الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب إجراء أحكام الناس على الظاهر وسرائرهم إلى الله تعالى أورد المصنف -رحمه الله-:
قوله:أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، هذه هي الغاية التي أُمر فيها بالقتال، وهذا يدل على أن القتال في الإسلام ليس كما يذكر بعضهم من أنه إنما يكون للدفاع فقط عن بلاد المسلمين، فهذا أحد الأهداف التي شرع من أجلها القتال، بل إن القتال شرع لهذا، لحفظ البيضة، وحماية حوزة المسلمين.
والأمر الثاني: قتال الكفار من أجل إخضاعهم لسلطان الإسلام، ويبقى حكم الأفراد بعد ذلك أنهم لا يلزمون بالدخول في الإسلام، ولكن سلطان الإسلام يكون ظاهراً، مهيمناً على سائر الأديان، فمن شاء دخل فيه، ومن شاء لم يدخل، ولهم أحكامهم، فأهل الكتاب من اليهود والنصارى، ويلحق بهم المجوس هؤلاء يمكن أن يبقوا في بلاد المسلمين المفتوحة ويدفعون الجزية عن يد وهم صاغرون، هذا حكمهم، فإن قبلوا ذلك تُركوا، وإن أبوا أن يدفعوا الجزية أو الدخول في الإسلام قوتلوا، فهذا الحديث واضح: أمرت أن أقاتل الناس، ولفظة المقاتلة تختلف عن لفظة القتل، المقاتلة غير القتل، فالنبي ﷺ ما قال: أمرت أن أقتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله...، أبداً، ما قال هذا، والإسلام لا يكره الناس بالسيف على الدخول فيه أبداً، فالله يقول: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256]، ولكن يبقى سلطانه مهيمناً ظاهراً على كل الأديان، ويخضع الناس لسلطان هذا الدين، ثم بعد ذلك لا مانع من أن يبقوا على دينهم إذا دفعوا الجزية، أعني: أهل الكتاب ومن ألحق بهم، وهذه القضية واضحة من نصوص الكتاب والسنة.
قوله: حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، لاحظوا هذه القضية مع قوله: ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة هذه أربعة أمور، كلها أمور ظاهرة، بمعنى أن ذلك لا ينبئ عن شيء في داخل نفوسهم، فهذا موكول إلى الله ، بمعنى أن هذا الإنسان الذي قال أمامنا: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة نحن لا نطلع على سره، قد يكون صادقاً، وقد يكون كاذباً، فأمره إلى الله -تبارك وتعالى، وسيأتي ما يوضح ذلك من الأحاديث، لكن إن فعل هذا قبلنا منه وأجرينا عليه أحكام الإسلام في الظاهر، والله يحاسبه، كما قال النبي ﷺ: فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى، الله هو يتولى السرائر، كون هذا الإنسان قالها كاذباً، قالها منافقاً، قالها خوفاً من السيف، قالها لمآرب أخرى، الله يتولى ذلك، وهو الذي يحاسبهم عليه، وليس علينا أن نشق عن قلوب الناس، وأن ننقِّر عما في صدورهم.
وقوله ﷺ هنا: إلا بحق الإسلام، حق الإسلام مثل لو أن هؤلاء الناس امتنعوا من شيء من شرائع الإسلام، كأن يقول هؤلاء الناس: نحن نمتنع في بلدنا أن نؤذن الأذان، لا نريد أن نؤذن، الأذان إزعاج ولا نريد أن نؤذن، ولا يوجد في البلاد مسجد واحد يؤذن، فهنا على الإمام أن يقاتلهم حتى يذعنوا ويخضعوا لشرائع الإسلام، لو أن هؤلاء اجتمعوا على أمر قالوا: نحن نمتنع من بناء المساجد في البلد، ومن صلاة الجماعة، وكل إنسان يصلي في بيته، فإنهم يقاتَلون على ذلك، يقاتلون حتى يذعنوا، هذا معنى إلا بحق الإسلام، فهذا بالنسبة للمجموع، وبالنسبة للأفراد لو أنه حصل منه ردة ظاهرة قتل، لو أنه تعاطى السحر صار ساحراً فإنه يقتل، لو أنه عمل -أعزكم الله- عمل قوم لوط، فقد صح عن النبي ﷺ أنه يقتل الفاعل والمفعول به إذا كان راضياً[2]، لو أن هذا الإنسان فعل فعلاً مما يوجب قتله، حكمه القتل مثل لو أنه قطع الطريق، وأفسد في الأرض، فإن الإمام يكون مخيراً بين قتله أو صلبه مع قطع يديه ورجليه من خلاف، أو نفيه من الأرض، هذا معنى "إلا بحق الإسلام"، فإذا فعل ذلك، لو أنه قتل إنساناً، فإذا طلبوا القصاص فإن قوله: لا إله إلا الله لا يعصم دمه إذا كان في رقبته دم لمعصوم، فإنه يقتل، وهكذا إذا سرق تقطع يده، الزاني المحصن يرجم، إذاً قولهم: لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة تكون عصمة لدمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، لو أنه امتنع من أداء الزكاة، البلد إذا امتنعوا قوتلوا كما فعل أبو بكر ، إذا كان أحد الأفراد امتنع فإن النبي ﷺ قال: فإنا آخذوها وشطر ماله[3]، يؤخذ الشطر تعزيراً له، ونكاية به، هذا إلا بحق الإسلام، كل ذلك.
وقوله ﷺ هنا: ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة استدل به من قال: إنه لا يكون مسلماً إلا بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، لابد منهما، واستدلوا به على أن من لم يُقم الصلاة ويؤتِ الزكاة فإنه يقاتل، وهي من أعظم شرائع الدين، وذكرنا من قبل لماذا اقتصر عليها، هل هذا كان قبل أن يفرض الله البقية الصيام والحج؟ أو أن هذه هي الأهم والأعظم؟، كون الصلاة والزكاة هذه رأس العبادات المالية، وهذه رأس العبادات البدنية، ذكرنا هذه الأوجه في السابق.
وكذلك الحديث الذي بعده:
ليس لنا إلا الظاهر، لهذا أقول وأؤكد على هذا المعنى الذي من أجله عقد المصنف -رحمه الله- هذا الباب: وهو أن الإنسان لا يشتغل ببواطن الناس، هذا يختص بربهم وخالقهم ، فهو الذي يتولاهم، ولذلك أقول: نحن في تعاملاتنا مع الآخرين يجب أن نعاملهم بحسب ما يظهر منهم، قد يُنسب للإنسان، للرجل، للمرأة، قول، كلام، قد ينسب إليه فعل من الأفعال يسأل عن هذا، هل فعلت هذا؟ هل صحيح قلت هذا الكلام؟ قد يقول: أبداً والله ما قلته، أو أنا ما فعلت هذا الفعل، خلاص تنصل من هذا الشيء القبيح الذي نُسب إليه، ما نقول: لا، هذا الإنسان قال هذا من أجل أن يتخلص من الإحراج أو نحو ذلك، هو الآن ينفي هذا يقول: أعوذ بالله، أنا أقول هذا!، الله هو الذي يتولاه، ليس لنا أن نشق عما في قلبه، ولو فعلنا هذا مع الناس وتعاملنا به لاسترحنا من صداع كثير، ومن سوء الظن، ولحصلت لنا سلامة الصدر، فالواجب على المؤمن أن ينصح إخوانه، ولهذا ذكر النبي ﷺ الأمور التي لا يَغِلّ عليها قلب المسلم ومنها بذل النصيحة، فإذا رأى شيئاً نصح، وبيّن الموقف الصحيح لإخوانه، وهكذا أيضاً الناس قد يظهر منهم الإحسان، يعني: قد يأتي هذا الإنسان معزياً، قد يأتي هذا الإنسان عائداً، وقد يأتي هذا الإنسان زائراً أو نحو ذلك، بعض الناس يقول: لا، ما جاء إلا يريد شيئًا، ما جاء إلا لهدف، ويحمل كل شيء على أسوأ المحامل، إن جاء في عزاء قال: جاء يشمت، أو جاء ينظر الموجودين، أو جاء كذا، ما شأنك به يا أخي؟! هو فعل فعلاً حسناً، ما جاء إلا لأننا أتيناه المرة السابقة، أعطاهم مساعدة في زواج إذا كان ذلك من عاداتهم، قال: لا، هو أصلاً ما أعطانا إلا لأننا أعطيناه المرة الماضية، وهكذا يقابل الإحسان! إذا اتصل يسأل قالوا: غريبة لماذا يتصل، وما عنده؟، هذه مقدمة، يريد شيئاً آخر، وتجد الإنسان يكلم أحيانًا: كيف حالكم؟، يقول: الحمد لله نحن بخير، وكأنه ينتظر ويقول: هات الذي عندك، ماذا بعد السلام؟، السلام هذا بعده شيء آخر، ماذا تريد؟.
لماذا نتعامل مع الناس بهذه الطريقة؟!، ينبغي أن نقبل الإحسان، ونعفو عن الإساءة، ولا نحمل حسنات الناس -للأسف- على المساوئ وأمور لربما لا تخطر لهم على بال، ولذلك تجد بعض الناس أحياناً قد يعبر عن إحسان الآخرين بما يدل على الذم، كالإنسان الذي مثلاً يُعنى بتفقد إخوانه وزيارتهم، أو يخلّص قلبه من الأحقاد أو نحو ذلك، لربما يوصف بأوصاف -عند من لا يكون كذلك ولا يعرف هذه الأخلاق- تدل على ذمه وانتقاصه ونحو هذا، فهذا خطأ ينبغي للإنسان أن يتنبه منه، ويتخلص من هذه المساوئ والآفات، والله المستعان.
أسأل الله أن يطهر قلوبنا من كل غل وحسد وغش للمسلمين، وأن يصلح أعمالنا وأقوالنا وأحوالنا ونياتنا، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، (1/ 53)، برقم: (23).