الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب فضل الغنيّ الشاكر ذكرت جملة من أقوال السلف ومن مواقفهم، وأحوالهم، واليوم أذكر بقية ما جاء في هذا الباب.
دخل منصور بن عمار على الليث بن سعد خلوةً، فأخرج من تحته كيساً فيه ألف دينار، وقال: يا أبا السري لا تُعلم بها ابني فتهون عليه[1].
أعطاه ألف دينار، وطلب منه ألا يعلم بذلك ابنه من أجل ألا ينظر هذا الابن إلى هذا العالم بشيء من الانتقاص أنه أخذ من غيره أو أخذ من أبيه أو أنه احتاج.
ويقول الفضيل بن عياض لابن المبارك، وابن المبارك، كان من العلماء التجار، وهذا نادر، الفضيل من الزهاد العباد، وهو من أبعد الناس عن التجارة.
قال لابن المبارك: أنت تأمرنا بالزهد، والتقلل، والبلغة، ونراك تأتي بالبضائع كيف ذا؟ يقول: هذه البضائع تأتي من المشرق إلى مكة، قال: يا أبا علي، إنما أفعل ذا لأصون وجهي، وأكرم عرضي، وأستعين به على طاعة ربي، قال: يا ابن المبارك ما أحسن ذا إن تم ذا[2].
وفي بعض المرات اعتذر ابن المبارك -رحمه الله- بأنه يتفقد طلاب الحديث، وأهل الحديث، فيعطيهم ويكفيهم، فكان غنيًّا شاكراً، وكان رأس ماله نحو أربعمائة ألف دينار، وحدث بعض من رأى سُفرته أنها حُملت على عجلة -يعني تُجر، وذكر بعضهم أنه رأى بعيرين محملين دجاجًا مشويًّا لسفرة ابن المبارك يحضر بها أهل العلم طلاب الحديث.
فكان يكرمهم غاية الإكرام، وكان يوضع الشواء على سفرته، ويوضع فيها الفالوذج، وهو أكل يعرفه أهل المشرق إلى اليوم، ولربما جيء بشيء يسمى بالفالوذج الآن يأتي به الحجاج معهم، وعلى كل حال هو من أنفس الطعام.
فقيل له في ذلك فقال: إني دفعت إلى وكيلي ألف دينار، وأمرته أن يوسع علينا[3].
قيل لعيسى بن يونس: كيف فَضَلك ابن المبارك ولم يكن بأسنّ منكم؟ يعني: كيف صار أفضل منكم؟ قال: كان يقْدُم ومعه الغلمان من خرسان، والبزة الحسنة، فيصل العلماء، ويعطيهم، وكنا لا نقدر على ذلك[4].
هذا وجه من وجوه تفضيل ابن المبارك -رحمه الله- على غيره.
وفي مواقف أخرى ذكرها بعضهم يقول: لما نظرت إليه، قلت: بماذا كان هذا أفضل من الناس، وطار ذكره في الآفاق؟، يقول: فانطفأ السراج، فلما أضيء، وإذا بدموعه تتحادر على لحيته، يعني: تذكر ظلمة القبر، يعني: كان من أهل الخشية لله .
وكان علي بن عاصم التميمي من ذوي الأموال والاتساع في الدنيا، ولم يزل ينفق في طلب العلم، ويوسع على أهله[5].
وكان حسين بن الوليد القرشي يطعم أصحاب الحديث الفالوذج، ويصلهم، وكان محتشماً متلوماً، جواداً فقيهاً كبير الشأن[6].
وهكذا كان أحمد بن عمار، وزير المعتصم، يتصدق في كل يوم بمائة دينار، فكُلم في كثرة ذلك قيل له: هذا كثير، فقال: هو من فضل غلتي، ومن رزقي[7].
يعني: أنا ما أعطيتهم من بيت المال، وإنما هذا من مالي الخاص، من فضل غلتي، ومن رزقي، الرزق يعني: مثل الراتب الذي يُعطَى لكل إنسان، مقدار معين.
وكان النسائي صاحب السنن فيه نضارة في الوجه مع كبر السن، وهذه النضارة لا تستغرب؛ لأن أهل الحديث، وأهل السنة فيهم من الإشراق والبهاء مالا يقادر قدره، بخلاف وجوه أهل البدع والفجور، وما إلى ذلك فإن وجوههم مظلمة.
وقد ذكرت في بعض المناسبات خبر الجاحظ، جاءت امرأة إلى الصائغ وقالت: أريد أن تنقش على هذا الخاتم صورة شيطان، فقال لها: ما رأيت الشيطان قط، فذهبت، ثم رأت الجاحظ، ثم أخذت بيده وجاءت به إلى الصائغ، وقالت: مثل هذا، ثم انطلقت، فقال: ماذا؟، قال: إن هذه المرأة جاءت إليّ، وقالت: أريد أن تنقش على هذا الخاتم صورة شيطان، فقلت: لم أرَ الشيطان، فجاءت بك، وقالت: مثل هذا، فوجوه أهل البدع كالحة مظلمة، نسأل الله العافية.
فالشاهد أن النسائي -رحمه الله- كان فيه نضارة في الوجه، مع كبر السن، وكان يؤثر لباس البرود النوبية -يعني: من بلاد النوبة، والخُضر، ويكثر الاستمتاع، يعني: الزواج تزوج كثيراً، له أربع زوجات، فكان يقسم لهن، ولا يخلو مع ذلك من سُرِّية، يعني: من أمة، وكان يكثر أكل الديوك، وأكل الديوك عندهم يعين على الباءة، تُشترى له، وتسمن[8]. وهو إمام في السنة.
نحن نورد هذه القضايا، ونورد نماذج قبل ذلك في أبواب سابقة من التقشف والزهد والتقلل من الدنيا، فإن هذا مع هذا يجعل الإنسان يكون في حال من الاعتدال في الأمور كلها، وهذا هو المطلوب أن الإنسان لا يتوسع في الدنيا، وفي مباهجها، ويتشبث بها ويتعلق، ويطلبها من حلها ومن غيره، وأيضاً لا يضيق على أهله ويقتر على نفسه، ويترك الطيبات، فقد كان النبي ﷺ يحب الحلوى، ويتمتع بالطيبات، ويتزوج النساء، وإذا وجد شيئا أكله، وإذا لم يجد لم تطلبه نفسه ﷺ، فالاعتدال في الأمور مطلوب لاسيما حينما يتصل الأمر بغيره، أحياناً الإنسان قد يتقشف في خاصة نفسه، فيسافر مع مجموعة من الناس فما الذي يحصل؟ الذي يحصل أنه يريد أن يحملهم على نفس طريقته، يقول لهم: أنا أكلي دائماً في البيت ما آكل إلا قطعة خبز، وشيء أشربه معها ماء أو شاهي أو نحو ذلك، وتبقون على هذا الوضع، ما هو معقول هذا الكلام.
كذلك أيضاً حينما يكون الإنسان مع أهله، قد يكون هو يؤثر الزهد، لكن هؤلاء قد لا يتحملون، وهؤلاء الأولاد قد يتطلعون إلى زملائهم، ويخالطون الآخرين، فقد يسبب لهم هذا شيئًا من الشعور بالبؤس، أو لربما الانحراف، أو التشبع بما لم يعطَ، أو لربما السرقة، أو غير ذلك.
فالإنسان يعتدل في أموره كلها، ويلاحظ أهل زمانه، وما يناسب في ذلك الحال، فقد تكون بعض الأشياء هي من التوسع في زمن مضى، وفي زمننا هذا من الاعتدال، وهكذا.
قيل: لم يُرَ أغزر دمعة من سعيد بن الحداد، وكان قد صحب النُّساك، وكان مقلاً حتى مات أخ له بصقلية، فورث منه أربعمائة دينار، فبنى منها داره بمائتي دينار واكتسى منها بخمسين دينارًا، وكان كريماً حليماً[9].
بمعنى: أنه لما وجد توسع، لكن الشيء الذي لا يحسن أن تتحول حياة الإنسان الذي كان يؤثر الزهد إلى شيء من التوسع، والبذخ، والاشتغال بالدنيا، فهذا أمر لا يحسن، ولا يجمل، لكن يمكن للإنسان أن يوسع على نفسه وأهله، لكن بالحد المعقول، والشرع لا يمنع أبداً أن يكون ثوب الإنسان حسنًا، ونعله حسنًا، والنبي ﷺ سئل عن هذا فقال: إن الله جميل يحب الجمال[10].
لكن لا يتعلق القلب بهذه الأمور، ولا تكون نهاية المبتغى والمطلب عند الإنسان، وإنما إن حصل ذلك فهو في يده، ولكن قلبه يخلو منه هذا تماماً، وإنما القلب يتعلق بمعالي الأمور، وكما قال أبو عبد الله القرطبي -رحمه الله- صاحب التفسير: تبًّا لهمة تترفع بنعل حسن، أو مركب، أو ثوب جميل.
نعم همة الإنسان أعلى من ذلك.
نكون بهذا ختمنا الباب، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/ 321).
- سير أعلام النبلاء (8/ 387).
- المصدر السابق (8/ 409).
- المصدر السابق (8/ 410).
- المصدر السابق (9/ 251).
- المصدر السابق.
- المصدر السابق (11/ 165).
- المصدر السابق (14/ 128).
- المصدر السابق (14/ 214).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه (1/ 93)، رقم: (91).