الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب فضل البكاء من خشية الله أورد المصنف -رحمه الله- حديث إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: أن عبد الرحمن بن عوف أُتي بطعام، وكان صائمًا، فقال: قُتل مصعب بن عمير وهو خير مني، فلم يوجد له ما يُكفَّن فيه إلا بردة، إن غُطي بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطي بها رجلاه بدا رأسه، ثم بُسط لنا من الدنيا ما بُسط -أو قال: أُعطينا من الدنيا ما أُعطينا-، قد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام[1]. رواه البخاري.
عبد الرحمن بن عوف من خيار الصحابة، ومن كبارهم، وهو من العشرة المبشرين بالجنة.
ومعلوم أن رتب الصحابة في الأفضلية: أن أفضلهم الخلفاء الأربعة، وأن فضل الخلفاء الأربعة على الترتيب المعروف كما هم في الخلافة.
ثم يأتي بعد ذلك بقية العشرة، ومنهم عبد الرحمن بن عوف ثم يأتي بعد ذلك أهل بدر، ثم يأتي بعد ذلك أهل بيعة الرضوان.
هكذا يُرتَّب الصحابة في الفضل، ثم من أسلم بعد ذلك عام فتح مكة.
فعبد الرحمن بن عوف هو ممن أسلم قديمًا في مكة، وكان إسلامه على يد عثمان بن عفان - رضي الله عن الجميع-.
وإبراهيم الذي يروي هذا الحديث عنه هو إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، بقي إلى سنة ست وتسعين من الهجرة، يعني: أنه توفي قريبًا من سنة ست وتسعين، وقيل غير ذلك.
وأبوه كانت وفاته في حدود سنة اثنتين وثلاثين، في خلافة عثمان وقد قبض قبل وقوع الفتن بين الصحابة.
وكان من أغنيائهم، وأثريائهم، ومعروف خبره أنه حينما هاجر وقع له ما وقع مع سعد بن الربيع حيث آخى رسول الله ﷺ بين عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن الربيع، فقال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالا، فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟[2]
قال تعالى: وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر: 9].
لا يجدون حاجة يعني: حسدًا لإخوانهم المهاجرين إذا خُصوا بشيء دونهم، يعني: دون الأنصار، كما فعل النبي ﷺ حينما فتح الله عليه أرض النضير، جمع الأنصار، وسألهم قال لهم: إن شئتم خرجوا من أرضكم، وقسمتها بينهم -يعني بين المهاجرين-، وإن شئتم بقوا في أرضكم، وقسمتها بينكم -يعني بين المهاجرين والأنصار- فقالوا: لا يا رسول الله.
وقد شهد الله لهم بهذا الإيثار، وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا حسدًا مما أوتيه المهاجرون دونهم، يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر: 9].
والخصاصة: هي الشدة والحاجة التي يختص بها الإنسان، وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9].
فالشاهد أن المهاجرين -أيضًا- كانوا أصحاب نفوس عزيزة، فعبد الرحمن بن عوف لم يقبل هذا العرض، فدعا له بخير في ماله وولده وقال: ولكن دلني على السوق.
ما قابل هذا باستغلال وطمع، وإنما تنزه عن ذلك، فكانوا بهذه المثابة، وبدأ من الصفر، من لا شيء، إلا القناعة، وعلو الهمة، والتوكل على الله حتى صار من أكبر أغنياء الصحابة حتى إنه بعد وفاته الأموال التي تركها من الذهب قسمت بين الورثة بالفؤوس.
وكانت بدايته هكذا بلا شيء، لم يأتِ إلا وعليه مئزر، ليس عليه من حطام الدنيا شيء، لكن الله عوضه، وهكذا من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه.
يقول: "إنه أُتي بطعام، وكان صائمًا"، هذا يقوله في حال السعة والغنى والجدة، ما أبطرتهم الدنيا، ولا أفسدتهم، الله يقول: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق: 6-7].
أما الصحابة فلم يحصل لهم طغيان، ولم يحصل لهم بطر، بل بقوا على ما تركوا عليه رسول الله ﷺ من العبادة والزهد في الدنيا.
والزهد في الدنيا ليس بمعنى التخلي عنها، وإنما حقيقته أن تكون الدنيا في يدك لا في قلبك، لو كان الإنسان يملك أموال كسرى وقيصر، ولكنها لم تدخل قلبه فإنه يكون زاهدًا، لكن إذا تحرك الريال تحرك القلب معه كأنها قطعة تنتزع من قلبه، هذا من أبعد الناس عن الزهد.
قد ينام الإنسان على التراب، ولكنه من أعظم الناس شحًّا، لكنه يفعل هذا إما بخلاً، وإما أنه لا يجد، وليس بزاهد.
وقد ينام الإنسان على الفرش الوثيرة، وهو من أزهد الناس؛ لأن ذلك لا يدخل قلبه، ولم يؤثر ذلك فيه، وإنما هو شيء بيده، فالعبرة بهذا القلب.
فلم يتغيروا الواحد منهم يصوم، ثم لا ينسى الحالة التي كان عليها قبلُ، وما كان عليه أصحابه، وما تركوهم عليه من الشدة والحاجة.
كثير من الناس إذا تحولوا من حال إلى حال نسوا الماضي، إذا تحول الناس من فقر إلى غنى نسوا الفقر والشظف الذي كانوا يعيشونه، خاصة الجيل الذي لم يعايش الفقر وشدته.
ومعلوم عند الناس أن الذين ينتقلون انتقالاً مفاجئًا من الفقر إلى الغنى الفاحش أنهم يكونون من أكثر الناس بطرًا وكبرًا، وتيهًا، وعُجبًا، وزهوًا، وتعاظمًا، وفسادًا، وإفسادًا.
فطبيعة الإنسان -إلا من عصم الله أنه يطغى في حال الغنى.
الصحابة ما أطغاهم المال، وهذا لتقواهم، وخوفهم من الله وطيب أصولهم، ومعادنهم، فهم أصحاب المعادن الطيبة.
وكثير من الناس قد لا يظهر عليه شيء من البطر والزهو والتعاظم؛ لأنه لا يملك شيئًا، لكن لو وقع له شيء لرأيت العجب العجاب.
فالمقصود أن الصحابة كانوا يذكرون الحالة الماضية، وما ينكرونها، قارون حينما ذُكّر بالله وبالآخرة قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص: 78].
وتعرفون في خبر الثلاثة الأقرع، والأعمى، والأبرص ماذا قال بعضهم؟ قال: إنما ورثت هذا المال كابرًا عن كابر[3].
ولما ذُكّر بالحالة الماضية أنكرها، إلا صاحب الغنم، فهو الذي كان شاكرًا.
فهذا من الشكر، وهذا ليس في باب المال فقط، بل في كل الأبواب، فنحن بحاجة إلى أن نتذكر هذه المعاني.
انظر إلى إخواننا الذين في غزة هذه الأيام، كيف يعيشون في ظلام، تصور لو أن لك مريضًا في المستشفى على الأجهزة، وقطعت الكهرباء، ورأيته يلفظ أنفاسه في لحظات، كيف تكون مشاعرك؟ كم عدد الذين في المستشفيات؟ كيف ينتقل الناس؟.
بعضهم وصل على قدميه إلى سريلانكا، يبحث عن عمل، من مكان إلى مكان، أحياء موجودون يرزقون، إلى سريلانكا!، وذهبوا وطافوا البلاد يبحثون عن أعمال في الحرف والمهن الوضيعة، لا يجدون شيئًا، البلد صحراء، والواحد يسافر منهم مسافات طويلة ليس معه شيء، لا مال، ولا طعام.
كان الواحد يخرج، ولا يدري هل يرجع إلى بيته، انظروا إلى من حولنا كيف يتخطفون، وكيف تروعهم أنواع الأسلحة التي تجرب على رءوسهم، كيف يقومون مذعورين، فيحتاج الإنسان إلى أن يتذكر.
الصحابة كانوا يتذكرون، ثم ينشأ جيل لم يدرك تلك المخاوف والآفات، فيُفسد، يحصل له بطر، فيستعمل هذه النعم في غير ما وضعت له، في غير مرضاة الله تجد مظاهر الفسق والبغي، والعدوان على الناس، بأي نوع كان، أو أولئك الذين ينبتون في مثل هذه النعم، ثم بعد ذلك ينقلبون على مجتمعهم، ويُفسدون، ويهلكون الحرث والنسل، تحت مسمى الدين والدفاع عن الإسلام، وما إلى ذلك من تصرفات غير محسوبة، الله يهدي الجميع، ويلطف بنا.
المقصود: أن عبد الرحمن بن عوف تذكر مصعب بن عمير، قال: قُتل مصعب بن عمير مصعب .
وقد قتل في يوم أحد كما هو معلوم، وهو الذي كان يحمل الراية، وقتله عبد الله بن قتيبة، وكان يظنه النبي ﷺ.
يقول: وهو خير مني، يعني: أفضل مني، وهذا من تواضع عبد الرحمن بن عوف وإلا فالعشرة المبشرون بالجنة أفضل من غيرهم.
يقول: وهو أفضل مني، فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة، إن غطي بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطي بها رجلاه بدا رأسه.
وهذا يدل على أن فضل الإنسان، ومنزلته ليس باللباس، وبكثرة العرض، فإن هذه تحصل حتى للكلاب -كما هو معلوم-، يوجد في بعض المجتمعات في أوروبا من يورث الكلب المليارات، الصحف تكتب عن هذا، فليس كثرة العرض، أو ما يتزيّا به الإنسان ينبئ عن قيمته ومنزلته، إطلاقًا.
قيمة الإنسان هو ما يحمله بداخله من التقوى والخوف من الله والعبادة والتقرب والعلم والعمل، هذه قيمة الإنسان الحقيقية، أما اللباس فيكون على الصالح والطالح، والبر والفاجر، والذي ينفع والذي لا ينفع.
فيقول: "ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط -أو قال أعطينا-، قد خشينا أن تكون حسناتنا عُجلت لنا" يعني عجل لنا الجزاء، والأجر في هذه الحياة الدنيا، ثم جعل يبكي، حتى ترك الطعام .
كانوا يخافون، ما كانوا يسترسلون مع الدنيا استرسالنا، وما كانوا يأمنون أن يكون ذلك استدراجًا، أو من قبيل تعجيل الأجر والحسنات في الدنيا.
بل كانوا يخافون، وكانوا يسخرون أموالهم في طاعة الله ويتصدقون، ويبذلون، واقرأوا في ترجمة عبد الرحمن بن عوف كيف كان المال يقلقه، ولربما أنفقه في ليلة واحدة.
فالإنسان لا يغتر بما يقع في يده من عرض الدنيا، وإنما يدرك أن هذا قد يكون ابتلاء له وامتحانًا، لينظر الله كيف يصنع.
ومن حُرم فينبغي ألا يسوء ظنه بربه -تبارك وتعالى-، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- كان ينام على الحصير حتى يؤثر في جنبه، ما كان النبي ﷺ يجد هذه الأشياء التي نجدها، ولو كان ذلك خيرًا للإنسان بإطلاق لساقه الله لنبيه ﷺ .
فالمقصود: أن الإنسان لا يغتر بالدنيا، ولا ينسى إخوانه المسلمين، ولا ينسى الحال التي كان عليها، وكان عليها قومه وأهله، فلا يبطر، فيكون هذا البطر سببًا لذهاب هذه النعم والإفضال من الله .
والنعم إنما تثبت في حال شكرها، والقيام بحقها، وتسخيرها في طاعة المعبود .
- أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا لم يوجد إلا ثوب واحد (2/77)، رقم: (1275).
- أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب إخاء النبي ﷺ بين المهاجرين، والأنصار (5/31)، رقم: (3780)
- أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق (4/2275)، رقم: (2964).