الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب الإيثار والمواساة أورد المصنف -رحمه الله-:
حديث أبي سعيد الخدري قال: بينما نحن في سفر مع النبي ﷺ إذ جاء رجل على راحلة له فجعل يصرف بصره يميناً وشمالاً، فقال رسول الله ﷺ: من كان معه فضل ظهر فليَعُدْ به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له، فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل، رواه مسلم.
فقوله: إذ جاء رجل على راحلة له، فجعل يصرف بصره يميناً وشمالاً، بمعنى: أن هذا الرجل جلس يتلفت يبحث عمن يطعمه، أو يعينه، أو يؤويه، أو يكسوه، أو نحو ذلك، بحسب حاجته.
جلس يتلفت، ينتظر أحداً، لعله يحسن إليه، فهو رجل محتاج، فقال النبي ﷺ: من كان له فضل ظهر، فليعد به على من لا ظهر له، من عنده مركوب زائد فليدفعه لمن لا مركوب له.
ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له، عنده طعام زائد عن حاجته يعطيه من يحتاجه، وقل مثل ذلك في أصناف المال، من كان عنده فضل ثياب فليعد بها على من لا ثوب له، وهكذا.
فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل، وهذا يدل على طلب الشارع لمواساة المحتاجين، ولو أن الأمة طبقت مثل هذا لم يعد فيها فقير محتاج.
في الحديث الذي قبله في الليلة قبل الماضية: طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية[1]، هذا في القناعة والتقلل، والاكتفاء بالقليل، وهنا في هذا الحديث الزيادة التي لا يحتاج إليها الإنسان يدفعها لمن يحتاج إليها.
والبردة كساء فيه خطوط أو كساء مربع، الشاهد جاءت بهذه البردة منسوجة، "فقالت: نسجتها بيدي لأكسوكها، فأخذها النبي ﷺ" فهي هدية، وكان من هديه ﷺ أنه يقبل الهدية، "أخذها ﷺ محتاجاً إليها"، وهذا القيد يدل على أن النبي ﷺ ما أخذها وهي زائدة عن حاجته، أو أخذها ليعطيها لأحد آخر، وإنما أخذها محتاجاً إليها.
"فخرج إلينا وإنها لإزاره"، يعني: لبسها مباشرة ﷺ فاتزر بها.
"فقال فلان" يعني: أحد الصحابة، بعضهم يقول: هو سعد بن أبي وقاص، وبعضهم يقول: هو عبدالرحمن بن عوف، وبعضهم يقول غير هذا، الشاهد "فقال فلان" وهنا لم يذكر اسمه؛ لأن هذا الصنيع منه لم يكن كما ينبغي في نظر أصحاب النبي ﷺ الذين حضروا ذلك المجلس، النبي ﷺ أخذها محتاجاً إليها.
"فقال: اكسنيها ما أحسنها"، والنبي ﷺ ما يرد سائلاً، فقال: نعم، فجلس النبي ﷺ في المجلس" الذي خرج إلى أصحابه فيه.
ثم رجع يعني: إلى بيته، "فطواها" لما ذهب إلى بيته أخذ هذه وطواها "ثم أرسل بها إليه، فقال له القوم: ما أحسنتَ، لبسها النبي ﷺ محتاجاً إليها ثم سألتَه، وعلمت أنه لا يرد سائلاً، فقال: إني والله ما سألته لألبسها إنما سألته لتكون كفني، قال سهل: فكانت كفنه"[1]، رواه البخاري.
يعني: أن هذا الرجل يقول: أنا ما طلبتها من أجل أن أستأثر بها على رسول الله ﷺ، ولا لحاجة إليها، وقد علمت أن النبي ﷺ كان بحاجة لها، إنما طلبتها من أجل أن تكون كفني.
قال سهل: فكانت كفنه، هكذا كانت أخلاقه ﷺ، وهكذا كان إيثاره ومواساته.
ودعونا نرجع إلى أنفسنا بعد هذا، نحن الآن لو جاء أحد، وقال: أنا أريد هذا الرداء الذي تلبسه، أو البشت الذي عليك، أو الجاكيت الذي تلبسه، أعطني إياه، ماذا ستقول؟ يعني: نتعلم، والعلم يقتضي العمل، ماذا سنقول؟ هل وصلنا إلى هذه المراتب الرفيعة العالية، ونحن نسمع هذا عن رسول الله ﷺ ولنا فيه أسوة، والله أمرنا بالاقتداء به، هل سنفعل؟
بل كما قلت لكم من قبل: إن الواحد منا إذا أراد أن يُخرج فضلة من طعام أو غيره لربما ينتقي الرديء جدًّا، وما يمكن أن ينتفع به في وجه من الوجوه في يومٍ ما قد يبقيه، أما إذا وجد الجيد فيقول: لا، هذا ما يُعطَى، وعرفتم أن كل إنسان يكون تحت ظل صدقته يوم القيامة، فالإنسان إنما يقدم لنفسه، وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [البقرة:272]، دعك من قضية أن هذا ما يصلح، هذا ما يستحق، هذا فيه، هذا كذا، هذه الأضغان التي تخرج حينما يُدعى الناس إلى الصدقة ونحو ذلك هذه لا تجني لنا خيراً، وإن مما يكبِّر النفس، ويوسع الصدر، ويشرحه البذل والعطاء، ومجاهدة النفس، فإذا جاهدها انبلج الصدر، واتسع وانشرح.
وأنا أقول لأولئك الذي يعانون من الضيق، ويعانون من الكآبة، ويعانون من الوحشة والحزن في نفوسهم، متضايق، طفشان: تصدق وبنفسك، لا تعطِ أحدًا يذهب به، أنت اذهب للفقير الذي يكنس الشارع اشتر له ملابس وأعطها إياه، ولبسها إياه، أو قل له: البسها، وانظر أثر هذا على صدرك، وجرب، تقول: لا، فلان ما يستحق، فلان ليس بأهل، فلان كذا، انظر كيف يضيق الصدر، يضيق جدًّا حتى ينقبض انقباضاً شديداً، ويزداد حرجاً وضيقاً، فهذه أمور معلومة.
فالشاهد قال: إنما سألته لتكون كفني، قال سهل: فكانت كفنه، رواه البخاري.
هل يؤخذ من هذا الحديث -في مسألة خارجة عن أصل الموضوع- أن الإنسان يشرع له أن يعد الكفن كما يفعله بعض العوام، يجهز الكفن؟
هذا كرهه بعض أهل العلم، باعتبار أن فيه ادخارًا لهذا الكفن، وسيحاسب على اكتسابه، وسيحاسب عليه، فقال: لم تحصل الحاجة بعدُ لهذا، لكن ليست هذه هي القضية، نحن بيوتنا مليئة من الملابس، إنما القضية هل هذا من هدي السلف؟.
هل كان الواحد منهم يعد كفنًا؟ كانوا أزهد منا في الدنيا، وأكثر إقبالاً على الآخرة، وما نقل عنهم أن الواحد منهم كان يعد كفناً وحنوطاً، ونحو ذلك، ويقول لأولاده: إذا مت كفنوني بهذا، وهذا الحنوط.
زُهدُك في الدنيا هذا، وقرب الأجل عندك، تصدق، وابذل، واجلس على مصلاك، واذكر الله، وخل عنك الهجهجة وراء الدنيا ليل نهار، هذا هو الزهد في الدنيا، اطلبها من طريقها الصحيح، ودع عنك المشتبهات، هذا الزهد، أما التكالب على المشتبه والحرام، والليل والنهار سعي وراء هذه الدنيا، لا أهل يرونه، ولا يجلسون معه، ثم يعتبر الزهد وقصر الأمل بإعداد حنوط وكفن، البلدية تتكفل لك بهذا، ما تحتاج.
القضية أن السلف ما كان من هديهم -وهم أزهد الناس- أن يعد الواحد منهم كفنه.
طيب هل يحتج بهذا الحديث؟
الجواب: لا؛ لأن هذا الصحابي ما كان هو ولا الصحابة يعدون أكفانهم، إنما اتخذ ذلك؛ لأنه لامس جلد رسول الله ﷺ، فهذا فيه مزية، النبي ﷺ أعطى لابن عبد الله بن أبي بن سلول أعطاه قميصه ﷺ من أجل أن يُكفَّن به أبوه رأس المنافقين، مما يلي جسده.
فيُتبرك بآثار رسول الله ﷺ من عرقه، ولباسه، فضلته، وما أشبه ذلك، أما غير النبي ﷺ فلا يتبرك به، لا يتبرك بآثار الصالحين.
فهذا الحديث ليس فيه أنه اشترى كفناً ووضعه، وإنما أراد ذلك الذي مس جلد رسول الله ﷺ.
والله تعالى أعلم.
- أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب من استعد الكفن في زمن النبي ﷺ فلم ينكر عليه (2/ 78)، رقم: (1277).