا إليك، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ.
والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كنوح ومن بعده حينما قال قومهم من الكفار: إن أولائك الذين آمنوا بهم واتبعوهم إنما اتبعوهم لشيء يأخذونه منهم، وطعام يطعمونه، فالله أمر هؤلاء الأنبياء أن يردوا عليهم: قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ [الشعراء:112-113]، لستُ مسئولاً عنهم، كون هؤلاء آمنوا من أجل أن يحصِّلوا لقمة أو طعاماً أو مالاً يتمولونه، أو نحو ذلك، هذا ليس إليك، فصدقهم عائد إليهم وكذبهم أيضاً عائد إليهم، فلستَ مسئولاً عنهم، وهكذا وقع لغير نوح ﷺ، ووقع ذلك للنبي ﷺ أيضاً، وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ [هود:29]، فالشاهد أن النبي ﷺ علمه ربه هذا الأدب والتعليم، وكان ذلك ظاهراً في هديه ﷺ وتعليمه لأصحابه الحمل على الظاهر، فمن أظهر خيراً قُبل منه، ومن أظهر شراً فيعامل بمقتضى ما ظهر، ولذلك لا يُظهر الإنسان الشر ويطلب من الآخرين أن يحسنوا الظن به، ولهذا لما كان النبي ﷺ مع امرأته صفية وهو معتكف في المسجد فقام معها ليقْلِبَها يعني: ليوصلها؛ لأنها كانت في دار أسامة بن زيد، وهي بعيدة عن حجرات أزواجه اللاتي قبالة المسجد وفي ليل، فرآه رجلان من الأنصار، فلما نظرا إليه أسرعا، فقال النبي ﷺ: على رسلكما، تمهلا، إنها صفية، فقالا: سبحان الله وأنت يا رسول الله!، يعني: هل نظن بك ظناً؟!، فقال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق، وإني خشيت أن يلقي في قلوبكما شرًّا[1].
فالنبي ﷺ دفع التهمة مع أنه ﷺ بتلك المنزلة، وأيضاً في قصة الحديبية لما بركت ناقته ﷺ القصواء، كانوا إذا توجهوا بها جهة مكة بركت، وإذا وجهوها إلى المدينة قامت وانطلقت، فقالوا: خلأت القصواء، خلأت عند الذين يعرفون الإبل بمعنى حرنت، ومعنى حرنت: يعني: أن الناقة أو الجمل مع طول المسير وما يحصل لها من التعب تلزم مكاناً تبرك فيه لا تتحرك، ولو قُطعت، ولو أحرقت، يأتي إليها الرجال ويرفعونها بالخشب من تحتها، مجموعة من الرجال يحاولون رفعها ولا ترتفع، وتجلس على هذه الحال حتى تموت، أو يجلس عندها صاحبها -إن جلس- إذا كانت غالية عنده، فيتخير لها من أطيب وأفضل العشب يترضاها ويتلطف بها، ويسقيها وهي باركة، تقوم بعد خمسة عشر يوماً، عشرة أيام، متى ما راق لها قامت، هذا معروف عند أهل الإبل، والغالب أنهم يتركونها ويذهبون، أو ينحرونها إن كان بناحيتهم أحد، ويفرقون لحمها عليهم أو يأخذون مما يأخذون، قالوا: خلأت القصواء، حكموا بحسب الظاهر، بحسب ما يرون من حال الإبل، فقال النبي ﷺ: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، إنما حبسها حابس الفيل[2]، حابس الفيل: الفيل حبسه الله عن مكة لما جاء أبرهة، فلما توجهت القصواء نحو مكة بركت، حبسها حابس الفيل لحرمة البيت وعظمته، مع أن النبي ﷺ ما ذهب إلا ليعظمه ويحفظ حرمته.
فالشاهد أن النبي ﷺ ما أنكر عليهم، ما قال: لماذا قلتم حرنت القصواء؟ كيف حكمتم بهذا؟؛ ما لامهم، فهم كما قال الحافظ ابن حجر في شرحه في الصحيح: حكموا بحسب الظاهر، فالذي يُظهر للناس أمراً لا يحسن ولا يجمل لا ينتظر من الآخرين إلا أن يحكموا عليه بحسب ما أظهر، ولذلك ينبغي على الإنسان أن ينتفي وأن يتنزه من مواطن الريب، لا يدخل الإنسان مداخل الريب وينتظر من الآخرين أن يحسنوا الظن، يدخل مراقص، يدخل أماكن -الله يعزكم- للمنحرفين للشاذين في بعض البلاد، ويقول: والله أنا رائح أدعوهم إلى الله، ما أدراكم؟، ولماذا تحكمون علي؟ لا، الإنسان لا يدخل مداخل الريب، وهكذا إذا أظهر الإنسان المعروف والخير ينبغي أن يُقبل هذا منه، ما يقال: لا، فلان قصده كذا، فلان يريد كذا، أبداً، إنسان تكلم بكلام طيب، وقد لا تكون عادته كذلك، هذا جيد، يعان عليه، لا يأتي إنسان ويقول: لا، هو يقصد أمراً، هو يريد كذا، إنسان أعطاك هدية، إنسان صار يتردد على المسجد بعدما كان لا يصلي أصلاً، ما شاء الله، الله فتح على قلبه، قد يكون يفعل هذا لأمر يطلبه، قد يكون لأجل امرأة يخطبها، قد يكون، لكن لم نؤمر نحن بأن نشق على قلوب الناس، هذا أمره إلى الله، الله يتولى عباده، لكن هذا الأمر الذي أظهره نحمله على الظاهر، هذا معنى هذا الباب، والله أعلم.
والآية التي ذكرها المصنف -رحمه الله- هنا:فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ، هذا الرجل كافر قال: لا إله إلا الله، تاب من الكفر فيما يظهر، وصلى أمامنا وآتى الزكاة، زكى ماله، إذن نتركه، قد يكون قالها خوفاً من السيف، قد يكون قالها نفاقاً، هذا إلى الله ليس إلينا، وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا [النساء:94]، إنما يحمل هذا على الظاهر، فهذا أصل كبير، وهنا لماذا ذكر الله الصلاة والزكاة؟ يحتمل أن يكون أنه إن فعل هذين تُرك؛ لأنه لا يكفر بترك الصوم، وأن الحج على التراخي، على هذا القول، أنه ليس على الفور، والراجح: أن الحج على الفور.
والعلماء اختلفوا فيمن ترك الصلاة والزكاة هل يكفر أو لا، وخلافهم فيما عدا الصلاة والزكاة أكثر، خلاف قوي، والقول بأنه يكفر بترك الصلاة قول له وجه قوي من النظر، والأدلة تدل عليه، فالشاهد أنه يحتمل أنه لم يذكر إلا الصلاة والزكاة؛ لأنه لا يكون مسلماً إلا بهما، ويحتمل أنه ذكر هذين باعتبار أن البقية لم تفرض حينما نزلت هذه الآية، أي الصيام والحج.
ويحتمل أن الله -تبارك وتعالى- علق بهذا، وكثيراً ما ترد الصلاة والزكاة معاً في القرآن، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [الأنفال:3] إلى غير ذلك من الآيات، وقد ذكرت لكم في بعض المناسبات وجه ذلك قلنا: إن الصلاة هي رأس العبادات البدنية، والزكاة هي رأس العبادات المالية، فالله يذكر هذا وهذا، وسعادة العبد دائرة بين الأمرين، حسن الصلة مع الله وذلك رأسه بالصلاة، والإحسان إلى الخلق ورأس ذلك بالزكاة باعتبار الزكاة مفروضة، وما تقرب المتقربون بشيء إلى الله أحب إليه مما افترض عليهم، وهنا الله ربط الأمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة مع التوبة، يعني: الإسلام، فإذا فعلوا هذا تُركوا كما تدل عليه الأحاديث، ومفهوم المخالفة عكس هذا الذي ذكر هنا فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ، فإن لم يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإنهم يُقاتَلون، أو إذا قالوا: تبنا، ولكنهم أبوا أن يصلوا فإنهم يقاتَلون، لا يخلى سبيلهم، وهذا من أدلة القائلين بأن الذي لا يصلي يكون كافراً، ليس بمسلم، والله المستعان.
هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، (4/ 124)، برقم: (3281)، ومسلم، كتاب السلام، باب بيان أنه يستحب لمن رُئي خاليا بامرأة وكانت زوجته أو محرمًا له أن يقول: هذه فلانة، ليدفع ظن السوء به (4/ 1712)، برقم: (2175).
- أخرجه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، (3/ 193)، برقم: (2731).