الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب الكرم والجود والإنفاق في وجوه الخير أورد المصنف -رحمه الله-:
هذا الحديث يجلي حقيقة يغفل عنها كثير من الناس، النبي ﷺ يوجه هذا السؤال الذي يفتح بصيرة الإنسان على حقيقة غائبة عنه في كثير من الأحيان أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟.
مال وارثه، من هم الورثة؟ الورثة الأب، الأم أحياناً الجد، الأبناء، البنات، أحياناً أبناء الأبناء، وكذلك الزوجة، الإخوة، الأخوات إذا لم يوجد من يحجبهم، وأحياناً العم وأحياناً أقرب، أحياناً أبناء العمومة أو الأقرب من العصبات، فالمقصود أن هؤلاء الآن لو قيل للإنسان: ما هو الأحب إليك المال الذي هو لك أو المال الذي يكون لزوجتك أو لولدك أو لأبيك أو لجدك أو لعمك أو لابن عمك؟ كل إنسان سيقول: المال الذي لي، أنا لا أريد أن أحتاج حتى لولدي، أليس كذلك؟ المال الذي تحت يدي أتصرف فيه أحبُّ إليّ، ولا أريد أن يصل بي الأمر إلى أن أحتاج أن أقول لولدي: أعطني، كل إنسان ماله أحب إليه من مال وارثه، فهؤلاء هم الورثة، فالنبي ﷺ يقول: أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟، طبعاً الجواب: لا أحد؛ ولهذا قالوا: "يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه"، هل بالإمكان أن يقول إنسان: والله أنا مال زوجتي أحب إليّ من مالي؟، كيف هذا؟، لو أخذتَ منه بقي في نفسها فهي إما أن تسكت على إغماض، وإما أن تعترض، وإما أن تحسب ذلك عليك بحيث لو حصلت مشكلة فيما بعد قالت: أخذ مني، وأخذ مني، وأخذ مني ثم بعد ذلك تزوج عليّ، وإذا كان البيت لها بدأت تتكلم: أنا البيت لي وأستطيع أن أخرجه من البيت، كما نسمع إذا وقعت مشكلة بينها وبينه: هو الذي يخرج أنا في بيتي، فالإنسان لا شك أن ماله أحب إليه من مال وارثه، حتى لو كان عندها سيارة هي التي اشترتها تبدأ تحسب، وإذا أراد أن يعرف هذا إذا كان عنده زوجة ثانية فطلب من السائق أن يوصل تلك الزوجة بهذه السيارة بدأت تسأل وتستفتي هل يحق له شرعاً أن يوصل زوجته الأخرى بسيارتي التي أنا اشتريتها من فلوسي؟ طبعاً هذه صيغة النساء، فكل إنسان لا شك أن ماله أحب إليه من مال وارثه، فالزوجة ترث، فمالك أحب إليك من مالها، "فقالوا: ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال: فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر، رواه البخاري.
ماله ما قدم، بمعنى كما في الحديث الذي سبق يقول ابن آدم: مالي، مالي، وليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت[2]، مالك هو هذا، يعني: لو فرضنا أن إنسانًا الآن يملك مليارًا -ويوجد من يملك مليارات- كم يأكل من هذا المليار في حياته؟ الآن لو فرضنا أن عمره بلغ الستين وعنده مليار كم حتى يموت بعد سنتين أو سنة أو أقل أو عشر أو عشرين أو ثلاثين، كم سيأكل من هذا المليار؟ كم سيلبس؟ بمائة ألف، مائتي ألف، ثلاثمائة ألف، مليون، طيب والباقي؟ ليس له، متى يكون له؟ إذا تصدق، فليس لك من مالك إلا هذا، الأشياء التي تلبسها تنتهي أو تتصدق بها أو تأكلها، والباقي أنت خازن له ضعه في الخزنة، ضعه في الحساب ولا تقترب منه، وإذا أردت أن تقربه لازم تحسب ألف حساب كم خرج منه من ريال وكذا، لماذا؟ لأنك مدخر له، سيأتي ناس بعدك -إن شاء الله- يتمتعون به، فهذا المال قد يأتي أحد هؤلاء الورثة ويتصدق منه فيؤجر ولا تؤجر أنت، قد يدخل الجنة بهذا المال يبذله هنا وهنا وما تعب فيه ويرتفع أعلى الدرجات في الجنة وأنت ممسك لهذا المال حارس أمين عليه ثم بعد ذلك يُفضي إلى غيرك فيتصرفون به، قد يُصرف في شهوات محرمة يعبثون به فيما حرم الله ، وقد يُصرف في شهوات مباحة يتوسعون، ولذلك تجد بعض الناس أحياناً قد لا يجد ذلك العطاء من والده، أو الزوجة من زوجها أو نحو ذلك وهو يملك الكثير فإذا مات وصل إليهم هذا المال فبدءوا يتوسعون ويتصرفون بعدما كانوا في شيء من الضيق وقد لا يدعون له.
فالمقصود أن هذا الحديث يُبين حقيقة مال الإنسان: ليس لنا من أموالنا إلا ما كان في هذه الوجوه الثلاثة والباقي نحن حراس له، حارس، تملك كل هذه الأراضي الخالية في هذا الحي، لا بأس، لكن أبقها، لا تلمسها، اتركها إلى متى؟ هي لك، اسمٌ أنها لك، ثم يموت الإنسان ويخرج بخرقة بيضاء وبعد ذلك هذه الأراضي أين تذهب؟ تذهب للورثة، هذا يأخذ أرضًا، وهذا يأخذ عشرًا، كلٌّ بحسبه ويتمتعون بهذه الأموال وأنت تُحاسب عليها، لكن لو تصدقت فإنك تكون قد قدمتها أمامك للدار التي تنتقل إليها فتجد ذلك في قبرك وفي آخرتك، لكنه أمر يغفل عنه الناس كثيراً.
ثم أورد الحديث الذي بعده:
شق تمرة يعني: نصف تمرة، بمعنى قدِّم ولو كان شيئاً يسيراً، اتقوا النار، اجعل بينك وبينها وقاية بالبذل والعطاء والإنفاق والإحسان ولو قلّ ذلك ولو بشق تمرة، فكيف بما هو أعظم من شق التمرة؟!، فيحتاج الإنسان إلى أن يشتري ما عند الله من دار الكرامة والجنة فإن سلعة الله غالية، فالإنسان إذا أراد أن يشتري شيئاً في الدنيا فإن قيمته تكون بحسبه، وأنتم تلاحظون هذا في كل السلع سواء كان هذا من الأشياء المأكولة أو كان من المساكن العقارات أو كان ذلك من السلع والأثاث أو الثياب كلما زاد قليلاً كلما ارتفع السعر، كلما زادت فيه شيء من المواصفات ارتفع السعر، هذا القماش أفضل بقليل سعره كذا، وهذا أفضل منه سعره كذا، وزد في السعر يزيد في الجودة، هذه الأرض على شارعين سعرها كذا، هذه على شارع واحد كذا، هذه شرقية سعرها كذا، هذه جنوبية سعرها كذا، كل شيء له سعره، الجنة، القصور، الزوجات الحسان، النعيم المقيم، أنهار من اللبن وأنهار العسل، هذا له ثمن، ما ثمنه؟ نريده مجاناً؟! نستخسر عليه أشياء قليلة نبذلها من نفقة أو عمل صالح نتقرب به إلى الله وهو الذي أنعم علينا أصلا بهذه النعم من الأموال وعافية الأبدان وغير ذلك.
نسأل الله أن يعيننا وإياكم على أنفسنا، وأن يبصرنا بما ينتظرنا، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب اتقوا النار ولو بشق تمرة والقليل من الصدقة، برقم (1417)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار، برقم (1016).