الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب "الكرم والجود والإنفاق في وجوه الخير ثقة بالله تعالى" أورد المصنف -رحمه الله-:
قوله ﷺ: لا حسد إلا في اثنتين، المقصود بالحسد هنا هو الغبطة، وتُجُوِّز في التعبير فُعبر عنه بالحسد، وذلك أن الجامع المشترك بين الغبطة والحسد هو أن لكل واحد منهما تمني النعمة إلا أن الحسد فيه تمني زوال النعمة عن المحسود، ومن صوره -أيضًا- أن يتمنى زوال النعمة ولو لم تحصل له -نسأل الله العافية- فهذا أسوأ أنواع الحسد، فالحسد حرام لا يجوز، والغبطة أمر لا إشكال فيه، فالنبي ﷺ هنا يقول: لا حسد، أي: لا غبطة إلا في اثنتين، يعني: لا يوجد ما يُغبط عليه الإنسان ويتمناه الإنسان من أحوال الناس وما أعطاهم الله إياه إلا في صفتين وخصلتين:
الأولى: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، الناس يحصل عندهم الحسد كثيراً بسبب عرض الدنيا وما أوتيه بعض إخوانهم، والنبي ﷺ في هذا الحديث دلل على أن ذلك مما لا ينبغي أن تطمح إليه النفوس وتتطلع إليه أن يؤتى الإنسان كثيراً من عرض الدنيا، إنما الشيء الذي ينبغي أن يُغبط عليه الإنسان هو ذلك الذي أوتي الدنيا أوتي المال فسلطه على هلكته في الحق، يعني: في وجوه البر والمعروف والإنفاق في سبيل الله -تبارك وتعالى، بخلاف من سلطه على هلكته في الفساد والشر أو الإسراف أو التضييع أو على شهواته أو على أموره المباحة، فإن مثل هذا لا يُغبط على ذلك، سلطه على هلكته في الحق.
قوله: ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها، "حكمة" فسرها بعض أهل العلم كالحافظ ابن حجر بالقرآن، وهذا التفسير يوجد ما يشهد له، وذلك أنه جاء بنحو هذا الحديث من حديث ابن عمر -ا- في الصحيحين عن النبي ﷺ: لا حسد إلا في اثنتين، فذكر الرجل الذي آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، والرجل الذي آتاه الله مالاً فسلطه في هلكته في الحق[2]، فذكر الأمرين لكنه ذكر القرآن بدلاً من الحكمة، وهكذا أيضاً في حديث أبي هريرة في البخاري، فقد ذكر النبي ﷺ: لا حسد إلا في اثنتين، وذكر الأول قال: ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيمكن أن يفسِّر ذلك قولَه ﷺ هنا ورجل آتاه الله الحكمة، الحكمة القرآن، والحكمة إذا تتبعتَها في مواردها في النصوص أحياناً تأتي ويراد بها النبوة، وأحياناً تأتي ويراد بها القرآن، وأحياناً تأتي ويراد بها السنة لاسيما إذا ذُكرت مع القرآن وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [النساء:113]، فالحكمة هي السنة، وأحياناً تأتي بمعنى الفقه في الدين، وأصلها في كلام العرب من المنع وتدور مواردها على ذلك؛ ولذلك يقال: هي الإصابة في القول والرأي والعمل، الإصابة، ولذلك هي صفة تمنع صاحبها من الشطط والخطل في الرأي، والقول والعمل، فتكون آراؤه وأقواله وأفعاله واقعة على وجه الصواب، ومدار ذلك جميعاً يرتبط بالعلم فحينما يقول النبي ﷺ: ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها، والروايات الأخرى آتاه الله القرآن، كون الإنسان يؤتى القرآن فقط من غير أن يفقه معانيه كما هو حال الكثير ممن يحفظه اليوم هذا لا يستطيع أن يقضي به -أن يحكم به- بين الناس، "فهو يقضي بها ويعلمها"، ولكن الذين كانوا يأخذون القرآن في عهد النبي ﷺ ويقال لهم: القراء هم علماء؛ لأنهم ما كانوا يجاوزون خمس آيات أو عشر آيات حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، والنبي ﷺ يقول: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله[3]، فهو الأعلم، وكان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جلّ أو جدّ في أعينهم[4]، بمعنى تكون له منزلة ومكانة، والسبب أن هذه السور تتضمن كثيراً من الأحكام، فذلك يرجع إلى العلم، قال: ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها، ورأس هذا العلم القرآن، فآتاه الله القرآن فهو يعرف معانيه وأحكامه ويقضي بذلك ويعلّمه، فهذا الأمر الثاني الذي يُغبط عليه الإنسان، فصارت الغبطة على أمرين:
الأول: وهو العرَض من الدنيا إذا كان الإنسان يُنفق في وجوه البر سلطه على هلكته في الحق.
والثاني هو: العلم بالحدود، أو العلم بالقرآن، أو العلم بما أنزل الله على رسوله ﷺ والفقه في الدين، فهذا هو الأمر الثاني الذي يُغبط عليه الإنسان، أمّا ما عدا ذلك من جمال الصورة أو النسب أو كثرة الأولاد أو كثرة ما عنده من الدور والعقار والقصور وغير ذلك مما يتغابط عليه الناس أو يتحاسد عليه الناس فإن هذا أمر ينبغي أن لا تتعلق به النفوس، فمن أراد الشيء الذي شهد النبي ﷺ بأن له قيمة وله منزلة وأنه شيء يُغبط عليه المرء فهو إما أن يكون صاحب مال فينفق، وإما أن يكون صاحب علم أو يتعلم العلوم الشرعية وينتفع، وينتفع به الآخرون، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- رواه البخاري، كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة، برقم (73)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن، ويعلمه، وفضل من تعلم حكمة من فقه، أو غيره فعمل بها وعلمها، برقم (816).
- رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول النبي ﷺ: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل يقول: لو أوتيت مثل ما أوتي هذا فعلت كما يفعل، برقم (7529)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن، ويعلمه، وفضل من تعلم حكمة من فقه، أو غيره فعمل بها وعلمها، برقم (815).
- رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة، برقم (673).
- رواه أحمد في المسند، برقم (12215)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".