الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب جديد من أبواب هذا الكتاب المبارك، وهو: "باب جواز الأخذ من غير مسألةٍ ولا تطلعٍ إليه"، ذكر هذا الباب بعد أن ذكر باباً قبله يتصل بالعفاف وتَرْكِ المسألة، وهذا الكتاب من أحسن الكتب المصنفة تأليفاً، وهو يذكر الأبواب، ويراعي فيها الارتباط المناسب، فتجد هذه الأبواب يتصل بعضها ببعض في غاية من الحُسن والمناسبة والارتباط.
ذكر في هذا الباب حديثاً واحداً، وقد تكلم هناك في الباب الذي قبله عن التعفف وعدم السؤال، والحالات التي يجوز فيها السؤال، وهي حالات معدودة ذكرها النبي ﷺ، وهنا ذكر معنى آخر، وهو: أنه يجوز للإنسان أن يأخذ من غير استشراف ولا سؤال، فذكر هذا الحديث، وهو:
قوله: "يعطيني العطاء" يعني: يعطيه العطية من المال، سواء كان ذلك من الدراهم، أو الدنانير، أو كان ذلك من غيره من الأموال كالإبل، أو الطعام، أو نحو هذا.
قال: كان يُعطيني العطاء فأقول: "أعطه من هو أفقرُ إليه مني..."، وهذا يدل على تعفف الصحابة ، وما كانوا عليه من الكمالات، وقلة الطمع في نفوسهم، هكذا رباهم النبي ﷺ، والأحاديث السابقة في الباب الذي قبله تدل على هذه التربية: أن الإنسان لا يطمع، ولا يسأل، ويكون قنوعاً متعففاً، غير مستشرف لشيء مما في أيدي الناس، فعمر يقول: "أعطه من هو أفقر إليه مني..."، ما قال: هذا مكسب، وهذه غنيمة، وهذه فرصة، بخلاف حال كثير من الناس اليوم، وما وجد من الطمع الذي جُبلت عليه نفوس الكثيرين إلا من رحم الله -تبارك وتعالى، بل لربما يحاول الإنسان الوصول إلى ذلك بألوان الحيل، يعني: حينما يقال مثلاً: هذا العطاء يكون للمستحقين ممن يتصفون بالصفات الآتية: مثلاً أرملة ليس لها زوج، هذه امرأة مطلقة، هذه امرأة مات زوجها، هذا إنسان يتيم، أو نحو ذلك، فتجد ألوان التحايلات من أجل الوصول إلى هذا، مع أنه سحت وحرام، وهكذا تجد الناس أحياناً يقال لهم: هذا العطاء يكون لمن لا يتجاوز دخله ثلاثة آلاف ريال مثلاً، فتجد الكثيرين لربما يحرص على أن يأتي بأوراق أن راتبه لا يتجاوز ثلاثة آلاف، والواقع خلاف ذلك، ولربما من يكون عنده شيء من التورع يسأل، يقول: أريد أن أفعل هذا، هل هذا يجوز؟ مع أن المسألة واضحة، لا تحتاج إلى سؤال، ومع ذلك تجد من يسأل كثيراً عن هذه القضية، وانظر أيضاً حينما يقال مثلاً: سيُعطى الناس بعض الأراضي، أو نحو هذا، ويشترط: ألا يكون هذا الإنسان قد أخذ من قبل، فانظر كيف يتحايل كثير من الناس على الوصول إلى هذا، وهكذا كثير، حتى في التجارات في الأسهم والاكتتاب، يقال: هذا الإنسان مع أفراد أسرته مثلاً، مع أنها أشياء يسيرة، وقد رأى الناس في فترة وجيزة عواقبها من الخسائر والأمور؛ لأن ذلك لم يُبنَ على أسس صحيحة أصلاً، ونفوس الناس ما كانت سليمة حينما اقتحموا في مثل هذه الأشياء، فلم يُبارك لهم فيها.
فالمقصود: أيها الأحبة أنك تجد الإنسان يتحايل على هذه الأمور الدنيئة البسيطة اليسيرة بألوان الحيل؛ وذلك من أجل أن يُحَصِّل ألوان الاكتتاب من هذا ومن هذا ومن هذا، فتارة يأخذ هذا بطاقة هذا من باب الهبة، وتارة يأخذ ذلك من باب الإجارة، وتارة يأخذ ذلك من باب الشراكة، يشترك معه على أن يكون الربح بالنصف، أو نحو هذا، وأمور يخجل الإنسان حينما يسمعها؛ لأنها أمور تافهة، يعني: ليست بالملايين، فهؤلاء لو حصلت لهم الملايين ماذا سيفعلون؟! لو حصلت لهم المليارات ماذا سيفعلون؟! ولذلك أقول أيها الأحبة: هذه آفات موجودة في النفوس تحتاج إلى معالجة، فعمر قال: "أعطه من هو أفقرُ إليه مني"، مَن منا اليوم مَن لربما يُعطَى منحة أو تأتيه منحة من الدولة فيقول: أعطوها لمن هو أفقر مني؟ بل بالعكس، فهو لا يفكر بغيره.
وأما الشاهد من الحديث: فقول النبي ﷺ: خذه، ثم وجهه فقال ﷺ: إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مُشرِفٍ، ولا سائلٍ، فخذه، فتموّلْه، بهذين القيدين، بحيث لا يلحق الإنسان الحرج.
قوله: غير مُشرِفٍ، معناها: غير مستشرف، غير متطلع، جاء للإنسان وهو لم يطلب ذلك، ولم يتطلع إليه، ولم تستشرفه نفسه، فجاءه هكذا، فيأخذه، هذا الإنسان موظف في مكان، كأستاذ في مدرسة، أو نحو ذلك، فجاءت أشياء، كما لو قيل: هذه الأراضي للمعلمين، وهو لم يطلب، ولم تستشرف نفسه ذلك مثلاً، فهذا لا غضاضة عليه، ولا حرج، أين يكون الحرج؟ في الطمع الذي يوقع الإنسان في أمور غير محمودة، فاستشراف النفوس، وتعليق القلوب يكون بمثل هذه الأشياء، فالنبي ﷺ يقول: وأنت غير مُشرِفٍ، ولا سائلٍ، أي: ما طلبت.
قوله: فخذه، فتموّلْه، يعني: يكون هذا مالاً لك تتصرف فيه كما تشاء.
قال: فإن شئت كُلْه؛ لأنه مال صحيح مباح، لا حرج فيه، ولا غضاضة.
قال: وإن شئت تصدق به، فسماه صدقة؛ لأنه مال حصل له بطريق صحيح، فإذا دفعه الإنسان على سبيل التقرب إلى الله فإنه يقع له صدقة.
قال: إن شئت تصدق به، وما لا..، يعني: ما لا يكون بهذا الطريق: من غير سؤال، ولا استشراف، أي: ما كان بخلاف ذلك: مما جاء باستشراف، أو بسؤال وطلب، قال: فلا تُتبعْه نفسَك، يعني: ما لم يأتك من هذا المال فلا تُتبعْه نفسَك، يعني: لا تستشرف، ولا تسأل، والسؤال درجة فوق الاستشراف، يعني: بعض الناس قد يتطلع لكنه لا يسأل، ومن الناس من يتطلع ويسأل، ومن الناس من يتطلع ويسأل ويحتال، حتى يصل إلى هذا الأمر.
يقول: قال سالم، وهو: ابن عبد الله بن عمر ، وهو من التابعين، توفي حدود سنة مائة وستة للهجرة، وقيل: مائة وسبعة، وقيل: مائة وثمانية.
يقول: فكان عبد الله، يعني: عبد الله بن عمر.
لا يسأل أحداً شيئاً أي: ما يطلب.
ولا يرد شيئاً أعطيه، يعني: إذا أُعطي لا يرد، "متفق عليه".
طبعاً يُراعى في هذا -كون الإنسان لا يرد شيئاً- أيضاً أن يكون المقام مما لا يلحقه به رزية أو تهمة، فقد يُعطَى الإنسان العطاء أحياناً ويكون في موقف أو في مقام سيتهمه الناس فيه، ولا يحسنون الظن، فإذا كان كذلك فينبغي للإنسان أن يدفع عن نفسه، ولا يجعل نفسه في مقام يلحقه فيه سوء ظن الآخرين، وما عدا ذلك فلا حرج عليه، والله تعالى أعلم.
الأخ يسأل عن إعطاء الزكاة:
نحن لا نتكلم عن هذه المسألة، نحن نتكلم عما يأتي من العطايا من بيت المال، من الهبات، ومن ولاة الأمور، ومن بيت مال المسلمين، ونحو ذلك، لا نتكلم عن عطاء الأشخاص، أما عطاء الأفراد فيسأل هؤلاء لماذا يعطونك؟ الأمر الأول: إما -كما ذكرت في مناسبة سابقة- أن تكون العطية يراد بها نفع المُعطَى، أعطيتك هذا القلم، فهو نفع للمعطَى، خذ هذا اكتب به، فهذا يمكن للإنسان أن يأخذه، ويمكن للإنسان أن يرده، لا يريد أن يكون لأحد فضل عليه، بخلاف ما إذا كان هذا الشيء جاء من بيت المال، فهذا أسهل من أن يكون أحد جاء وأعطاك مثلاً لباساً، أو أعطاك غيره، يعني: قد تكون النفس لا تقبل هذا، بخلاف ما يأتي من بيت المال، من غير استشراف، ولا طلب.
الأمر الثاني: أن يعطي الإنسان لغيره على سبيل الزكاة، فهذا إن كان مستحقًّا، فإن عُرف أن من عادته أنه يقبل الزكاة، فيُعطى ولا يُخبر، وإن عرف أنه يتعفف من الزكاة، ويتنزه منها؛ لأنها أوساخ الناس، فلا يقبلها، ويأنف، فيجب أن يُخبر؛ ليعرف من أين يُطعم.
وأما ما يُعطى له على سبيل التقرب إلى الله فقط، دون أن يكون ذلك زكاة فهذه هي: الصدقة.
وأما ما يُعطى للتلطف به، وتحصيل الود، والتقرب، وتحبيب النفوس، وما أشبه ذلك فهذا هو الذي يُسمى: بالهدية.
وأما ما يقدم للضيف فهذا الذي يقال له: القِرى، وهكذا، فهذا أنواع؛ ولذلك بعض الناس يسأل يقول: أنا من أهل البيت، هل يجوز لي أن أشرب من البرادة التي في الشارع مثلاً وهي صدقة؟، هل يجوز أو ما يجوز؟ هل يجوز أن آكل من الإفطار الذي في المسجد أو ما يجوز؟ هل يجوز أن آخذ من أي أحد، من صديق، أو نحو ذلك، إذا أعطاني شيئاً؟، هل آخذ أو ما آخذ؟.
نقول: هذا يختلف فهو أنواع، فأحياناً بعض الناس قد يضع طعاماً في المسجد ويقصد به: ليس مجرد الصدقة، وإنما إكرام هؤلاء الناس ممن حضروا مجلس العلم، وحضروا واعتكفوا في رمضان، ومثل ذلك الذي يدعوهم في بيته، فالذي يدعوهم في بيته يؤجر، يقول النبي ﷺ: من فطر صائماً فله كأجره[2]، فمثلاً هذا الذي من أهل البيت يقول: هل أنا ما أجيب الدعوة؟ نقول: لا، بل أجب فهذا للإكرام، هو يؤجر وله كأجرك إذا كنت صائماً ففطرك، لكن هو ليس بصدقة محضة، بخلاف الذي يُعطى للمحتاج، فالذين يضعون مثل هذا فهم أحياناً يضعونه للفقراء، فيقال: هذه صدقة، وأحياناً لا، بل يضعونه للفقراء والأغنياء، وتجدهم هم يجلسون ويأكلون، إذاً هم لم يقصدوا مجرد الصدقة، وإلا فكيف يأكلون من صدقتهم؟! فهذه الأمور تلتبس على بعض الناس أحياناً، وهذا هو التفصيل فيها، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
- أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب من أعطاه الله شيئا من غير مسألة ولا إشراف نفس: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19]، رقم: (1473)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إباحة الأخذ لمن أعطي من غير مسألة ولا إشراف، رقم: (1045).
- أخرجه الترمذي، أبواب الصوم عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في فضل من فطر صائما، رقم: (807)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه، أبواب الصيام، باب: في ثواب من فطر صائما، رقم: (1746)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 1095)، رقم: (6415).