الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي هذه الليلة سأكمل الحديث عن هذا الباب الشريف -وهو باب فضل الغنيّ الشاكر- من أقوال السلف وما كان لهم من أحوال، وغداً سأتحدث مجدداً -بإذن الله تعالى- عما يجري في غزة، وسيكون الحديث في نحو نصف ساعة، وسأذكر نحو عشر وقفات مع هذا الحدث.
كان محمد بن المنكدر -رحمه الله- وهو من أئمة التابعين وعلمائهم، وعبادهم- يقول: نعم العون على تقوى الله الغِنى[1].
وهذا إذا وُفق الإنسان بحيث أخذ المال من حله، وصرفه في وجوهه، وأما إذا كانت الأخرى: يأخذ الإنسان المال من وجوه يحاسب عليها، ويلحقه بها تبعة، ثم إذا حصل له هذا المال أنفقه بمساخط الله أو أن هذا الإنسان أمسكه عما يجب أن ينفقه فيه، فإن هذا الإنسان لا خير له في المال، بل يكون تبعة عليه ووبالا.
وكل ما ورد عن السلف في هذا المعنى فإنما يحمل على ما ذكرت، وقليل هم أولئك الذين ينطبق عليهم هذا الوصف، يعني: أنه إذا حصل له المال وُفق، فإن الغالب خلاف ذلك، والله يقول: كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]، لهذا من غير الصواب فيما أظن -والله تعالى أعلم- أن الإنسان يحرص على الاتّجار والغنى، من أجل أن يقول: أتصدق، لا بأس أن الإنسان يكتسب، ويسعى، ويشتغل بالتجارة، لا إشكال، لكن من الناس من يجتهد في ذلك اجتهاداً زائداً، بدعوى أنه يريد أن يحصّل الثراء من أجل أن ينفق.
فأقول: ليس الأمر كما يظن، فإن المال إذا زاد في يده ازدادت اليد انقباضا، وإمساكاً، وحرصاً، إلا من رحم الله ، ولهذا قال الله : وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16]، كأنه حصر الفلاح بهم، فَأُوْلَئِكَ وجاء بضمير الفصل: "هم"، ثم قال هُمُ الْمُفْلِحُونَ، والفصل بين طرفي الجملة بضمير الفصل كهذا كأنه يشعر بالحصر، لا مفلح إلا هؤلاء، إضافة إلى الإشارة بالبعيد: "أولئك".
قيل لأبي الزناد -رحمه الله: لم تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا؟ فقال: وإنها وإن أدنتني منها فقد صانتني عنها، ما معنى صانتني عنها؟ بمعنى أن الإنسان لا يبذل دينه من أجل أن يحصّل شيئًا يعني إذا كان في غنى، مستغنٍ ما يحتاج أن يذهب من أجل أن يتملق لفلان أو يبذل دينه لفلان من أجل أن يعطيه وأن يحسن إليه أو نحو ذلك، أن ينافق ليحصّل شيئًا من الدنيا، نعم تصونه هذه الأموال، تصونه عن هذه الدنيا والمدنسات، هذا هو المراد.
ويقول أبو إسحاق السبيعي -رحمه الله: كانوا يرون السعة -يعني: الغنى- عونًا على الدين[2].
بمعنى أنه كما يقال: كاد الفقر أن يكون كفراً، بمعنى أن الإنسان إذا افتقر فقراً زائداً، الفقر المدقع -النبي ﷺ استعاذ من الفقر- فإن ذلك لربما شغله عما هو بصدده من طاعة الله ، هو يسعى ليس له همٌّ، يعني: يتوجه التفكير، يُختصر تفكير الإنسان كيف يحصل هذه اللقمة، بكل طاقاته الفكرية، والذهن، والذكاء، والمهارات تختصر، كيف يحصل هذه اللقمة؟
الإنسان ما خلق لهذا، هذه اللقمة من أجل أن يعيش، هو يعيش من أجل ماذا؟ من أجل أن يعبد الله ، فإذا كان عنده ما يغنيه، ويكفيه فإنه يتفرغ لما هو بصدده من عبادة الله وطاعته.
والذهن طاقة -أيها الأحبة- إذا استُنزف بجانب من الجوانب لم يتفرغ لغيره، ولهذا كان حذيفة يقول: اللهم إني أعوذ بك من تفرق القلب، فسئل عن هذا كيف يكون تفرق القلب؟ قال: أن يكون له في كل واد مال. فهو مشغول مشوش دائماً في هذه الأموال.
ويقول سفيان الثوري: كان المال فيما مضى يُكره، فأما اليوم فهو ترس المؤمن[3]، يعني: كان فيما مضى يكره حينما كانت الحياة في أيام السلف الصالح من الصحابة كانوا في عافية، وكان الناس من الأمراء، وقادة الجند، والأجناد، وعموم الناس كانوا على حالة مرضية، فاشتغالهم بطاعة الله والتقلل من الدنيا هو الذي لربما يكون أرجح وأفضل، هذا بالنسبة للأفراد.
يقول: وأما اليوم فهو ترس المؤمن، لماذا في أيامه هو؟ لأن الأحوال تبدلت وتغيرت، فلربما يفتن الإنسان فيدخل في شيء من أمر أهل الدنيا فيبذل دينه.
وكما ذكرت في مناسبة سابقة أن الذين يحرصون على الأموال، ويسعون إليها: منهم من يسعى إليها بطريق الدنيا، طريق دنيوي معروف مثل التجارة والبيع والشراء، أو أنواع الاكتساب، منها ما هو محرم كالرُّشى، والاختلاس، والسرقة، وما إلى ذلك هذه أمور مكشوفة، وهي معاصٍ ويحاسبه الله عليها أو يغفر له.
أو بطريق مباح كالبيع والشراء، ونحو هذا، هؤلاء الذين يحصلونها بالطرق المعهودة، من حلال، أو من حرام، لكن الطريق الثاني هو الخطير، وأعظم وأشد، هو الذي يسعى إلى الدنيا بالدين، باللحية، يطلب هذه الدنيا، ويحرص عليها.
أخبار السلف كثيرة في هذا، وقد تكلمنا في الأعمال القلبية في الأعمال على الورع، بعض هؤلاء كان إذا جاء إلى السوق يشتري، فقال أحد ممن عرفه في السوق: هذا فلان استوصِ به خيراً، يعني: نزِّل له في السعر، كان يغضب، ولا يشتري منه، ويقول: إنما نشتري بدراهمنا، ولا نشتري بديننا.
أنا أشتري بمالي، ما أتيت أشتري بديني، ما يقبل أن يُراعَى، أو يخفض له لأنه فلان.
ابن سيرين -مثلاً وأمثال هؤلاء من عبّاد السلف- كان يغضب؛ لأنه لدينه قُدم وراعاه هذا البائع، أو نحو ذلك.
فكيف بالذي يحصّلها من هنا وهناك بسبب تنازلات يقدمها، بسبب فتاوى رخيصة يبذلها، يكذب على الله يقول على الله غير الحق؟!.
أو كان لا يطلب المال، وإنما يطلب منصباً، أو يطلب وجاهة، أو شهرة، أو نحو ذلك، حتى لربما عرف الرجل بشذوذه، ومخالفاته المنكرة.
ودائماً إذا أردت أن تعرف رأيه فابحث عن القوم أين هم من الثقات، وتجده في الطرف الثاني دائماً، هذا قد لا يريد مالاً، لكنه يريد أن يُعرف، وأن يذكر، وأن يطير الناس في ذكره، ويتناقلون كلامه، حديث المجالس، نسأل الله العافية.
فهذا طلب للدنيا، فالدنيا أيضاً منها ما يكون مالاً، ومنها ما يكون جاهاً ومنزلة وحظوة، وهذا أكبر من المال؛ لأن الناس إنما يبذلون المال من أجل تحصيل المحمدة والمنزلة في قلوب الناس، أليس كذلك؟
العرب كانوا يبذلون الأموال والكرم، وما أشبه ذلك من أجل تحصيل المحامد، فالمال يبذل من أجل هذه الشهوات الخفية.
فالشاهد هذا كلام الثوري. ونظر رجلٌ إليه وفي يده دنانير، فقال: يا أبا عبد الله، تمسك هذه الدنانير؟ يعني: أنت إمام في الحديث -أي سفيان الثوري، وإمام في الزهد، وإمام في الفقه، من أزهد الناس، تمسك هذه الدنانير، وهو جالس، يعني: كأنه فرحٌ بها، تمسك هذه الدنانير؟
قال: اسكت، فلولاها لتمندل بنا الملوك[4]. ما معنى تمندل؟ يعني: جعلونا مناديل، نعم تمندل بنا الملوك ويقول: أنا بهذه الدنانير أستغني ولا حاجة لي بأحد.
وخرج الليث بن سعد يوماً فقوموا ثيابه، الليث بن سعد من العلماء الذين كانوا يملكون، يعني: الله وسع عليهم، وكان ينفق يعطي العلماء ويصلهم.
فقوموا ثيابه، ودابته، وخاتمه، وما عليه بثمانية عشر ألف درهم إلى عشرين ألف درهم[5]. وهذا كثير.
فمن العلماء من كان يلبس لباساً متميزاً، ويركب مراكب متميزة، كان بعض السلف يفعل هذا، والنبي ﷺ خطب وعليه حلتان، ما رؤي شيء أجمل منه ﷺ في تلك الحلة.
فمن أهل العلم من يرى هذا بسبب يعود إلى مصلحة الدين، مثلاً ابن الباقلاني، العالم الذي كان يناظر الطوائف، ويناظر النصارى، وهو أشعري أيضاً كان يلبس لباساً فاخراً، ويركب مراكب فاخرة، يقول: إن ذلك لغيظِ أعداء الإسلام.
يعني: إذا رأوا العالم المسلم بأبهة يقع لهم هيبة، ولذلك عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة، ورأى جامع دمشق، وقد رصعت جدرانه، وسواريه بالفُسيفساء، والأحجار الكريمة، والنفائس، وغطي، بذلت فيه أموال طائلة، فقال: اخلعوا ذلك جمعياً، يقول: هذه الأشياء خذوها، اجعلوها جدرانًا عادية.
فقالوا له: يا أمير المؤمنين، هذه بذلت فيها أموال المسلمين وتعنّى فيها تجارهم من بلاد الروم، يعني يأتون بهذه الأحجار، وبينما هم كذلك إذا جاء رجل من عظماء أهل دينهم -من الروم- رجل من عندهم من كبار رجال الدين، فلما رأى مسجد دمشق بتلك الأبهة قال: إن مسجداً كهذا، أو إن من بنى هذا، أو إن قوماً بنوا هذا، أو لهم هذا، إنه لدين عظيم.
فلما بلغ ذلك عمر بن عبد العزيز، قال: لا أبقيه إلا غيظاً لأعداء الله، أو لأعداء الإسلام، فأمر بتركه، وسُتر بستور، يعني: بأقمشة عن هذه الزخارف، والزينة.
فهذا وجه يراه بعض أهل العلم أن العالم قد يلبس اللباس الرفيع، وكذا من أجل أن يكون هذا أعظم للهيبة في نفوس الخلق، والإسلام يقدَّم للناس بصورة أعظم مهابة، ومنزلة وإلى آخره، هذا وجه، وله حظ من النظر.
ومن أهل العلم من يرى الأحاديث التي ودرت، يعني العمل بها، مثل: البذاذة من الإيمان[6].
والمقصود بالبذاذة: اللباس الذي لا يكون رفيعاً، والنبي ﷺ يقول: من ترك رفيع اللباس وهو يقدر عليه كساه الله من حلل الإيمان من أيها شاء[7].
فهذا الذي عليه غالب أهل العلم، لكن لم يتفقوا على هذا، لكن الشيء الذي أظن أنه لا يحسن، ولا يليق، أن يكون العالم بصورة يشنؤه الناس، وتزدريه الأعين، هذا غير مقبول.
يعني: أحياناً العالم تراه يظهر بصورة من اللباس، والرثاثة، تراه غير مقبول، والناس ينظرون إلى اللباس، ما كل الناس يقيس: خذ بنصل السيف، واترك غمده، هم كما قال ابن القيم -رحمه الله:
والناسُ أكثرُهم فأهل ظواهرٍ | تبدو لهم ليسوا بأهل معانِ |
فهم القشورُ وبالقشورِ قوامهُمْ | واللبُّ حظُّ خلاصةِ الإنسانِ[8] |
كثير من الناس ينظر إلى الشكل، بل بعض البوادي، وبعض الأماكن إذا هو لابس البشت وكذا فهو الشيخ، وإذا جاء بدون بشت هذا ما هو بشيخ.
وتوجد بعض الأمثلة، والمضحكات التي وقعت فعلاً لبعض العلماء الكبار، عندنا الشيخ عبدالله بن حميد، وأمثال هؤلاء، والشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- وأمثالهم من العلماء الكبار، لربما كان العالم جالسًا، وما هو بلابس بشته في المجلس، وفيه ناس، والذي يصب القهوة جالس أحياناً في صدر المجلس، وهذا عالم في مجلسه، لكن لم يجلس ذلك اليوم في صدر المجلس، فيأتي رجل من البادية، ويسأل يا شيخ، يوجه السؤال إلى الذي يصب، فيتكلم الشيخ؛ لأنه لا يراه وهو يوجه السؤال فيجيب، فذاك قال: أنا ما أسألك يا عميان، أنا أسأل الشيخ، يعني: حصلت هذه، فكثير من الناس ينظر إلى الشكل، والهيئة.
فهناك قدر لابد منه، أما المبالغة في مظاهر الدنيا فأظن أن هذا لا يليق بالعالم، ولا يصح أن يستوي مع أهل الدنيا في هذه الأمور، الاعتدال في الأمور والتوسط هو المطلوب، لا تشنؤه، ولا تزدريه الأعين؛ لرثاثته وسوء هيئته، ونحو ذلك، ولا يكون أيضاً ممن يترفع كثيراً في اللباس، ويشتري أفخر الملابس، ويركب أفخر المراكب، ويتقصد هذا، ويسكن القصور الفارهة، هذا قد لا يليق؛ لأن العالم يفترض أن يكون أعرف الناس بحقيقة الدنيا، وأحرص الناس على الآخرة.
ينبغي أن يظهر هذا في سلوكه، وفي حاله، وهو يدعو الناس للزهد، فينبغي أن يظهر هذا فيه، لكن من ظهر بصورة أخرى فكما قلت: له وجه باعتبار أن من أهل العلم من كان يرى أن هذا فيه مصلحة، وكذا مثل ما يقال في الأشياء الثانية مثل المكاتب، يعني العالم مثلاً في مكتبه، أو في المكان الذي يجلس فيه، لو كان هذا المكتب، أو المكان ضخمًا فالناس يهابون.
وإذا كان المكتب أثاثه قديم إذا دخلوا يستخفون أحياناً، فإذا كانت مكاتب القضاة أشبه بمكاتب السكرتارية، أو مكاتب ليس فيها شيء يبعث على المهابة، القاضي يُطلب فيه المهابة، إذا دخل الناس يهابونه، ويكون له منزلة من أجل أن ينفُذ الحكم، فإذا دخلوا ورأوا أشياء تزدريها الأعين من أثاث قديم مهترئ، ونحو ذلك فهذا لا يليق، إذا وُجد شيء إذا رأوه هابوه فهذا قد يكون أنفع، والله تعالى أعلم.
وفرقٌ بين ما يكون عامًّا وبين ما يختص بالإنسان.
بقيت أشياء، ما انتهيتُ، لكن بما أني وعدتكم أتحدث عن غزة غداً سأتحدث عن غزة -إن شاء الله- ثم أكمل الحديث عن هذا بعد غد بإذن الله.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- سير أعلام النبلاء (5/ 355).
- المصدر السابق (5/ 396).
- المصدر السابق (7/ 241).
- المصدر السابق.
- المصدر السابق (8/ 157).
- أخرجه أبو داود، كتاب الترجل، (4/ 75)، رقم: (4161)، وابن ماجه، كتاب الزهد، (2/ 1379)، رقم: (4118).
- أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب من كظم غيظا (4/ 248)، رقم: (4778)، بلفظ: من ترك لبس ثوب جمال وهو يقدر عليه كساه الله حلة الكرامة.
- نونية ابن القيم = الكافية الشافية ص: (15).