الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما أورده المصنف -رحمه الله- في باب الزهد ما جاء من:
وقال الترمذي: سمعت أبا داود سليمان بن سالمٍ البلخي يقول: سمعت النضر بن شميلٍ يقول: الجِلْف: الخبز ليس معه إدامٌ، وقال غيره: هو غليظ الخبز، وقال الهروي -يعني: أبا عبيد القاسم بن سلام الهروي صاحب كتاب الغريب: المراد به هنا وعاء الخبز، كالجواليق والخُرج، والله أعلم.
يعني: الذي يوضع فيه الخبز.
يقول: ليس لابن آدم حقٌّ في سوى هذه الخصال يعني: ما عدا ذلك فهو من الأمور الزائدة التي يحاسب عليها، وليس معنى ذلك أنها تحرم عليه، وإنما تكون من باب الفضل والزيادة، يقول: بيتٌ يسكنه، وثوبٌ يواري عورته، وليس المقصود أن يكون الثوب من السرة إلى الركبة ليواري العورة، وإنما عبر بذلك لبيان أن ذلك يكون بقدر حاجته، فعبر بمثل هذه العبارة وإلا فإن الثوب الذي يلبسه الإنسان النبي ﷺ يقول -مثلاً: إزرة المؤمن إلى نصف ساقيه[2] وكان أحب اللباس إليه ﷺ القميص، وهو هذا الثوب الذي نلبسه، فتفهم الأحاديث بهذه الطريقة.
وجلف الخبز والماء يعني: كما فسر بأنه الذي ليس معه إدام، خبز وماء، ليس معه شيء آخر، يعني: أن هذه الأمور هي الأمور الضرورية التي تقوم بها الحياة، وما عدا ذلك فهو زيادة.
الحديث هذا لا يصح، ضعيف، ولكن على كل حال لو صح هذا الحديث فالمقصود بذلك كما مضى في الأحاديث السابقة أن الإنسان يكفيه من هذه الحياة الدنيا القليل، فعلى أيّ شيء يذل نفسه، ويحتاج إلى الآخرين ويفتقر إليهم، ولربما ضاع دينه وذهب بسبب ما يجمعه وما يحرص عليه من الدنيا، أضف إلى ذلك ما يحصل لكثير من الناس في هذه الحياة من تسخير طاقاتهم وجهودهم ودراساتهم وإمكاناتهم، فيبقى العمر يذهب جزء كبير منه في الدراسة، ويذهب جزء كبير منه في تسخير كل الإمكانات، والقدر في سبيل توفير هذا الأكل الذي يأكله هذا الإنسان، مع أن الأمر لا يحتمل هذا، هناك أشياء أخرى في الحياة، أما أن يسخر الإنسان جهده وطاقته من أجل هذا الشبر –المعدة، تختصر الحياة كاملة بما رحبت ووسعت، وما أعطاه الله الإنسان من ذكاء، ومن قدر وإمكانات من أجل شيء يمكن أن يسد بكسرة خبز، تذهب مروءات كثير من الناس، تذهب أخلاقهم، يذهب دينهم، تذهب أسرهم لا يجدون من يربيهم من يعلمهم كل هذا في سبيل هذا التكالب على الدنيا، فالأمر أسهل من ذلك، الأمر دون ذلك، هذا هو المقصود، فعلى كلٍّ الحديث لا يصح.
الحديث الذي بعده هو:
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1]، ألهاكم بمعنى: شغلكم وصدكم وصرفكم عما أنتم بصدده، فاللهو يطلق على كل ما يتعاطاه الإنسان مما يشغله عن المطالب العالية والأمور الجادة، وما هو مكلف به، يقال له: لها، تقول: هذا ألهاني عن كذا، واللعب من اللهو، ولهذا قال الله عن الحياة الدنيا بأنها لعب ولهو.
والتكاثر، أي: التكاثر في الأولاد، والتكاثر في الأموال، والتكاثر في المنازل، والتكاثر في كل شيء من الأمور التي يطلب بها الإنسان الدنيا مما يشغله عن الله ولهذا لما جمع بعض السلف مائة طريق لحديث صحيح، ففرح فرحاً عظيماً، فرأى أحد أئمة السنة في المنام، فذكر له هذا، فسكت وأطرق ثم قال: أخشى أن يكون ذلك داخلاً في قوله تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ أسانيد لحديث، لكن حينما طُلبت هذه الأسانيد الكثيرة لحديث جاوز القنطرة -حديث صحيح، فصار هذا من هذا القبيل.
وقل مثل ذلك فيما يتكاثر به الناس، أحياناً الإنسان قد يتكاثر بكثرة المصلين خلفه، يكون عنده صوت جميل، فهو يفتن بهذه الصفوف والناس الذين يصلون خارج المسجد، وعلى الأرصفة، ولربما المحلات المجاورة تغص بهم، قد يكون الإنسان خطيباً فيفتن.
القضية فيها جانب من الخير أن يقول الإنسان: ينتشر الخير على يدي وكذا، لكن أيضاً قد يفتن بعض الناس، ويكون هذا هدفًا ومطلبًا له، فيتصرف بتصرفات فيها من التضييع والتفريط، ويقول كلاماً لا تبرأ به ذمته من أجل هؤلاء الناس، فيفتن بهؤلاء الذين يصلون معه ويسمعون خطبته وهكذا، وقد يكون الرجل ممن يحاضر، ويلقي للناس المحاضرات، وهو بليغ فصيح، أو يعظ ويبكي الناس، فيحتشد الناس، ويمتلئ ويغص بهم المسجد، وتغص بهم الساحات، ونحو ذلك، هذا جيد يؤجر عليه الإنسان، لكن إذا وجه الإنسان نظره وهمته إلى مثل هذا، وصار يلاحظ هذه القضية ويطلبها -نسأل الله العافية- فهذا عطب، وهنا يدخل في قوله: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ولذلك مثل هذه القضايا جميعاً يجب أن تضبط بالضابط الشرعي، فالصلاة تضبط بالضابط الشرعي، ما يصلي من أجل هؤلاء الناس أنهم والله يريدون أن أقرأ بهم قراءة قصيرة، ففي التراويح كل ركعة آية من أجل هؤلاء، هذه مشكلة، أو أنه قد يقرأ بطريقة مختلة، يعني: أحياناً قد يقف على غير مواضع الوقف ليُطرب السامعين بطريقة غير صحيحة إطلاقاً، خطأ، هو لا يراعي مواضع الوقف فيحصل بسبب ذلك تغيير للمعاني، وإفساد لها من أجل هؤلاء الناس الذين يصلون خلفه.
وهكذا تجد أشياء: أحياناً قد يدعو ويأتي بالأسماء الحسنى الواردة في الحديث الضعيف، بالتسعة والتسعين اسما سرداً، كل اسم معه دعاء، والدعاء أطول من الصلاة، نسمع أحياناً أن الدعاء يصل إلى ساعة إلا ربعًا، هذا الدعاء، ثم المساجد الأخرى تصلي، ويأتي الناس يحتشدون يسمعون هذا الدعاء، هذا سمعت أنه موجود في بعض البلدان، فهذه مشكلة.
الإمام أحمد -رحمه الله- يقول: إذا زاد عن قوله: اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت... إلى آخره قال: تقطع صلاتك، إيه لو جاء ورأى!.
فالشاهد: يقرأ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ قال: يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيترواه مسلم.
فيكون مدخَرًا له عند الله ، ولو تأمل الإنسان هذا المعنى لوجده في غاية الدقة، ما الذي يكون للإنسان غير هذه الثلاثة، فهذا الذي يموت وهو يملك مناطق شاسعة، أراضيَ مخططات، وعمارات ويملك أسواقًا، ويملك المراكب، ويملك الطائرات، ويملك أشياء كثيرة جدًّا، إذا مات فما الذي له من ماله في الواقع؟ هذه الثلاثة فقط، وهو في الحياة أيضاً ما الذي له من ماله؟ هي هذه الثلاثة، والباقي؟ هو حارس يحرسها، وخادم يحوطها، ويخدمها، فيبقى قلبه مشغولاً بها، وجوارحه مسخرة لها، لا يفكر إلا في تثميرها وتنميتها، مشغول البال عليها، لو قيل الآن لواحد منكم: هذا أو ذاك السوق الكبير هو لك يمكن ما ينام الليلة، يجلس يفكر وكيف سيصنع والمحلات المؤجرة كيف سيأخذ الإيجار، وماذا سيصنع بالإيجار، وهل سيفتح أماكن ثانية أو يقتصر على هذا، أو نحو ذلك، أو لو قيل له: الأرض الفلانية الشاسعة هذه كلها لك، بدأ يفكر فيها هل أؤجرها، أم أبقيها، أم أبيعها، أم أجعلها مخططًا، وهل أدخل معي شركاء أو لا، وهل عندي إمكانيات أن أجعلها مخططًا أو لا،، كم تحتاج، والشئون الهندسية، أو المهندس، أو المكتب الهندسي كم يحتاج، ورصف هذه الطرق، وتمديد الأشياء التي فيها، ويبقى ما ينام، وقد يموت ولا يكون له شيء من هذا، وقد يكفيه ما عنده من المال، ولا يحتاج إلى شيء أكثر من هذا، لكن هذا ابن آدم، بعضهم افتخر مرة أو فرح مرة، جلس يحسب فقال: الآن حسبت عشرة آلاف دكان، يعني له، طبعاً هذا الكلام قبل حوالي خمس وعشرين أو ثلاثين سنة الآن أتوقع أن عنده الضعف، فنسأل الله أن يبارك للجميع، لكن أنا أفكر بهذه الكلمة، يعني: عشرة آلاف يشقى الإنسان بها يتعب في متابعتها، وإصلاحها، وأخذ الإيجارات، هذا نوع من العذاب، من الناس -وكثير منهم- مَن لا يدفع أصلاً إلا بشق الأنفس، فيبقى قلبه مشغولاً هذا ما دفع، وهذا باقٍ له ألف، وهذا باقٍ له خمسة آلاف، وهذا أجلنا إلى الشهر القادم، هو معذب بينما يكفيه أقل من هذا بكثير، ولذلك إذا تبصرت في هذه الأمور الثلاثة التي ذكرها النبي ﷺ وعقلتها وروضت حياتك على هذه الأمور استرحت كثيراً.
وإذا طلبت النفس أكثر من حاجاتها فإن الإنسان يبقى قلبه معذباً، حتى لو كان عنده أشياء يبقى ينتظر الزيادة؛ لأن الإنسان لا تملأ نفسه إلا الجنة، فالجنة هي التي فيها يتحقق طموح الإنسان، أما الدنيا فلا يتحقق فيها الطموح، كلما طلب شيئًا طلب الزيادة، انظر إلى أحوال الخلق، هذا الطالب الذي في الكلية لربما همه هو الثمانمائة الريال، الألف الريال، متى تعطى له، ما تتأخر، ومتى يتخرج، ومتى ينجح في هذه المادة، هذا همه، لكن سلك هذا الطريق سالكون قبله قبل عشرين وثلاثين سنة، الآن عندهم أموال، عندهم أشياء، عندهم رصيد في البنك، عندهم لربما منزل، عندهم محلات، أو عندهم أشياء، من قبل ما كانوا، الله أخرجهم من بطون أمهاتهم ما عندهم شيء، فهكذا يأتي جيل، ويأتي جيل، فيبقى الإنسان مشغوفاً، مشغولاً بهذه الحياة وسيأتيه ما قدر له منها، فهذا الطريق يسلك فيه الجميع، والأرزاق تعطى للخلائق بحسب ما قدر الله لهم، منهم الأغبياء، ومنهم الأذكياء، ولو كان العطاء على الذكاء لمات كثير من الناس، ولكن الله يعطي بحكمته -تبارك وتعالى- وحسب علمه بخلقه ونحو ذلك، ولذلك تجد هذه الأرزاق موزعة بين الناس يتمايزون فيها ليس ذلك مبنياً على مهارات، ولا ذكاء، ولا حذق، ولا غير ذلك، فتجد الرجل في غاية البلادة وعنده من الأموال ما الله به عليم، وتجد الرجل الحاذق الذكي الفطن الذي كلما لاحت له فرصة جلس يقلب النظر فيها يميناً ويساراً، ويدرسها من جميع الجوانب، ثم بعد ذلك تطير الفرص من بين يديه، وهذا حال كثير من الأذكياء بهذه الطريقة، ولذلك لا يحصّلون كثيراً؛ لأنهم يريدون دراسة الأمر من جميع جوانبه فتطير الفرص، والفرص سريعة الزوال والذهاب، ولذلك أقول: ينظر الإنسان فيما يأخذه من هذه الحياة، فإنه هو الذي فعلاً له، إما بصدقة، أو غير ذلك، وأما ما يبقى فهو ليس له وإن قال: مالي مالي، أنت حارس عليه، مهما أعطي من العقارات، وأعطي من الأموال، وأعطي من الفنادق، لا تقربها، ولا تسكن فيها لو سمحت، هي كلها لك، هذه الدنيا التي تراها، ترضيه بهذه الكلمة سجلها باسمه، لكن لا تقربها، انظر ما الفائدة، هذا حال كثير من الناس، ولذلك تأمل في كل ما حولك، انظر الأحياء التي بدأ الناس ينتقلون منها ستجد فيها أراضي فارغة كانت تطلب قبل ثلاثين سنة تقريباً، والناس يتهافتون عليها، أو قبل عشرين سنة وصاحبها يقول: هذه أرض ما تأكل ولا تشرب، فيستبقيها، هو في زعمه أنه مدخرها، الآن ما شاء الله والحي بنى الناس فيه، وصار حيًّا تقادم عليه الزمان، وصار قديماً وزهد الناس فيه، وهي باقية لم تبنَ، فأنا إذا مررت على أراضٍ مثل هذه أتفكر، وأقول: سبحان الله، انظر: هي له بزعمه، لكن الواقع أنها ليست له.
لكن لو سكن فيها وارتاح أو باعها، وأكل ثمنها أو تصدق به لصارت له، طُف في الأحياء، وانظر الأحياء القديمة وما فيها من أراضٍ فضاء، الواقع أنه حارس أمين على هذه، انظر إلى أحوال الناس وما يمتلكون من هذه الحياة الدنيا، تجد الرجل أحياناً قد يفكر يقول: سبحان الله، تأتي أمراض خطيرة يحتاج علاجها أحياناً ملايين، وإذا نظرت إلى أحوال الناس، أحوال الخلق، قد تجد أغنياء، وقد يبتلى بعضهم بهذه الأمراض ويعالجون في مستشفيات حولهم هنا وهنا، ما الفائدة من المال؟.
استوى هو مع أفقر الناس، ما الفائدة؟، هذه التي يفكر فيها كثير من الناس، يقول: لو عرض عارض الإنسان ما يحتاج إلى الناس في قضايا علاج أو شيء، انظر إلى حال من حولك أين يعالج؟ تجده يعالج غالباً مع الفقراء، ماذا نفعت هذه الأموال؟ طبعاً ما هي التبريرات؟ العلاج الذي في الخارج موجود هنا، أو هو ما اقتنع أن يذهب، أو ما ارتاح، ما انشرح صدره، لكن في النهاية استوى هو وأفقر الناس، هذه هي الحياة، لكن الإنسان يتعب نفسه كثيراً.
انظر إلى ما تأكله مما يطعمه الإنسان في ليلته مثلاً، يبيت وهو يأكل ربما فوق حاجته، انظروا يا إخوان إذا ذهب الإنسان إلى مناسبة، أو إلى مطعم بوفيه مفتوح أو غير ذلك، كم يستطيع أن يأكل؟ يمكن لو أراد أن يأخذ بالطبق مرتين ما استطاع، فهذا هو الإنسان، هذه قدراته، الإنسان ضعيف، مسكين عاجز، حتى لو أراد، بل بعضهم يبتلى بأمراض يعني: أحد الذين يملكون أشياء طائلة هائلة يجلس أمام الموائد ويتمنى أن يأكل، لكن فيه مرض يمنعه، فإذا جلس أمام الطعام انصرفت نفسه عنه، هكذا مدى الحياة، إلى الوفاة بهذه الطريقة، وذكرت في الكلام على من تأسرهم الأوهام الممثل الذي كان يتمنى أن يصير عنده مليون جنيه ولو جاءه مرض خطير، المهم أنه يملك مليون جنيه، فزوجته ممثلة تقول له: وماذا تستفيد إذا أصابك مرض ينغص عليك حياتك؟، قال: ليست هناك مشكلة، أعالج بجزء منه، وآكل الباقي وأستمتع به، فأصيب بمرض سرطان في الكبد، فجلس يعالجه وأنفق المليون وزيادة، وكان لا يستطيع أن يأكل كثيراً من الأشياء، ممنوع منها، ماذا استفاد؟.
فليست القضية هي جمع الدنيا، فيريح الإنسان قلبه، ويطمئن بما رزقه الله وسواء ارتاح أو ما ارتاح أصلاً هو لن يأتيه إلا ما كتب له، هذه قضية مفروغ منها، يعني: الذي ينام قرير العين، والذي ينام وهو يتآكل، هي النتيجة واحدة، تسمع بعض الناس إذا جلست معه أو سمعتهم يتحدثون، وأنت تنصت: لو أننا اشترينا قبل عشرين سنة، قبل ثلاثين سنة، لو ساهمنا في المكان الفلاني، في المنطقة الفلانية، انظر الذين ساهموا فيها الآن كيف صاروا، يا رجل حتى لو ساهمت فيها ستذهب أموالك، ناس جمعوا ثم وضعوها هنا وهناك في أسهم، وذهب كل الذي جمعوا، لن يبقى لك إلا هذا الذي هو مقدر لك فقط.
- أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، (4/ 2273)، برقم: (2958).