الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب (استحباب العزلة عند فساد الناس والزمان، أو الخوف من فتنة في الدين، ووقوع في حرام وشبهات ونحوها).
العُزلة تعني أن الإنسان ينكفئ على نفسه وينأى بها عن الناس وعن الاجتماع بهم حتى فيما يتصل بمحاولات الإصلاح والدعوة إلى الله -تبارك وتعالى، فيترك خلطتهم مطلقاً، هذا معنى العزلة، يعتزل يشتغل بنفسه، إما أن يبقى في بيته، وإما أن يذهب في مكان بعيد في جبل، أو في صحراء، أو في غابة، يتخذ غنماً أو إبلاً، كما جاء في بعض الأحاديث: يُوشكُ أن يكون خير مال المسلم في آخر الزمان غنم يتبع بها شعف الجبال[1]، والأحاديث الواردة في هذا معروفة، ويوجد ما يقابلها كقوله ﷺ: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير ممن لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم[2]، فهذه الأحاديث تُجمع، وينزل كل حديث على ما يصلح ويليق بحيث إنه يفهم مقصود الشارع من هذه الأحاديث، فالعُزلة عند فساد الناس والزمان المقصود به الفساد العام المطلق، بحيث إن الشرَّ يكون هو المستحكم، والفساد هو الحكم العام، والأمر السائد في المجتمع، فيبقى المؤمن غريبًا شاذًّا منبوذًا، فمثل هذه الحالة لم توجد بعدُ، الكلام على فساد الناس والزمان هذا يكون في آخر الزمان، ولم يحصل بعدُ ذلك.
والنبي ﷺ أخبر أنه في آخر الزمان يوجد من لا يعرف من الإسلام إلا كلمة لا إله إلا الله[3]، يقولون: أدركنا عليها آباءنا، لا يعرفون صياماً ولا صلاة، بل أخبر أن الساعة تقوم على شرار الناس، وأنهم يتسافدون في الطرقات كما تتسافد الحمر[4].
يعني يقع الرجل على المرأة في الطريق، فهذا المقصود بفساد الناس، وفساد الزمان، وفي عصرنا هذا الخيرُ كثير، ورواد المساجد كثير، والذين يبتغون ما عند الله كثير في أقطار الدنيا، حتى إذا شرّق الإنسان وغرب في البلاد التي لا تدين بالإسلام أصلاً مما يسمى بالأقليات يجد طوائف من المسلمين إذا عاش في أكنافهم فكأنما هو بين أهله، رغبةٌ وحرص في الخير، ودعوة إلى الله ، وبذل، وهذا شيء مشاهد.
فأقول: طالما أن هناك من يقبل الخير والمعروف فيقال: إن مخالطة الناس والصبر على أذاهم خير من الاعتزال، إلا إذا خاف الإنسان على نفسه عندئذ، كأن كان في مجتمعٍ الغالب عليه الشهوات، والفتن، وما إلى ذلك، وليس عنده بضاعة يستطيع أن يقدمها لهؤلاء؛ لضعفه وجهله، لضعف نفسه لا يستطيع أن يقاوم الشهوات والمغريات، فقد يكون الحكم بالنسبة لهذا المعين أن العزلة في حقه أفضل، لكن ذلك لا يُعم، فلا يقال: العزلة أفضل بإطلاق.
أو الخوف من فتنة في الدين، ووقوع في حرام وشبهات ونحوها، الخوف من فتنة في الدين هذا متى؟ هذا يحصل في فترات، قد يكون في بلد معين، في وقت معين، لما وقعت الفتنة بين الصحابة علي ومعاوية ومن معهم اعتزل جماعة من الصحابة الكبار، فسعد بن أبي وقاص بقي في إبله، وهو فاتح كبير، وقائد القادسية، وأول من رمى سهماً في سبيل الله، ومن السابقين الأولين، والمقداد كذلك، وهكذا سلمة بن الأكوع ذهب إلى خارج المدينة إلى الربذة، وأبو ذر أقام في الربذة قبل ذلك، ومن الصحابة من اعتزل الفتنة وبقي في بيته كعبد الله بن عمر بن الخطاب وجماعة، فقد توجد فتنة في وقت أو في مكان فالناس إزاء ذلك على أقسام، ليسوا على مرتبة واحدة، من الناس من يكون له أثر إيجابي وله قبول، ويستطيع أن يقمع الفتنة، الناس بحاجة إليه وإلى تعليمه وإلى معرفة دين الله وما إلى ذلك وله تأثير، فهنا الخلطة خير له، ومن الناس من لا أثر له ولا قبول، لا أثر ولا قبول ويتخوف على نفسه فالعزلة خير له.
ومن الناس من يكون له أثر ولكنه قد يُحمل على الدخول في الفتنة خاصة الحروب التي تقع ونحو ذلك، قد يُلزَم، وفي عهد الصحابة كانت توجد ضغوطات، في أواخر عهد الصحابة في بعض ما وقع للمشاركة، وإذا كان يخشى أن يُقحم في الفتنة فإن العزلة قد تكون هي المتعينة والواجبة عليه، لكن من لا يخشى أن تنزلق قدمه وله نفعٌ والناس بحاجة إليه فالخلطة أفضل في حقه.
وهكذا من لم يميز الحق في الفتنة التبس عليه الأمر، كما حصل هذا من بعض التابعين، أبو العالية الرياحي من خيار التابعين، خرج في القتال الذي بين علي ومعاوية ، يقول: فنظرت إلى الصفين فإذا بطرف الصف لا يُرى من طول الصف، جيوش ضخمة، يقول: ونظرت إلى الصف الثاني الجيش المقابل وإذا بطرف الصف لا يُرى، يقول: فإذا كبر هؤلاء كبر أولئك، وإذا هلل هؤلاء هلل هؤلاء، يقول: فنظرت إلى الصفين فقلت: هؤلاء يكبرون وهؤلاء يكبرون، وهؤلاء يهللون وهؤلاء يهللون، فأيهما على الحق؟ ومن الكافر؟، يريد أن يقاتل الكفار، يقول: فرجعت من ساعتي، لم يشارك، وبعض من طلب منهم علي المشاركة قال: "لو كنتَ في فك الأسد لدخلت معك، ولكن هذا أمر عهد فيه النبي ﷺ إليّ"، والنبي ﷺ قال: ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، ومن وجد فيها ملجأ فليعذ به[5]، وعهد إلى الصحابة أن يتخذ سيفاً من خشب، فإذا كان الإنسان لم يتبين له المحق من المبطل في الفتنة فإنه يجب عليه أن يعتزل، وهذه عزلة مؤقتة يعني ليست لفساد الزمان وإنما لفتنة وقعت بمكان معين، أو في وقت معين، لكن الذين يكونون بعيدين عنها لا شأن لهم، فإذا كان الإنسان لا يميز الأمور فعند ذلك يجب أن يعتزل الفتنة، لكن هذه العزلة قد لا تكون عزلة عن المجتمع بكامله، وإنما هي عزلة عن الفتنة فقط، فإذا كان لا يمكن الاعتزال عن الفتنة إلا باعتزال المجتمع فعندئذٍ يعتزل المجتمع، وهذا بحسب الشخص، ابن عمر كان أناس يأتون إليه يقولون: الله قال: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ... [البقرة:193] قال: قاتلنا حتى لا تكون فتنة مع رسول الله ﷺ، وتقاتلون حتى تكون فتنة[6]، وهكذا كان يجيب على أولئك الذين كانوا يأتون ويؤنبونه ويعنفونه بسبب قعوده عن المشاركة.
فمخالطة الناس، والدعوة، وتعليم الناس الخير هو المطلب الشرعي، وهو عمل الرسل -عليهم الصلاة والسلام- وعمل أتباع الرسل، ولا يمكن أن تزول الغربة في أي مكان، أو في أي زمان إلا بجهود تبذل من قبل الخيرين والصالحين، فيكثر الخير ويتنامى، يبدأ بواحد ثم ينتشر، كبزوغ الفجر، ثم بعد ذلك يكون إلى حال الظهيرة، ولكن أصحاب المشاعل، أصحاب النور، أصحاب السُّرج إذا أطفئوا مشاعلهم، أو انكفئوا بها على أنفسهم فمتى يرى الناس الصبح، متى يرون الضياء؟، فهنا لابد من مخالطة الناس، لابد من دعوة، لابد من خير، وإن كان يصادف الإنسان شيء من ذلك المنكر مما لابد من المرور عليه أو رؤيته أو نحو ذلك في الطريق، هذا أمر لابد منه.
والأحاديث يأتي الكلام عليها -إن شاء الله تعالى، ولهذا فإن الباب الذي بعده هو باب فضل الاختلاط بالناس وهذا من أحسن ما يكون في التصنيف، هذا الكتاب المبارك رُوعي فيه هذا الجانب، ولذلك كان لهذا السبب ولغيره من أنفع ما صنف في الإسلام، فأسأل الله أن يرحم مؤلفه، وأن يشملنا بعفوه ورحمته وألطافه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب من الدين الفرار من الفتن، برقم (19).
- أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، برقم (2507)، وابن ماجه، أبواب الفتن، باب الصبر على البلاء، برقم (4032)، وأحمد في المسند، برقم (5022)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين، والشك فيمن روي عنه هذا الحديث من الصحابة لا يضر، فإنهم عدول كلهم، حجاج: هو ابن محمد المصيصي الأعور، وسليمان الأعمش قد صرح بالسماع من يحيى بن وثاب عند بعض من خرج الحديث"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6651).
- أخرجه ابن حبان في صحيحه، برقم (6848)، وقال محققه شعيب الأرنؤوط: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير نوح بن حبيب، فقد روى له أبو داود والنسائي، وهو ثقة".
- أخرجه ابن حبان في صحيحه، برقم (6767)، من حديث عبد الله بن عمر -ا، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (481).
- أخرجه البخاري، كتاب الفتن، باب تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، برقم (3601)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب نزول الفتن كمواقع القطر، برقم (2886).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة:193]، برقم (4513)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله، برقم (96).