الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فآخر ما أورده المصنف -رحمه الله- في باب إجراء أحكام الناس على الظاهر ما جاء:
بمعنى أن النبي ﷺ كان الله يظهره ويطلعه على ما شاء من وحيه، ففي غزوة تبوك جاء المنافقون يعتذرون إلى النبي ﷺ بالمعاذير الكاذبة، ويقول بعضهم: ائذن لي ولا تفتني، فالله ينزل القرآن: وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [التوبة:49]، وهكذا في غزوة الأحزاب يأتون إلى النبي ﷺ ويعتذرون إليه ويقولون: إن بيوتنا عورة، فيرد عليهم القرآن ويقول: وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [الأحزاب:13]، إلى غير ذلك من المقامات والمواقف التي جلّى الله فيها لنبيه ﷺ دخائل هؤلاء وبيّن مكنونات نفوسهم وأظهرها، لكن الوحي قد انقطع بعد موت النبي ﷺ، فيقول عمر : "وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً أمّنّاه وقرّبناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لم نَأمَنه ولم نصدقه وإن قال: إن سريرته حسنة"[2]، رواه البخاري.
وهذا الأثر عن عمر يجلي لك مراد المصنف -رحمه الله- من هذا الباب، الأحاديث التي أوردها يذكر فيها النبي ﷺ أن من قال: لا إله إلا الله عصم دمه وماله وأن حسابه إلى ربه .
فعمر يقول: نحن نأخذ الناس بما ظهر منهم، ومن هذا المنطلق أقول: ينبغي للمؤمن أن ينظر فيما يصدر منه من الأقوال والأفعال وسائر التصرفات، فإن الناس إنما يحكمون بحسب الظاهر، فمن أوقع نفسه في مواقع الريب ودخل مداخل الريب، وظهر منه تصرفات تدل على خلل في أمانته أو ديانته أو نحو ذلك فإنه لا يلوم الناس بعد ذلك إذا أساءوا الظن به، هو المتسبب في هذا، ومن أظهر الخير والصلاح والمعروف والتقرب إلى الله ، والدعوة إلى الله فهذا يقبل منه ويعان على ذلك، ولا يقال: هذا الإنسان له مآرب أخرى، هذا الإنسان يريد أن يتوصل بذلك إلى مطلوبات نفسية دنية ونحو هذا، إنما يحمل الناس على ظواهرهم، والله يتولى سرائرهم، وهذا المنهج ينبغي أن يكون هو المنهج في التعامل مع الآخرين، وفي الحكم عليهم في الوقت الذي لا ينبغي أن يكون الإنسان فيه مغفلاً فيخدع، لكن ليس له أن يسيء الظن بالناس، ولا أن ينقِّر، ولا أن يلاحقهم ليعرف ماذا يبطنون في سرهم، وما يخفون في بيوتهم، أو نحو ذلك، لا، بحسب ما ظهر منهم، هذا الإنسان ظهر لنا منه الخير والمعروف والطاعة فنحسبه كذلك، وهذا إنسان لا يظهر منه الخير، لا يُرى في المسجد مع الجماعة، لا يرى في صلاة الجمعة، هذا الإنسان يرى عليه تصرفات وسلوكيات منحرفة، مشبوهة، فمثل هذا كيف ينتظر من الآخرين أن يحسنوا الظن به؟!، من فعل ذلك أو وقع في هذه المواقف فلا يلومن إلا نفسه، يرجع باللوم إلى نفسه.
ويدل على ذلك قول النبي ﷺ: إنها صفية[3]، وأخبر أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق، ولهذا لو أن الإنسان اضطر فوقع في موقف يمكن أن يرتاب الآخرون منه فإنه ينبغي أن يوضح للآخرين، ويقول لهم: إنما فعلت هذا من أجل كذا، إنما أتيت هذا المكان من أجل كذا، ولا ينتظر من الآخرين ويقول: لا والله يجب عليهم أن يحسنوا الظن بي، إطلاقاً، فهذه قضايا ينبغي أن يتفطن الإنسان لها، وبهذا يكون نزيهاً طاهر العرض، نظيف الثوب، لا يُقدح في عرضه ولا تلوث سمعته.
وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يحفظنا وإياكم بحفظه، ويتولانا وإياكم برعايته، وأن يعيننا على أنفسنا، ويغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب الشهداء العدول، (3/ 169)، برقم: (2641).
- أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب الشهداء العدول، (3/ 169)، برقم: (2641).
- أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، (4/ 124)، برقم: (3281)، ومسلم، كتاب السلام، باب بيان أنه يستحب لمن رُئي خاليًا بامرأة وكانت زوجته أو محرمًا له أن يقول: هذه فلانة، ليدفع ظن السوء به، (4/ 1712)، برقم: (2175).