- قوله تعالى: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى...}
- قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى...}
- قوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ...}
- قوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ...}
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
في باب فضل الغنيّ الشاكر صدّر المؤلف -رحمه الله- هذا الباب بجملة من الآيات، يقول الله -تبارك وتعالى: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:5-7]
وقال: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:17-21].
تحدثنا فيما سبق من مناسبات عن بعض هذه الآيات، فقوله -تبارك وتعالى: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى [الليل:5]، يعني: تصدق، وأنفق مع تقوى الله حيث حفظ حدوده، وترك ما حرمه الله عليه، فسلك الصراط المستقيم.
وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى الحسنى هنا يمكن أن يكون المراد به الثواب والجزاء الذي وعد الله به المتصدقين والمحسنين، ويمكن أن يكون المراد به الجنة، فهي جزاؤهم ومآلهم، ولا منافاة بين هذه الأقوال، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:7] معنى ذلك أن الله ييسره لطريق الهدى والإيمان والنجاة، وهذه الآية نافعة في باب القدر، الذين يسألون ويقولون: طالما أن الله قد كتب مقادير الخلق ففيم العمل؟.
الله يقول: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5 -10].
فالإنسان يعمل، فإذا عمل وأقبل على الله بصدق فإن الله يسدده، ويوفقه، ويهديه، وينقله من هداية إلى هداية.
وهكذا في قوله: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى [الليل:17]، من أهل العلم بل كثير من السلف يقولون: إن المقصود بـ"الأتقى" هنا أن أفعل التفضيل على بابه، يعني: الأكثر تقوى، والأكثر تقوى بعد النبي ﷺ هو أبو بكر الصديق ، فقالوا: هذه في أبي بكر.
والأقرب -والله تعالى أعلم- أن قوله: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، أن هذا لا يراد به أفعل التفضيل، أو معنى التفضيل، وإنما مطلق الاتصاف، يعني: من اتصف بالتقوى، سيجنبها التقيّ.
ولا شك أن أبا بكر من أوْلَى الداخلين في هذه الآية، وأفعل التفضيل تستعمل كثيراً ويراد بها مطلق الاتصاف، وليس معنى التفضيل، وذكرت في بعض المناسبات شاهداً على هذا، وهو قول الشاعر:
تمنى رجالٌ أنْ أموتَ وإنْ أمتْ | فتلك سبيلٌ لستُ فيها بأوحدِ |
يعني: لست فيها بواحد.
وصَفَ هذا الأتقى الذي سيجنب النار فقال: الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى [الليل:18]، ولا يكون ذلك على سبيل الرياء والسمعة، أو المكافئة على عطية مضت، أو إحسان جرى أو نحو ذلك، وإنما قال: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:19-21]، بمعنى أنه كما قال الله : إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا [الإنسان:9].
ولهذا كان بعض السلف إذا أعطى أحداً صدقة، أو أحسن إليه، فقال ذاك: جزاك الله خيراً، قال: بل أنت جزاك الله خيراً، من أجل أن لا يكون له أدنى إحسان، أو مقابلة لهذا التصدق والبر الذي أراد به وجه الله ، حتى قول جزاك الله خيرًا لا يريد أن يقوله ذلك له.
وكثير من الناس يكبر ذلك في نفسه، يقال: أنا أعطيته، وأنا أعنته، وأنا قدمت له، ثم بعد ذلك لم أرَ منه شيئاً مما يقابل هذا الإحسان، أنت إنما تفعل ذلك تريد به وجه الله فلا تنتظر من هذا جزاء، ولا عطية، ولا مقابلة، وهذا ليس في الصدقات فقط، بل في كل الأعمال، يعني: هذا الإنسان قد يعود مريضاً، فيقول: أنا عدته، وما عادني حينما مرضت، يُشيع جنازة، فيقول: أنا شيعت جنازته، وما شيع جنازتي، أنت إنما تفعل هذا من أجل أن تحصّل ما عند الله من الثواب، وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى [لليل: 19-21].
وقال: إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ [البقرة:271]، فهذا أمر حسن طيب، بمعنى: أن الإنسان إذا أظهرها، فإن هذا الإظهار إن لم تختل معه نية الإنسان فإن هذه صدقة مقبولة.
قال: وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:271].
بمعنى: أن الإخفاء أدعى إلى الإخلاص، وأعظم في أجر الإنسان، والمال شيء محبب إلى النفوس، فقد يخرجه الإنسان بلون من المجاهدة، ولكنه يريد أن يعرف الناس ذلك، يريد أن يستعيض من هذا المال الذي خرج بثناء الناس، ومدحهم، وذكرهم له، فلا يبقى له شيء من الأجر، وقد يُظهر ذلك أمام الناس، ولا يقصد به الرياء، فهذا يكون صدقة صحيحة مقبولة، ولكنه قد جعله في ديوان العلانية، ولا شك أن بقاء العمل في ديوان السر أفضل من نقله إلى ديوان العلانية، حينما يتحدث الإنسان عنه، أو نحو ذلك وإن كان مخلصاً، إلا في بعض الحالات، فمن أهل العلم من قال: إن الزكاة الأفضل أن تخرج علانية؛ إظهاراً لهذه الشريعة العظيمة، والشعيرة الكبيرة من شعائر وشرائع الدين.
وقالوا: من أجل أن لا يُساء الظن به، وقالوا أيضاً: من أجل أن هذا شيء واجب، فلا فضل له، فلا يحتاج إلى إخفائه، فينفي التهمة عن نفسه، ويتتابع الناس، ويقتدون به أيضاً في هذا الواجب، فلا تموت شرائع الإسلام.
ومن أهل العلم من قال: إن المقام يختلف، فمن كان يُقتدى به، أو يخشى أن يسيء الناس الظن به، أو نحو هذا -يعرفون أن عنده مالا- فإنه يخرج ذلك علانية.
وأما الصدقات فالأصل فيها الإسرار، الأفضل فيها الإسرار، ولكن قد يكون الإعلان أفضل، متى؟ لو دُعي إلى الصدقة، فجاء رجل فأظهر صدقته ليتتابع الناس، فاقتدى الآخرون به، فيكون كما قال النبي ﷺ: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة[1].
قال: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران:92].
وقد تحدثت أيضاً عن هذه الآية في مناسبات سابقة لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ، لن تنال الدرجات العالية في الإيمان حتى تنفق مما تحب، أن ينظر الإنسان ماذا يحب من المال وأصنافه فيتصدق بذلك لوجه الله .
والصحابة لما سمعوا هذا كان ناتجه وأثره فيهم أنهم تصدقوا، وأخرجوا من أفضل وأطيب أموالهم، فأبو طلحة تعرفون أنه نظر في أفضل ماله، وكان من أكثر أهل المدينة مالاً، فكانت بئر بَيْرُحاء، وكانت قبالة المسجد، وهي في الناحية الآن الشمالية داخلة الآن في المسجد في التوسعة، فإذا خرجت من المكتبة، مكتبة عمر في مكانها القديم، فهي على يمينك مباشرة داخل المسجد الآن، تلك البئر والمزرعة فيها ماء طيب، وكان النبي ﷺ يشرب منها، فقال: هي صدقة لله لما سمع هذه الآية.
وهكذا أيضاً ابن عمر كانت له جارية يحبها محبة شديدة، وهي في غاية الجمال، وكانت أفضل ما عنده، فجعلها حرة لوجه الله .
وعمر أيضاً كانت عنده جارية من سبي جَلولاء وجعلها حرة لوجه الله -تبارك وتعالى، وزيد بن حارثة كان له فرس جيد يقال له: سَبَل، فجعله في سبيل الله، وهكذا كانوا ينظرون في أفضل أموالهم فيخرجونه؛ لأن الله يقول: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، فهذا معلق بهذا الشرط، ومُغيّا بهذه الغاية، فمن أراد أن يبلغ الدرجات العالية فعليه أن يمتثل ما ذكره الله -تبارك وتعالى.
أسأل الله أن يلطف بإخواننا المستضعفين في فلسطين، اللهم انصرهم، اللهم انصرهم، اللهم انصرهم، اللهم انصرهم نصراً مؤزرًا، اللهم أيدهم وقوِّ ضعفهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، جياع فأطعمهم، وحفاة فحملهم، اللهم ارحم قتلاهم، واشفِ مرضاهم، وداوِ جرحاهم، اللهم عليك باليهود فإنهم لا يعجزونك، اللهم عليك باليهود فإنهم لا يعجزونك، اللهم عليك باليهود فإنهم لا يعجزونك، اللهم فرق شملهم، وشتت جمعهم، واجعل الدائرة عليهم، اللهم رد كيدهم في نحورهم، اللهم عليك باليهود والمنافقين ومن شايعهم، اللهم عليك بهم أجمعين، فإنهم لا يعجزونك، اللهم اشفِ صدور قوم مؤمنين، اللهم حقٌّ عليك ما ارتفع شيء إلا وضعته، اللهم ضعهم، اللهم ضعهم، اللهم ضعهم، اللهم عليك بهم، اللهم عليك بهم، اللهم عليك بهم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار (2/ 704)، رقم: (1017).