الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب الزهد أورد المصنف -رحمه الله-:
قوله: "نام رسول الله ﷺ على حصير" هذا يدل على تواضعه ﷺ وعلى زهده وتقلله من الدنيا وتقشفه فيها، فالحصير كما هو معلوم ليس من الفرش الوفيرة التي يجد الإنسان فيها راحة إذا جلس عليها أو نام عليها كما هو معلوم.
يقول: "وقد أثر في جنبه" لأن عيدان هذا الحصير المصفوفة إلى بعضها تؤثر في جلد الإنسان، والنبي ﷺ كما قال أنس : "لا والذي نفسي بيده ما مست يدي من حرير، ولا ديباج ألين من يد رسول الله ﷺ" أو كما قال .
فإذا كانت هذه هي يده التي يعمل بها، فما شأن سائر جسده ﷺ، قد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وِطاءً، الوطاء بمعنى الفراش الوطيء.
فقال: ما لي وللدنيا؟ لاحظ مع أن العرْض هو من الأمور اليسيرة، فراش يستريح إذا جلس أو نام عليه لا يجد أثره كما يؤثر فيه هذا الحصير.
فقال ﷺ: ما لي وللدنيا ما قالوا له: لو اتخذنا لك قصراً شامخاً، أو اتخذنا لك مركباً فارهاً، أو اتخذنا لك أثاثاً وثيراً، من الأثاث الذي تعرفون في مثل هذه الأيام، فراش وطيء.
فقال: ما لي وللدنيا؟، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها الراكب الذي استظل تحت شجرة ينام على أدنى الأشياء، هذا الراكب الذي يستظل تحت شجرة لا يعمد إلى أثاث فندقي -كما يقال- ويضعه تحت هذه الشجرة من أجل أن يستريح عليه، وإنما يضع شيئاً مؤقتاً يسيراً لا شأن له، بل لربما نام الإنسان على قطعة من القرطاس، أو على التراب، فالنبي ﷺ يمثل حاله مع الدنيا بمثل هذا الراكب الذي لا يقصد بحال من الأحوال الاستقرار تحت هذه الشجرة، فيركن إليها ويعتمل أموراً إنما يفعلها من يدوم بقاؤه ويستمر.
يشهد لهذا الحديث حديث عمر في قصة الإيلاء المشهورة لما آلى النبي ﷺ من أزواجه، حلف ألا يطأ أزواجه شهراً كاملاً، وبقي في عُلِّية في غرفة في الأعلى، في القصة المعروفة لما جاء عمر إلى المسجد ووجد الناس يبكون فسألهم فقالوا: طلق النبي ﷺ أزواجه، فاستأذن على رسول الله ﷺ مرة وثانية حتى أذن له بعد ذلك، فجاء وإذا بالنبي ﷺ على حصير قد أثر في جنبه، فبكى عمر فقال له النبي ﷺ: ما يبكيك؟ فقال: أنت في هذا وكسرى وقيصر فيما هم فيه من النعيم، فقال: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟، أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة[2] فالمقصود أن هذه حالة النبي ﷺ.
بخمسمائة عام، وذلك أن الأغنياء يحبسون للحساب، كما قال النبي ﷺ: "لن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع -ومن هذه الأربع- عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه"[2].
فهذا الإنسان الذي يملك العرض الكثير يحاسب عليه من جهة اكتسابه، من أين لك هذا؟ هذا من مساهمة، هذه المساهمة حلال أو حرام؟ هذا من معاملة، هذا من بيع، هل هذا الشيء الذي بعته أو اشتريته، هل يسوغ لك ذلك؟ هل هذا العقار حينما أجرته على هذه الجهة أو تلك هل ذلك تبرأ به ذمتك أو لا؟
ويسأل فيم أنفق هذا المال، بماذا أنفقه؟، بماذا صرفه؟ كل ذلك مما يحاسب عليه الإنسان، فالشاهد: هؤلاء يحبسون الفقراء قبل الأغنياء بخمسمائة عام، وهذا لا يعارض ما جاء من الآثار، وقد فهم ذلك جماعة من الصحابة كابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير من قوله -تبارك وتعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24].
قالوا: إنه في منتصف النهار يذهب أهل الموقف، فأهل الجنة يقيلون في الجنة مع الحور العين، وأهل النار يقيلون في النار مع الشياطين -نسأل الله العافية، فيطول ذلك عليهم في الحساب، فيكون بهذا المقدار، وإلا فيوم القيامة هو يوم واحد لكنه يوم طويل.
يقول هنا: يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام كم عمر الغنيِّ؟ يبلغ السبعين، الثمانين، التسعين، المائة ويقال: معمر، فقط دخولهم الجنة قبلهم بخمسمائة عام، فما قيمة الدنيا، وما قيمة ما تنعم الإنسان فيها، وما حصل له من العرض الكثير والنعيم؟، ولربما لم يتمتع به كثيراً هو مشغول في جمعه يعني يذهب ثلاثة أرباع الوقت ربما في جمع هذا المال والذهاب والمجيء والتعب والتفكير والشقاء، وباقي الوقت يذهب كثير منه في نوم، فما الذي يبقى له من المتع؟، هو وقت يسير لو فكر فيه الإنسان، ما يبلغ المتاع الذي يمتع به؟، لربما ما يبلغ واحدًا على عشرين في اليوم الواحد، ولذلك تجد الواحد لربما يكون أشد حرصاً على وقته وأيضاً في التضييق على نفسه، لا يعطي نفسه أجازات، لا يكتفي بدوام واحد بل يذهب مرتين إلى عمله، إذا كان هذا العمل يخصه من تجارة ونحو ذلك، لا يجلس يتمتع كما يتمتع الآخرون مع أهليهم وفي النزه ونحو ذلك، لا، بل لربما إذا أراد أن يذهب يأخذ أجازة وهذا شيء مشاهد يأخذ إجازة ممن؟ من نفسه محسوبة من كذا إلى كذا، وهذا موجود فما فائدة هذا العرَض، وهذا المال إذا كان الإنسان لا يتوسع به ولا يجد طعم اللذة والراحة والنعيم، بينما تجد الآخر معلم ابتدائية ربما يخرج الساعة الحادية عشرة، وهو قرير العين مع أهله إلى اليوم الآخر ويأكل ويشرب، والحمد لله هذا الشبر ليس محل مشكلة؛ لأنه سيوجد ما يُملأ به من ألوان الأطعمة، والحمد لله، ولكن نحن في كثير من الأحيان لا نفكر -والله المستعان- وإلا فهذه الدنيا قصيرة جدًّا في ميزان الآخرة، قليلة، مع أن الإنسان لا يدري كم يعيش فيها، لكن لو فرضنا أنه عمر إلى التسعين إلى المائة وذلك أيضاً يكون تنغيصاً في حقه.
سئمتُ تكاليفَ الحياةِ ومَن يعشْ | ثمانين حولاً لا أبا لك يسأمُ |
تصيبه السآمة، وإذا أكل تكدر، ولا يجد للنوم طمعاً ولذة وراحة، ولا يستطيع أن يزاول كثيرًا من الأشياء، وتكثر عليه الأمراض، ويشتغل بعلاجها، وتجد بدلاً من قوارير الطيب ونحو ذلك قوارير دهونات وأدوية، وإذا دخلت حجرته وجدت رائحة ذلك تفوح، ولو كان يملك أموال قارون، ما الذي يبقى عند الإنسان إذا طال عمره إن لم يكن مشتغلاً بطاعة الله والتزود للآخرة؟، فالعمارة الحقيقية هي عمارة الآخرة الباقية الخالدة التي لا يفنى نعيمها، ولا يذهب ولا يزول، ولا ينقشع شبابها ولذاتها، فأهلها لا يهرمون، ولا يموتون، ولا يمرضون ولا يصيبهم شيء من هذه الأكدار والمنغصات التي تلازمنا في هذه الحياة الدنيا صباح مساء.
أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا وإياكم قرة عين لا تنقطع، وأن يرزقنا وإياكم الجنة ووالدينا وإخواننا المسلمين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم، (4/ 578)، برقم: (2353)، وأحمد (16/ 383)، برقم: (10654).
- أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3/ 278)، برقم (1648)، والطبراني في المعجم الكبير (20/ 60)، برقم: (111)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 1221)، برقم: (2531).