الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
باب ذكر الموت، وقصر الأمل
الموت معروف، وأما الأمل فهو ما يرجيه الإنسان، وغالبًا ما يقال ذلك لترجية البقاء في هذه الحياة، وطول العمر، يقول الله -تبارك وتعالى-: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185] كل نفس ذائقة الموت (كل) هذه هي أقوى صيغ العموم، فكل إنسان سيموت لا محالة، وهي حقيقة مدركة، يقطع بها الإنسان، وهو يشاهد الناس من حوله ينتقلون إلى الدار الآخرة، ولكن طول الأمل، وغلبة الغفلة، هي التي تجعل الإنسان بمنأى عن الاستعداد لهذا الموت، وهذا الانتقال.
وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فهذه الدار هي دار عمل، والآخرة هي دار الجزاء والحساب.
فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ زحزح عن النار أي: أبعد عنها، وأدخل الجنة، فقد فاز، وكأن هذا بيان لما قبله؛ لأنه ليس هناك دار ثالثة، إما الجنة، وإما النار، فمن زحزح عن النار فإنه يصير إلى الجنة، ومن نجا من النار صار إلى الجنة.
وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وهذا هو الفوز العظيم، والفوز الأكبر الذي ليس بعده فوز، والخسارة هي أن يدخل الإنسان النار، كما قال الله : قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:15].
قال: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ يعني: المتاع الذي يُغر به من استامه، فيبرز له بصورة حسنة تستهوي النفوس، وتميل إليها وتنجذب، ولكنه ليس بذاك، فمثل هذا المتاع الذي يغر الإنسان، ويزين له، ويعرض بصورة جذابة، ولكنه في حقيقته ليس كذلك، فالحياة الدنيا هي كذلك، هي متاع الغرور، فلذاتها آنية، وهي فانية، ولو نظر الإنسان لجميع اللذات الحاصلة فيها من لذة المطعم، ولذة النكاح، وغير ذلك من اللذات التي يعافسها الإنسان فإنها آنية في وقتها، ثم بعد ذلك تتصرم، ولا يجد منها شيئًا، وإذا أراد الإنسان أن يعرف هذا، فليتذكر ما مضى من جميع لذاته، فإنه لا يجد منها في ساعته شيئًا.
وهكذا أيضًا ما فيها من البهجة والنضارة والحسن، فإن ذلك جميعًا يزول، سواء كان ذلك في الأشخاص، أو كان ذلك في الدور، أو كان ذلك في غيرها من اللباس والأثاث، ونحو ذلك، فيغتر الإنسان به حينًا، فينجذب إلى هذا النوع من "الموديل" الجديد من السيارات، أو من هذا البناء الجديد، والقصر المشيد، ونحو ذلك، ثم عما قريب تألفه نفسه، فلا يكون له تلك الجاذبية؛ وذلك المنظر الذي يستهوي الناظرين، ثم بعد ذلك يتقادم، حتى تزهد به وتعافه النفوس، وهذا شيء نشاهده، ويتكرر صباح ومساء، إلا أن الغفلة غالبة، وإذا كان الأمر كذلك فهي إذًا لا تستحق أن تجعل هذه الحياة الدنيا غاية المطالب، وأن يشتغل الناس فيها عن الدار الآخرة، وأن تكون هي قصارى الهم، ويتعلق القلب بها، وما أشبه ذلك، فإنها لا تستحق هذا.
ثم قال الله -تبارك وتعالى-: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34] بمعنى هذا الباب، باب ذكر الموت، وقصر الأمل، فالله يخبر عن حال الإنسان، وما غيب عنه من أنه لا يدري ماذا سيحصل له في غده؟ والغد يطلق على اليوم الذي يأتي بعد ليلتك، كما أنه يطلق على المستقبل؛ لأن كل ما هو آت فهو قريب، فهو بمنزلة الغد.
يقول: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا (نفس) هنا نكرة في سياق النفي، فهي للعموم، فلا أحد يعلم ماذا سيحصل له؟ وماذا سيجري له في الغد؟
وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ لا يدري الإنسان في أي مكان سيوافي؟ ولا يدري ماذا سيحصل له؟ فقد يموت، ولا يدري في أي مكان يموت؛ ولهذا فإن الإنسان ينبغي أن لا يطول أمله في هذه الحياة الدنيا، فإن ذلك يجعله يتعلق بأهداب هذه الحياة، ويشتغل بها، وقد تكون وفاته في ساعته، أو في ليلته، أو في غده، كما نشاهد، فكم من إنسان قد عَمَرَ دارًا، وما سكنها، أو عقد على امرأة وما دخل بها، إلى غير ذلك مما تعرفون؛ ولهذا يقول أهل العلم: بأن طول الأمل مذموم، وبعضهم استثنى العلماء، قالوا: فإن العالم لو لم يطل أمله لم يصنف، ولم يؤلف، وهذا ليس على إطلاقه أيضًا، فينبغي أن يقيد هذا فيما إذا كان ذلك فيما ينفع به العبد نفسه وإخوانه، أما إذا كان طويل الأمل بمعنى أنه يشتغل بالدنيا وعمارتها، ونحو ذلك، ويكون ذلك سببًا للانصراف عن الآخرة، فإن هذا أيضًا لا فرق بين العالم وغيره، بل إن العالم أسوأ حالاً؛ لأنه قد عرف ما لم يعرفه الآخرون.
ثم قال: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34] بمعنى: أن الموت حتم لازم قد وقته الله بميقات لا يتعداه، ومهما يحصل للإنسان من الأسباب، ومهما يعتوره من الأخطار، ويعرض له من الأمور التي قد يلقى الكثيرون بها حتوفهم، فإنه إن لم يكن الأجل قد حضر، فإن الإنسان سيبقى حتى تأتيه ساعته، ونحن نشاهد الناس يركبون في سيارة واحدة، ويجري عليهم ما يجري من اصطدام، أو انقلاب، أو غير ذلك، ويبقى الذي كتب له البقاء ينجو، والبقية يموتون، وفي نفس المكان، وفي نفس الحادث، وفي نفس هذه السيارة، بل حدثني من سقط عليهم دار وبجانبه رجل آخر ليس بينهما شيء، وهذا نجا لم يمس بشيء إطلاقًا، والآخر مات وهو بجانبه، فهذه أمور الله -تبارك وتعالى- قدرها بين العباد، ومثل هذا يبعث الإنسان على التوكل على الله، والثقة بما عنده، والإقدام.
يقول: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34] وهذا يريح العبد أيضًا من الاشتغال بما يظنه كثير من الناس أنه يطول العمر، سواء كان ذلك من مواضع يسكنها الإنسان، أو من أمور يأكلها، فإن ذلك لا علاقة له بطول العمر، والأجل محدد، وقد كتب الله للإنسان العمر، وقدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكذلك يبعث إليه الملك وهو في بطن أمه فيؤمر بأربع كلمات، كما هو معروف، ومنها: الأجل، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [المنافقون:9] خص الأموال والأولاد لأنها غالب ما يشتغل به الناس، المال والبنون زينة الحياة الدنيا، ولو اشتغل الإنسان بغير ذلك، كالزوجات، فهذا لا شك أنه مذموم، ومنهي عنه.
قال: عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وذكره -تبارك وتعالى- يشمل الأنواع المعروفة من الذكر، ذكره باللسان، وذكره بالقلب، باستحضار عظمته، والتوكل عليه، ومحبته والرغبة بما عنده، والخوف منه، ورجاؤه، إلى غير ذلك، وكذلك أيضًا يشمل ذكره بالجوارح بالعمل بطاعته.
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9] كأنه لا خاسر إلا هؤلاء، فجاء باسم الإشارة للبعيد، وفصل بين طرفي الكلام بضمير الفصل، وهو هنا (هم) فكأن ذلك يشعر بالحصر.
وقال: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ [المنافقون:10] أنفقوا مما رزقناكم فهذا مما أعطاه الله للإنسان كالعارية بيده، ثم الله يأمره بالإنفاق منه، ومثل هذا الأسلوب لا شك أنه يبعث النفوس على العطاء والبذل مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ يعني كأنه يقول: أنا لا أريد مدة طويلة أتلذذ وأتنعم فيها، وآكل من الطيبات، وأسيح في الأرض، وإنما أريد وقتًا يسيرًا من أجل العمل الصالح والتصدق، لا من أجل اللهو في الحياة الدنيا، والاشتغال بها، وبما أن الفرصة لا زالت ممكنة، فينبغي للإنسان أن يقبل على ذلك.
قال: وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ يعني: يكون الإنسان تقيًا صالحًا.
فهذا يطلب الرجعة، وابن عباس -رضي الله عنهما- جاء عنه: أنه ما من أحد يجب عليه نفقة زكاة، أو نحو ذلك، ثم بعد ذلك يفرط إلا وندم عند الموت، فقيل له: اتق الله يا ابن عباس، فإنه لا يتمنى الرجعة أحد له عند الله نصيب، فقرأ عليهم هذه الآية[1].
ثم قال الله : وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:11].
والله المستعان.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.تأت
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (23/411).