الأربعاء 23 / جمادى الآخرة / 1446 - 25 / ديسمبر 2024
حديث «كان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده» إلى «ما أكل أحد طعاما قط..»
تاريخ النشر: ١٨ / شوّال / ١٤٢٩
التحميل: 2015
مرات الإستماع: 25980

كان داود لا يأكل إلا من عمل يده

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب "الحث على الأكل من عمل يده والتعفف به عن السؤال والتعرض للإعطاء" أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: كان داود لا يأكل إلا من عمل يده[1]، رواه البخاري.

كان دواد، داود كان ملكاً فهو مع المُلك، والمال والتمكن في الأرض ومع ذلك كان لا يأكل إلا من عمل يده، وداود ألان الله له الحديد، وعلمه صنعة الدروع، وكان يأكل من هذه الصنعة؛ ولهذا قالوا: إن داود ﷺ كان حداداً مع كونه ملكاً، فهذا يدل على فضل أكل الإنسان من عمل يده، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- صاحب "أضواء البيان" وهو من العلماء الكبار في عصرنا الحاضر كان يقول لولده: يا بني إني أخرق، يعني: لا أحسن صنعة، ولولا ذلك لم آكل إلا من عمل يدي، مع أنه كان يأخذ مرتباً من الجامعة فيأخذ منه حاجته، فإذا جاء أحد يقترض منه قال له: لا حاجة برده، ليس بقرض وإنما هو هبة، ويوزع على قرابته من العجائز وغيرهم، فهذا داود كان لا يأكل إلا من عمل يده.

كان زكريا عليه السلام نجاراً
وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: كان زكريا نجاراً[2]، رواه مسلم.

 

ما أكل أحد طعاماً قطُّ
وعن المقداد بن معد يكَرِب ، -وسبق المراد بمعد يكَرِب بعضهم يقول: إن معناه من بلغ الحد أو تجاوز الحد، وبعضهم يقول غير هذا-، عن النبي ﷺ قال: ما أكل أحد طعاماً قطُّ خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود ﷺ كان يأكل من عمل يده[1]، رواه البخاري.

ما أكل أحد طعاماً قط، يعني: لا من ميراث، ولا من هبة، ولا من قِرى وضيافة، ولا غير ذلك مما يصل إلى الإنسان.

قال: خيراً من أن يأكل من عمل يده، يعني: من مهنته والعمل الذي يزاوله بيديه، والصنعة التي يقوم بها، وهذا كما أنه يدل دلالة ظاهرة واضحة فيما نحن بصدده من الكلام على المكاسب وأن الإنسان يتعفف ولا يسأل الناس ويستغني عنهم، وفيه أيضاً فائدة أخرى وهي أن ما يأكله الإنسان من عمل يده أفضل مما يصل إليه من غيره، بل هو أفضل مما يقع فيه كثير منا حيث إننا لا نأكل من عمل يدينا، وإنما من تعليمنا للناس مثلاً، هذا يُدرس في الجامعة، وهذا يُدرس في طُلاب في المراحل التعليمية الثلاث ونحو ذلك، فهذا يجوز لا إشكال فيه، وهذا المصدر في الرزق حلال بلا مرية، لكن هل هذا مثل ما يزاوله الإنسان من عمل يديه وصنعته، أن لا يأخذ على تعليمه شيئاً، أيهما خير؟.

لا شك أن الذي يُعلم الناس مجاناً أفضل من الذي يعلم بمقابل ولولا ذلك لم يُعلِّم، فكون الإنسان يعلم الناس ويبذل العلم للناس مجاناً، ويأكل من صنعة أفضل، الشيخ الألباني -رحمه الله- من علماء العصر كان يشتغل بتصليح الساعات، وكان محله الذي يصلح فيه الساعات ممتلئًا بالكتب، فكان يشتغل بالكتابة والتحقيق والتأليف والقراءة والاطلاع والبحث في محل صغير يصلح فيه الساعات، يقتات من هذا.

فأقول: مهما استطاع الإنسان أن يستغني وأن يأكل من عمل يده فهذا هو المطلوب، وأسوأ شيء هو أن يعمد الإنسان إلى الآخرين فيسأل منهم أن يعينوه أو يعطوه أو نحو ذلك.

فائدة أخرى في هذا الموضوع تدل عليها هذه الأحاديث دلالة ظاهرة أيضاً وهي ما بُلي به الكثيرون في عصرنا هذا حيث يأنفون من الصنائع، هذا داود ﷺ كان حداداً، وزكريا كان نجاراً، وقيل: إن نوحاً ﷺ كان نجاراً، قيل: إنه أول من اشتغل بالنجارة وإن الذي علمه إياها هو جبريل ﷺ، وأما داود ﷺ فالله علمه كيف يصنع بنص القرآن الدروع السابغات، قال: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ:11]، وهي المسامير بحيث لا تكون ضيقة فينكسر، ولا تكون واسعة فيحصل بسبب ذلك الخلل ولا تؤدي هذه الدروع المطلوب منها، وإنما يكون فيها مرونة من غير اتساع زائد في مقدار موضع المسمار ومن غير ضيق زائد، علّمه الله هذا وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ، فهذه أعمال شريفة زاولها الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- واليوم الناس صاروا يأنفون منها، بل الرجل الذي يزاول هذه المهن في مجتمعنا كالحدادة والنجارة ونحو ذلك لربما يُنظر إليه بشيء من الانتقاص فلا يُزوّج، ويرون أن هذا من الأمور الوضيعة الدنيئة، وهذا غلط، بل إن الكسب من هذه الأشياء أفضل من أولئك الذين يكتسبون من اللعب، إما ببيع الألعاب مع أن هذا يجوز إذا ما كانت اللعبة محرمة، أو بتأجيرها، الذين يؤجرون الألعاب من مدن ملاهٍ وغير ذلك هذا الكسب فيه لهو بل هو متسبب عن لهو قد يورث غفلة، فليس من المكاسب الشريفة، لا أقول: إنه حرام، لا، هو بحسب نوع الألعاب لكن أقول: الحلال منه هل هو من المكاسب الطيبة؟

الجواب: لا، ليس كما ينبغي، فالمكاسب على درجات وهكذا فيما يتعلق ببيع الزهور مثلاً، بيع الزهور يجوز ما قلنا: إنه حرام، لكن هل هو من المكاسب الشريفة؟

الجواب: لا؛ لأن بيع هذه الزهور هو في الواقع إضاعة للمال، فهؤلاء الذين يشترون الزهور ما تلبث أن تذبل بأيديهم ثم بعد ذلك تُرمى، فهي ليست من حاجات الناس الأساسية لا في مطعمهم ولا مشربهم ولا أثاثهم ولا غير ذلك إنما هو شيء زائد عن قدر الحاجة، اشترى زهرة أو ورودًا بخمسمائة ريال وما هي إلا أيام حتى تيبس ثم بعد ذلك تُلقى، فليس هذا من المكاسب الشريفة التي يستشرف لها الإنسان أو يطلبها أو يسعى إليها أو نحو ذلك، بل لا يُفرح به مع أنه حلال، فأقول: للأسف أن الأعراف الاجتماعية أحياناً تحول بين الناس وبين الكسب، ولذلك انظر إلى جموع من الشباب ممن يتخرجون من الجامعات أو ممن لا يتخرجون منها يبقون في بيوتهم الكل منهم يريد أن يكون له مكتب منذ البداية منذ أن يتخرج، يقال له: اتفضل تعال نضعك رئيسًا أو مديرًا، وهو لربما لا يحسن أن يسرح باثنتين من الماعز لو سُرح بها، ولا يريد الجميع إلا أن يكون بهذه المثابة، والله خلق الخلق خلقاً متفاوتاً، هناك خطأ أن الذين يزاولون المهن يُجلبون من وراء البحار من أجل أن يعملوا هذه الأعمال، وبقية المجتمع يأنفون من ذلك ولا يقومون به على اختلاف أحوالهم ومراتبهم، هذا خطأ وهو نوع من الغلط في التربية، ولذلك أقول: هذا حالَ بين كثيرين وبين الكسب، وكل بلد لهم عرفهم، في أفريقيا يوجد في بعض البلدان مجاعة تطحنهم وهذا شيء رأيته، البلد الصيود فيها بلا مبالغة تستطيع أن تنالها باليد، الغزالان الظباء بأشكالها وأنواعها وأحجامها وفصائلها تستطيع باليد ولو معك عصا، بل رأيت بعض من يصيدون يضعون مثل شبك الطائرة الطويل، ثم يذهب ويحدّ الصيود؛ لأنها قريبة جدًّا منهم، والمواضع التي فيها الصيود -أعزكم الله- مثل حظيرة الماعز، الأرض من كثرة ما فيها من آثار الظباء أعني فضلات هذه الظباء -أعزكم الله، فهي كثيرة جدًّا ومع ذلك يمتنعون من صيدها وهم في مجاعة، ويقولون: هذه الذي يصيدها يقال له: بُون، ما معنى بُون؟ بون يعني مثل عندنا في أعرفنا أن الإنسان هذا طبقته الاجتماعية ليس كما ينبغي ولا يُزوَّج؛ لأنه يصيد، هذا يعني أن عنده حطًّا في المقدار إذا كان يصيد، وهم في مجاعة!، نقول لهم: إذاً أنتم ماذا تأكلون حضرتكم؟ نأكل الإبل، ويبقون في مجاعة والصيود في متناول اليد تطوف ببيوتهم في الليل، ومع ذلك لا يصيدون، لماذا؟ لأنه يحكمهم هذا العرف الاجتماعي الفاسد، وهكذا في كل بلد تجد أعرافًا وأشياء تعوقهم وتعرقلهم من السير في الأرض، وطلب الرزق وابتغاء فضل الله .

أسأل الله أن يغنينا وإياكم بفضله عمن سواه، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. رواه البخاري، كتاب البيوع، باب كسب الرجل وعمله بيده، برقم (2072).

مواد ذات صلة