الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب الإيثار والمواساة أورد المصنف -رحمه الله-:
حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة[1]، متفق عليه.
وفي رواية لمسلم عن جابر عن النبي ﷺ قال: طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية[2].
هذا الحديث تعلّقه بهذا الباب باب الإيثار والمواساة: أن الإنسان حينما يكون عنده شيء من الطعام أولاً ينبغي أن يعلم أن طعام الواحد يكفي الاثنين، وأن طعام الاثنين يكفي الأربعة، فإذا علم ذلك فإنه لا يضن بما في يده من جهة فيمسك، ويقول: ليس عندي ما يكفي، عندي طعام لي فقط.
هذا الطعام الذي لك يكفي لآخر، هذه من ناحية، ومن ناحية أخرى أن الإنسان لا يتقالّ ما يبذله ويقدمه، فإن ذلك يبارك الله فيه، فيواسي غيره من المحتاجين بما يستطيع، ولو كان ذلك قليلاً، فهذا الحديث يبعث النفوس على الرضا والطمأنينة بما يحصل للإنسان، والقناعة، وأن يكتفي الإنسان بالقليل، النفوس فيها شره، وقد لا يسدها شيء، ولكن يمكن أن يكتفي الإنسان بقليل من الطعام، ويكفيه ذلك، ويغنيه، هذا أمر مشاهد.
من الناحية الطبية سمعت أحد الأطباء -في ندوة اشتركت معه فيها في رمضان، ذكر معلومة مهمة ومفيدة في نظري، يقول: الإنسان إذا كان يشعر بالجوع -لاسيما الصائم يشعر بالجوع، فإذا أكل فإن الدماغ يرسل إشارات إلى الجوف، مؤدى هذه الإشارات الاكتفاء بما وصل، أنه وصل حد الكفاية، انتهى الجوع، وُجد طعام، وصل طعام، يقول: الذي يحصل أن الإنسان يكون جائعا وهو صائم، أو حينما لا يكون صائماً حينما يكون جائعاً، فإذا جلس يأكل بعد أذان المغرب يأكل التمر، ويأكل أشياء ثانية معه كثيرة جدًّا، المخ لا يكون قد أرسل هذه الإشارات؛ لأن هذا الشيء سريع، صار الأكل متتابعاً، فيأكل الإنسان أكثر من حاجته، فما الذي يحصل؟ يحصل له شيء من الترهل، والتخمة، ويأكل كثيراً فيجهد ويتعب؛ ولذلك تجد كثيرين يقولون: أنا كنت قبل الإفطار نشيطًا، والآن بعد الإفطار أشعر بخمول، وتعب، وكسل، ووهن، ما أدري ما الذي حصل لي.
الذي حصل أنه أكل أكثر من طاقته، كان المفروض أن يتدرج، بينما تجد كثيرًا من الناس يأبى أن يُترك الباقي بعد الصلاة، يقول لأهله: لا تجعلون الطعام منقسماً في رمضان ما قبل الصلاة شيء قليل، وما بعد الصلاة يقول: لأني إذا رجعت بعد الصلاة ما آكل، ما أشتهي شيئًا، هذه ظاهرة صحيحة، وهي صحية، لماذا؟ لأن المخ يكون قد أرسل الإشارات أنه حصل المقصود، فإذا رجع بعد الصلاة، يقول: الحمد لله، لكن هو يريد ماذا؟ يريد أن يعبّ من هذه الأسطال، والأرطال، قبل ما يرسل المخ الإشارات هذه، وهو لا يشعر، فتمتلئ المعدة بالطعام، ويحصل له تخمة، فيحصل له ضعف، ووهن، وتعب، وفتور، وخمول، هذا التفسير الطبي لما يحصل لنا، ويتساءل عنه البعض، لماذا يجد الإنسان في نفسه هذا الشعور؟.
فالمقصود أن الإنسان يمكن أن يكتفي بالقليل، ولذلك تجد الإنسان يأكل تمرات، ونحو ذلك، وهذا مشاهد، أنا رأيت الناس في الحرم يتكلمون في رمضان، من معتكفين، وغيرهم، يقول: سبحان الله! نحن هنا نشرب من ماء زمزم، ونأكل تمرات، ونجلس إلى صلاة التراويح، وهي طويلة، وليس عندنا مشكلة، يقول: وهناك في بيوتنا، كثير يقولون هذا، يقولون: نجلس أثناء الإفطار، وبعد الإفطار مباشرة، والمسجد عند البيت، ونأكل كثيراً، وهنا ما هو السبب؟ هم يظنون أن المسألة مجرد بركة، طبعاً لا يخلو ماء زمزم مبارك، ولكن أيضاً هي هذه الناحية، وهي أن الإنسان إذا أكل هذا الأكل القليل، إذا انتظر فإن المخ يكون قد أرسل هذه الإشارات، ثم بعد ذلك يحصل عند الإنسان الاكتفاء، ولذلك أيضاً النفس بحسب ما تعلق به، انظروا للإنسان حينما يكون صائماً بعد الظهر وهو في العمل أو في أي مكان عادي ما عنده مشكلة، يمكن أن يجلس في العمل إلى أذان العصر، حتى لو كان عمله إلى الساعة الواحدة أو الثانية، أو ما عنده وقت مقيد به، يجلس إلى العصر، وما عنده أي مشكلة، ويجيء إلى المسجد مباشرة وهو مرتاح، لكن إذا كان مفطراً، ونفسه تتطلع للأكل وللطعام، تجده مجرد ما تجيء الساعة الواحدة، أو نحو ذلك، تبدأ ترتعش أطرافه، يشعر بحرارة الجوع، أليس كذلك؟ يقول: لو كنت صائماً ماذا سأصنع؟ نقول: حينما كنتَ صائماً كانت النفس منفطمة عن شهواتها، وصادة عن تعلقاتها بهذا الطعام، ما فكرتْ في هذا الشيء، وبالتالي ما أرسلت الإشارات، ولا حصل رعشة، ولا صار انتظار وتطلع.
تجد الإنسان -أعزكم الله- حينما يشعر بالحصر يحتاج إلى الخلاء، لربما يكون صابراً، لكن تجد الولد أو الطفل أو غيره لربما إذا وصل إلى باب دورة المياه، هنا يعني وصل إلى حد النهاية في الصبر، لو قلت له: ارجع مرة ثانية، تعال اركب السيارة هناك مشوار ثانٍ، ما يستطيع، في مكانه، لماذا؟ لأن النفس قد تبرمجت على هذا خلاص.
شاهد اللاعب يعلب مثل الحصان في الملعب من طوله إلى عرضه، وإذا جاءت صفارة نهاية المباراة طاح، لو تقول له: امشِ ثلاث خطوات ما يستطيع، لماذا؟ لأنه مبرمج على أن يلعب هذه المدة، في كل لعبة هو يلعب مدة محددة، فإذا وصلت هذه خلاص انتهى.
تجد الإنسان يريد أن يسافر إلى الرياض، إذا وصل إلى الرياض خلاص، تقول له: تواصل مكة؟ قال: أوه، لكن حينما يريد أن يذهب إلى مكة إذا وصل إلى الرياض تكون نفسه متوثبة.
فأقول: هكذا في الطعام، وهكذا في أمور كثيرة، ولذلك انظروا المائدة الضخمة التي توضع أمامنا، انظر إلى ما يأكله الإنسان منها محل يده، حينما ينتهي، لو وضع له هذا فقط في صحن، وما في مائدة أمامه، وما في أي شيء، فقط هذا، يقال: تفضل هذا طعامك، هي نفس النتيجة، لكن النفس ذات شره، وتطمح، وتتطلع إلى الكثرة ونحو ذلك، ولو اكتفى ببعض هذا الطعام كما يحصل تجد الإنسان يأكل أحياناً لقمة أو لقمتين لشغل، أو من أجل إتاحة الفرصة لآخرين ليجلسوا لضيق المكان، أو غير ذلك تمشي الأمور جيدة، ولا يشعر بجوع، ولا مشكلة.
فطعام الواحد يكفي الاثنين، النبي ﷺ علمنا هذا من أجل المواساة والإيثار، وليحصل للنفس شيء من القناعة، وتطمئن النفس وترضى بما يحصل لها، وأيضاً في البذل من أجل ألا يتقالّ الإنسان ما يعطيه للآخرين ويقول: لماذا نعطيهم هذا وهو طعام قليل؟، طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية.
وإذا كان الناس بهذه المثابة إذاً فمعناه نصف المجتمع يمكن أن يكتفي بطعام النصف، يعني: في الأماكن التي يوجد فيها حاجة، وجوع، وقلة في الأطعمة، يقال: طعام النصف يكفي للآخرين، ولكن النفوس ذات شره، أحياناً الإنسان يشعر أنه ما سيكفيه، فلو سألت الصائم بعد الظهر الساعة الثانية: ماذا تريد في الإفطار؟
لا تسأله؛ لأنه سيتعبك في الطلبات والرغبات وكذا، لكن اسأله بعدما يفطر قل له: ماذا تريد أن نحضر لك الآن؟، ماذا تطلب؟ يقول: ما في البال شيء، ما أريد شيئًا، لكن في الظهر ما يوجد شيء إلا يطلبه من المأكولات والمشروبات.
النفس هي النفس، والمعدة هي المعدة، حجمها ما يزيد على شبر ونصف تقريباً بالكثير، إذا كانت ممتلئة، هذا الشبر والنصف ممكن أن يملأ ربعه فقط، وتمشي الأمور، بخبز، بأي شيء تمشي الأمور، ولا يحتاج إلى تطلع النفس، ولا تعلقها بهذه الأمور، ولا إذلال، ولا ذهاب ماء وجه.
- أخرجه البخاري، كتاب الأطعمة، باب: طعام الواحد يكفي الاثنين (7/ 71)، رقم: (5392)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب فضيلة المواساة في الطعام القليل، وأن طعام الاثنين يكفي الثلاثة ونحو ذلك (3/ 1630)، رقم: (2058).
- أخرجه مسلم، كتاب الأشربة، باب فضيلة المواساة في الطعام القليل، وأن طعام الاثنين يكفي الثلاثة ونحو ذلك (3/ 1630)، رقم: (2059).