الأربعاء 23 / جمادى الآخرة / 1446 - 25 / ديسمبر 2024
حديث «لا حسد إلا في اثنتين..» إلى "ذهب أهل الدثور.."
تاريخ النشر: ٠٢ / محرّم / ١٤٣٠
التحميل: 1495
مرات الإستماع: 2330

لا حسد إلا في اثنتين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب فضل الغنيّ الشاكر أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها[1]، متفق عليه.

وقد مضى الكلام على هذا الحديث في باب الكرم والجود، وعرفنا أن المراد بقوله ﷺ: لا حسد إلا في اثنتين، يعني: الغبطة، وليس الحسد المذموم الذي يكون بمعنى تمني زوال النعمة عمن حصلت له.

لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، بمعنى: أنه أنفقه في وجوه البر، والنفع، وما يكون فيه مرضاة لله ، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها، يعني: العلم، وبعضهم فسره بالقرآن، والمعنى متقارب.

لا حسد إلا في اثنتين
ثم ذكر حديث عبد الله بن عمر رضى الله عنهما عن النبي ﷺ قال: لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار..[2].

الذين فسروا الحكمة هناك بالقرآن فسروها بهذا الحديث، آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار.

يقوم به، يعني: يصلي به، ويدخل في ذلك أيضاً العمل، يعمل بمقتضاه، ويشتغل بقراءته، فلا يكون هاجراً له.

ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار، أمّا الذي أوتي القرآن لكنه لا يقرأ القرآن، أو لا يعمل به، أو لا يقوم الليل، ولا ينتفع بهذا الذي حفظه فمثل هذا لا يُغبط.

وكذلك أيضاً الذي آتاه الله مالاً وهو لا ينفقه في وجوه البر، لم يسلطه على هلكته في الحق، فإن مثل هذا يكون حسابه كبيرًا، فإن الله يحاسبه على هذا المال الكثير، من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، فيطول حسابه، وقد مضى الكلام على هذه المعاني.

ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى

ثم أورد حديث أبي هريرة وهو الحديث الأخير في هذا الباب:

عن أبي هريرة  قال رسول الله ﷺ: أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله ﷺ فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العُلى والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ فقالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نُعتق، فقال رسول الله ﷺ: أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثلما صنعتم؟، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون وتكبرون وتحمدون، دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة، فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله ﷺ فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله؟ فقال رسول الله ﷺ: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء[1].

هذا الحديث نص صريح في المعنى الذي أورده المصنف -رحمه الله- من أجله في هذا الباب، وذلك أن هؤلاء الأغنياء جاءت صفتهم التي أقرها النبي ﷺ قال: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق.

فهؤلاء جمعوا بين العبادات البدنية، والعبادات المالية، فلم يكن ذلك الغنى سبباً لتضييع حدود الله والغفلة عن عبادته وطاعته، فهم يصلون كما يصلي الفقراء، ويصومون كما يصوم الفقراء، ولكنهم يزيدون على غيرهم بعبادة مالية، وهي أنهم يتصدقون، ويعتقون، وينفقون هذا المال في وجوه البر، فهذا حالهم، فهؤلاء من الشاكرين، هذا هو الغني الشاكر.

وهذا الحديث أيضاً يصلح في الباب الذي قبله، وهو التنافس في البر والتقوى، فهم يتنافسون، الفقراء يجتهدون في طاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ فإذا رأوا أحداً يتقدم عليهم، أو يفضلهم في عمل فإن ذلك يحركهم إلى المزيد من العمل الصالح، والجد والاجتهاد، فبينهم منافسة، أما نحن فبماذا نتنافس أيها الأحبة؟ بماذا نتغابط؟ التنافس الذي يحصل بل الحسد الذي يحصل بين الناس إنما هو في عرض الدنيا فلان عنده كذا، وأنا عندي كذا، فلان حصّل كذا، وأنا عندي كذا، فلان يركب كذا، وأنا أركب كذا، فهذا الذي توجهت إليه أنظار الناس، وتعلقت به قلوبهم إلا من رحم الله -تبارك وتعالى، أما أصحاب النبي ﷺ فكان شأنهم يختلف عن ذلك.

"ذهب أهل الدثور بالدرجات العُلى"، (أهل الدثور) يعني: الغنى، والعرض الكثير، والنعيم المقيم؛ لأن هذه الأعمال البدنية التي استووا فيها مع الفقراء، والأعمال المالية التي زادوا فيها على غيرهم من الفقراء، جعلتهم يصلون إلى الدرجات العُلى، والنعيم المقيم، فالنبي ﷺ حينما قالوا له ذلك قال: أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم؟، يعني: من أهل الصدقة والعمل الصالح، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثلما صنعتم؟، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة.

هذا عمل يسير، فلا يعجز عنه أحد، الغني والفقير كلهم يستطيع أن يعمل ذلك، ولكن الموفق من وفقه الله .

ومن الناس من يعجز عن ذلك، بل يعجز عما هو أدنى من ذلك، والمحروم من حُرم من طاعة ربه -تبارك وتعالى، فهذا أمر متاح، لكل قد يقول الإنسان: لو كان عندي مال لفعلت وتصدقت، أو يقول: سأكتسب وأتّجر، من أجل أن يكون عندي تجارة وأموال، من أجل أن أفعل وأتصدق وأبذل، فإذا حصل له شيء من ذلك فقد لا يفعل، ولا يتصدق، والمال محبب إلى النفوس، لكن ما الذي يمنع الإنسان من أن يذكر ربه -تبارك وتعالى- بهذا الذكر اليسير الذي يدرك به من سبقه، ويسبق به من بعده، ولا يأتي أحد بمثل عمله إلا من عمل ذلك؟.

فهناك أعمال كثيرة يستطيع أن يعملها الجميع، ولكن الإنسان يحتاج إلى مجاهدة هذه النفس، فقال: تسبحون، إلى آخره.

"فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله ﷺ"، يعني: في مرة أخرى، "فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله"، فقال رسول الله ﷺ: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، متفق عليه.

ذلك فضل الله، يعني: التوفيق للعمل الصالح، العمل في طاعة الله ، الاجتهاد في مرضاته، ذلك فضل الله يوفق إليه من شاء، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، هذا هو الأقرب في تفسيره، والله تعالى أعلم.

فالشاهد، انظروا إلى حال هؤلاء الأغنياء، لما سمعوا بهذا الذكر عملوا به، فرجع هؤلاء الفقراء إلى النبي ﷺ، فكان همهم واشتغالهم هو في التنافس في البر والتقوى، التنافس في طاعة المعبود ، ولم يكن التنافس في هذا العرض الزائل الذي يضمحل عما قليل.

والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته (1/ 416)، رقم: (595).

مواد ذات صلة