الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمن الآثار المنقولة عن السلف في شدة تورعهم ما جاء عن البخاري -رحمه الله- أنه ركب يوماً مع بعض أصحابه إلى الرمي، كان البخاري -رحمه الله- رامياً لا يكاد يخطئ الهدف، فجعلوا يرمون، وأصاب سهمه وتد القنطرة الذي على نهر هناك، فانشق الوتد، فلما رآه أبو عبد الله نزل عن دابته، فأخرج السهم من الوتد وترك الرمي، وقال لأصحابه: ارجعوا، فرجعوا إلى المنزل، فقال لمحمد بن أبي حاتم وكان من جملة أصحابه الذين خرجوا معه: يا أبا جعفر لي إليك حاجة تقضيها؟ يقول: فقلت: نعم، أمرك طاعة، فجعل يتنفس الصعداء وقال لمن معه: اذهبوا مع أبي جعفر حتى تعينوه على ما سألته.
فقال له أبو جعفر: أية حاجة هي؟ قال: تضمن قضاءها؟ فقلت: نعم، على الرأس والعين، قال: ينبغي أن تصير إلى صاحب القنطرة فتقول له: إنا قد أخللنا بالوتد فنحب أن تأذن لنا في إقامة بدله، نصنع لك واحدًا جديدًا بدل هذا، أو تأخذ ثمنه، وتجعلنا في حل مما كان منا، وكان صاحب القنطرة حميد بن الأخضر.
فقال لما ذكروا له هذا الكلام: أبلغ أبا عبد الله السلام -يعني البخاري، وقل له: أنت في حل مما كان منك، وجميع ملكي لك الفداء، وإن قلتُ نفسي أكون قد كذبت، غير أني لم أكن أحب أن تحتشمني في وتد أو في ملكي، يقول: فأبلغته رسالته فتهلل وجهه واستنار، وأظهر سروراً، وقرأ في ذلك اليوم على الغرباء نحواً من خمسمائة حديث، وتصدق بثلاثمائة درهم[1].
وتد انشق بغير قصد، ومع ذلك ركبه هذا الغم، وأرسل هذا ليكلم صاحبه في أن يعطيه ثمنه أو يصلح له آخر مكانه.
فأقول: أين هذا من كثير من الممارسات؟ الإنسان لربما يصطدم بشيء من الأملاك العامة، أو الخاصة، ثم يذهب ويترك ذلك.
ولربما صدم سيارة آخر وهي موقفة، أو غير موقفة، ثم ذهب وتركها، بل لربما صدم أحداً من الناس فمات أو كاد ثم ذهب وتركه، فكل ذلك من نقص الورع الواجب، أملاك الناس محترمة، والأصل فيها المشاحة، ومن تعدى على شيء منها فإنه سيدفع ثمن ذلك ما لم يتحلل في الدنيا.
وقال البخاري -رحمه الله- لرجل يقال له أو يكنى بأبي معشر الضرير، قال له البخاري: اجعلني في حل يا أبا معشر، قال: من أي شيء؟ قال: رويتُ يوماً حديثاً فنظرتُ إليك.
يعني: البخاري يحدث بحديث فنظر إلى هذا الضرير، يقول: وقد أعجبتَ به، هذا الضرير الآن يستمع بمجلس التحديث -حديث البخاري- فأُعجب به، هذا الأعمى أعجب بالحديث، يقول: وأنت تحرك رأسك ويدك، يعني: كأنه يقول: ما شاء الله، أُعجب بالحديث.
يقول البخاري: فتبسمتُ من ذلك.
يعتقد أن هذه إساءة، وأنها تحتاج أن يتحلل، مجرد تبسم، يقول: اجعلني في حل.
كيف بالوقيعة في الأعراض صراحة؟
فقال له: أنت في حل -رحمك الله- يا أبا عبد الله[2].
ولهذا كان البخاري -رحمه الله- يقول: أرجو ألا يحاسبني الله أني اغتبت أحدا[3]، وكان يقول: ما اغتبت إنساناً منذ بلغت.
وهذا الإمام أحمد دخل على والد البخاري هذا، سمعتم خبر البخاري في الورع؟
اسمعوا خبر والد البخاري، دخل عليه الإمام أحمد عند موته، فقال هذا، يعني إسماعيل والد البخاري قال: لا أعلم من مالي درهماً من حرام، ولا درهماً من شبهة، يقول أحمد: فتصاغرتْ إليّ نفسي عند ذلك، يقول: يعني: احتقرت نفسي عنده، ثم قال أبو عبد الله -يعني الإمام أحمد: أصدق ما يكون الرجل عند الموت.
يعني حينما يقول مثل هذا الكلام في حال النزع فإنه لا يقول إلا الصدق.
واكترى البخاري -رحمه الله- مرة منزلاً فبقي فيه طويلاً، فقال مرة لأحد أصحابه: لم أمسح ذَكري بالحائط، يعني: الاستجمار، هذه إحدى طرق الاستجمار، أن يمسح ذكره بالجدار، جدران الطين هذه أو في الأرض، يقول: لم أمسح ذكري بالحائط، ولا بالأرض في ذلك المنزل، فقيل له: لم؟ قال: لأن المنزل لغيري[4].
مع أن هذا الفعل ماذا سيؤثر في بيت طين.
وقال لأحد أصحابه أو لخادمه: بلغني أن نخّاساً، والنخاس هو الذي يبيع البشر الذي يبيع الرقيق، والسوق التي يباع فيها الرقيق يقال لها: سوق النخاسين.
البخاري يقول: بلغني أن نخاساً قدم بجوارٍ، جلب جواريَ، فكانوا يأخذونها في الغزو وتباع هذه الجواري في الأسواق.
بلغني أن نخاساً قدم بجوارٍ فتصير معي؟، يعني تروح معي؟
يقول: فقلت: نعم، يقول: فصرنا إليهن، فأخرجَ جواريَ حساناً صباحاً، جميلات، ثم أخرج من خلالهن جارية خَزَرية دميمة عليها شحم -بدينة يعني ودميمة غير جميلة- فنظر إليها البخاري فمس ذقنها، واضح؟ هو يريد أن يشتري، فمس ذقنها، فقال: اشتر هذه لنا منه، هذه الدميمة التي من بينهن، يقول: فقلت: هذه دميمة قبيحة لا تصلح، واللاتي نظرنا إليهن يمكن شراؤهن بثمن هذه، القيمة واحدة لماذا نشتري هذه القبيحة؟ فقال: اشتر هذه فإني مسست ذقنها، ولا أحب أن أمس جارية، ثم لا أشتريها، فاشتراها بغلاء خمسمائة درهم على ما قال أهل الخبرة، يقولون: هذه طلعت عليكم أغلى من سعرها الذي تستحقه بخمسمائة درهم، ثم لم تزل عنده حتى أخرجها معه إلى نيسابور[5].
لأجل أنه مس ذقنها، مع أنهم في سوق الجواري الناس يفعلون أكثر من هذا.
وهذا أحدهم حمل إلى البخاري -رحمه الله- بضاعة أنفذها إليه ابنه أحمد، فاجتمع بعض التجار إليه، جاءوا للبخاري، فطلبوها بربح خمسة آلاف درهم، فقال: انصرفوا الليلة، يعني ما قرر، سيفكر، فجاءه من الغد تجار آخرون فطلبوا منه البضاعة بربح عشرة آلاف، فقال: إني نويت بيعها للذين أتوا البارحة[6].
البخاري -رحمه الله- لم يقرر، ولم يرد عليهم إنما سينظر، ومع ذلك قال: نويت، ونيته التي في قلبه لا يحاسب عليها، نويت أن أبيعها، فوقف عند هذا، مع أن أولئك أضعفوا له بالربح، هؤلاء خمسة آلاف، وهؤلاء سيعطونه عشرة آلاف، وفرق كبير.
واليوم تجد الرجل لربما يبيع للآخر سيارة، ثم يأتيه من يُندِّمه، ويقول له: كيف بعتها له بستين ألفًا، أنا أشتريها منك بتسعين، فيذهب ويقول للثاني: أبداً، أنا لا أريد أن أبيع، مع أن البيع وقع، يقول: لا، أنا ما قبضت الثمن، حتى لو ما قبضت الثمن ما دام أنه حصل الإيجاب والقبول أو ما في معناه، وحصل التفرق في المجلس فقد وقع البيع، وترى من هذا أشياء كثيرة، كل ذلك من قلة الورع.
وهذا الحافظ ابن عقدة سقطت منه دنانير، فجاء بنخّال ليطلبها، فوجدها، يقول: ثم فكرت فقلت: ليس في الدنيا غير دنانيرك؟، فقال للنخال: هي في ذمتك[7].
يقول: ذهبت وتركته، يقول: أنا لا شأن لي بها، ما أدري لمن هذه، أنت يا نخال تصرف عرِّفها.
ولهذا كان بعضهم لربما سقط منه في المسجد دينار فرجع يطلبه، ثم بعد ذلك خشي أن يكون قد سقط من آخر وتركه.
وعند الصراف يسقط من سفيان -رحمه الله- دينار فيبحث ويطلبه، ويجد معه آخر، فلا يدري، كانت الدنانير متفاوتة، فلا يدري أي الدينارين له فتركه.
الشاهد هذا ابن عقدة كان يؤدب ابن هشام الخزاز، فلما صار الصبي حاذقاً وتعلم وجه إليه أبوه بدنانير صالحة فردها، فظن ابن هشام أنه يعني كأنه تقالّ هذه الدنانير، أن المعلم هذا ما أعجبه ما دفع إليه كأنه قليل، جيد؟ فأعطاه الضعف، فقال له ابن عقدة: ما رددتها استقلالاً، ولكن سألني الصبي أن أعلمه القرآن فاختلط تعليم النحو بتعليم القرآن، ولا أستحل أن آخذ منه شيئاً ولو دفع إليّ الدنيا[8].
هو كان يعلمه النحو، فالصبي من عند نفسه قال: علمني بالطريق مرة واحدة، أقرئني، فصار يُقرئه، قال: فاختلط تعليم القرآن بتعليم النحو، ولا أستحل أن آخذ منه شيئاً ولو دفع إليّ الدنيا، ما دام دخل القرآن.
أين الذي يشترط على الناس وهو يعلم القرآن؟، كل شيء بتسعيرة، الختمة بتسعيرة، والوجه بتسعيرة، والسبع بتسعيرة، والعشر بتسعيرة، والإجازة بتسعيرة، أين هذا من شدة تورع هؤلاء عن مثل هذا؟!.
ولو احتج محتج بأنه يقضي وقته وما شابه ذلك، هذا إنما يراد به ما عند الله -تبارك وتعالى، لا يطلب به الدنيا ولا يشترط، أمّا ما جاء الإنسانَ من غير استشراف فلا بأس، ولربما بعضهم يفعل، لا يطلب، ولا يشترط ولكنه يجعل هذا الذي يدرس عنده كالخادم بل كالمملوك، يقرأ عليه ختمة في السبع مثلاً، ويحتاج إلى سنتين أو أكثر، هو خادم ومملوك وسائق يذهب به كل يوم من الصباح ويرجع له الظهر إلى العمل، وكل يوم يذهب به حيث شاء في المساء، وإذا أراد النزهة يذهب به إلى حديقة هو وزوجته، وإذا أراد السوق يذهب به ويحمل لهم الأغراض، وعمل طويل لمدة سنتين حتى تخرج الروح مع هذه الإجازة.
فهذا مذموم، هذا غير جيد، الإنسان يريد ما عند الله ، لا يبتغي بالقرآن شيئاً من عرض الدنيا، إنما يراد به ما عند الله ، وهذه الأمور ينبغي أن تبذل للناس مجاناً لوجه الله، ختمة مجاناً، إجازة مجاناً، إقراء مجاناً، فإن أُعطي الإنسان من غير استشراف فلا بأس، أمّا أن يشترط ويقول: لا، كم تدفع؟ الوجه بكذا، أو الختمة بكذا، تقرأ من الطريق الفلاني، كل طريق نحسبه عليك بكذا، فهذا بيع وشراء ما يجوز، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- سير أعلام النبلاء (12/ 444).
- المصدر السابق.
- المصدر السابق (12/ 441).
- المصدر السابق (12/ 447).
- المصدر السابق.
- المصدر السابق.
- المصدر السابق (15/ 344).
- المصدر السابق.